انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 702/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 702/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 35 -

الفردوس المفقود: موضوع القصيدة الكبرى

ويفتتح الكتاب الثالث بمناجاة النور مناجاة تعد من أروع ما في القصيدة من مواضع الجمال، وقد أراد الشاعر بهذه الفاتحة أن يمهد للانتقال من الجحيم والعماء إلى الجنة وما فيها من زينة وبهجة.

ثم يتحدث الشاعر عن الله وقد استوى على العرش وعلى يمنه ابنه، وقد رأى الشيطان طائراً صوب الدنيا وقد تم خلقها قريباً، ويُرى الله ابنه هذا الشيطان في رحلته وينبئه بما سيكون من نجاحه في إضلال بني آدم وغوايتهم. ويبرئ الله عدالته وحكمته من كل مظنة أو لبس فقد خلق الله الإنسان حراً قادراً تمام القدرة على أن يقاوم مضله الموسوس له؛ ومع ذلك فأن الله يكشف عما يشاء لعباده من هدى وسعادة وذلك لأن الإنسان لم يعص كالشيطان بدافع من الشر، وإنما عصى بدافع من الغواية التي لاحقه بها الشيطان حتى أذله وأخرجه مما كان فيه.

ويرفع ابن الله شكرانه على ما أظهره عليه من نية ومشيئة في إسعاد الإنسان؛ ولكن الله يعود فيعلن أن رحمته سوف لا تنال الإنسان إلا على أساس ما ينبغي للعدالة الإلهية من كمال؛ فقد أساء الإنسان إلى جلال ربه بطموحه إلى الألوهية واقتطافه الثمرة المحرمة، ولذلك قدر عليه أن يموت ولا بد أن يدركه وذريته الموت، وما له من خلود إلا أن يوجد من هو كفء لأن يسأل عن خطيئته ويكفر عنها بما يحتمل من ألم وعقاب؛ ويتقدم ابن الله طائعاً مختاراً لكي يكون هو الفداء للإنسان، ويتقبل الأب منه هذا الذي يعرضه، و فيتجسد ويتمثل بشراً سوياً ويرفعه الله مكاناً علياً؛ فهو فوق كافة الأسماء في الجنة وفي الأرض ويدعو الله الملائكة فيأمرهم أن يسجدوا له ويتعبدوا، فيفعلون طائعين ويسبحون بحمد الأب والابن وتمجديهما مرتلين نشيد الحمد جميعاً في نغمة واحدة ترددها أوتار قيثارتهم.

وفي تلك الأثناء يسقط الشيطان حتى يقترب من كوكب خارجي قصي عن هذه الكرة التي هي الدنيا، كوكب يفصل بين الأرض وبين العماء والظلمة الممتدة من الجحيم من تحته؛ وهناك يجد بعد تجواله مكاناً سوف يكون فيما بعد جنة للمغفلين ويصف الشاعر هنا من سوف يسكنون هذه الجنة فثمة من مات من الأطفال قبل تعميدهم وثمة البلهاء والبسطاء والذين ماتوا قبل أن ينزل الدين.

ويتابع الشيطان طيرانه صاعداً حتى برى على باب الجنة، وينظر الشيطان فإذا هو بالغ الروعة والبهاء والزينة، ليس كمثله بناء فيما سيخلق الإنسان في الأرض، فهو معقود من الذهب والماس ويرتفع الداخل فيه صعدا على سلم من الذهب الوهاج، وحوله أنهار من اللؤلؤ المذاب؛ ويستمر الشيطان محلقاً حتى يأتي كوكب الشمس وجد عمده حارسه أَرْيِلْ، فيتنكر ويظهر بصورة ملك من الملائكة الذين هم دون أريل في المرتبة إذ أن أريل من الملائكة المقربين، ويتوسل إلى أريل أن يدله على ذلك الإنسان الذي خلقه الله حديثاً والذي سوف يهبه دنيا جديدة واسعة يعيش فيها وينعم بها. ويقول الشيطان في ضراعة إنه ما قطع هذه الرحلة الطويلة منفرداً إلا ليطلع على بديع ما خلق الله مما سمع عنه هو ورهطه من الملائكة، وذلك لكي يزداد تمجيداً لله وتسبيحاً بحمده؛ ويستطيع الإنسان أن يخدع أريل نفسه فيشير أريل إلى مكان ما ويقول للشيطان أنظر فهذه هي الجنة حيث يقيم آدم وهذه البقعة الداكنة التي ترى هي عشه، وينطلق الشيطان بكل ما في وسعه من سرعة فما زال طائراً حتى يبلغ حيث أراه أريل.

ويبدأ الكتاب الرابع والجنة على مرأى من الشيطان، وقد أصبح على مقربة من المكان الذي يسكن فيه آدم وزوجه، والذي سوف يحاول فيه محاولته الجريئة التي عقد العزم على أن يضطلع بها وحده ضد الله وضد الإنسان؛ ولكنه قبل أن يقدم على عمله أخذت تساوره وهو على مقربة من الجنة هواجس من الشك واليأس، كما أخذت تهجس في نفسه عواطف الخوف والحسد والبغض؛ وبعد لأي ينطلق من عقال هذه الهواجس جميعاً ويصمم على الشر الذي جاء من أجله، ويسرع صوب الجنة حتى يبلغها.

وبعد أن يصف الشاعر وصفاً ممتعاً رائعاً وصف الجنة الخضراء ويتحدث عن أشجارها وثمارها ويبين أين تنبت شجرة الحياة وأين تنبت شجرة المعرفة، يرينا كيف يتسلل الشيطان فيدخل الجنة واثباً فوق أسوارها.

وفي الجنة يحيل الشيطان نفسه إلى ثعبان ويزحف حتى يستقر فوق شجرة الحياة وهي أعلى الأشجار، ويدور بعينه من فوق الشجرة ينظر ماذا يرى حوله. وهنا يتحدث الشاعر عما يرى الشيطان فيأتي بوصف آخر للجنة ويبلغ في ذلك من الروعة والقوة ما لا يتعلق بمثله وهم شاعر غيره.

وتقع عينا الشيطان على آدم وحواء فيرى أول ذكر وأول أنثى من البشر، ويتفكر الشيطان فيما هو بسبيله من إغواء، ويقارن بين ما هما فيه من نعيم وبين ما سوف يدفعهما إليه من شقاء؛ ويهبط من فوق الشجرة فيتشكل بأشكال ما تقع عليه عيناه من حيوانات حتى يقترب من آدم وحواء فيسترق السمع وهما يتحاوران ويتحدثان؛ ويعلم منهما أن الله نهاهما عن شجرة المعرفة، فأن أكلا منها أخرجهما ربهما من الجنة وكتب عليهما وعلى ذريتهما الموت. ويقع الشيطان هنا على بغيته فقد وجد سبيله إلى إضلالهما فما عليه إلا أن يغويهما بالثمرة المحرمة حتى يأكلا منها فإذا هما من الهالكين؛ ثم يدعهما الشيطان ريثما يعلم من أكثر مما علم بما سوف يعده لذلك من وسائل.

وفي ذلك الوقت ينزل أريل على شعاع من أشعة الشمس، فيحذر جبريل وهو حارس باب الجنة وينبئه أن روحا خبيثا صاعدا من العماء السفلي قد مر وقت الظهيرة بكوكبه متنكرا شكل ملك كريم، وأنه أتجه بعد ذلك صوب الجنة، وقد فطن إلى ذلك بعد ن تدبر في الأمر؛ ويجيبه جبريل بأنه سوف يبحث عنه فيأخذه قبل أن ينبلج الصبح.

وينزل الليل فيميل آدم وحواء إلى الراحة ويتحاوران في ذلك؛ ويأويان إلى عشهما في الجنة ويصليان لله صلاتهما؛ ويصف الشاعر هذا العش وهذه الصلاة وصفا رقيقا جميلا.

ويعس جبريل في الجنة على رأس فريق من الملائكة هم من عسسها، ويضع على عش آدم ملكين قويين غليظين مخافة أن ينالهما بالأذى ذلك الروح الخبيث أثناء نومهما؛ وينظر الملكان فإذا بذلك الروح يوسوس لحواء في إذنها وهي نائمة فتحلم بالذي يقول، ويأخذه الملكان فيجرانه جرا إلى جبريل، ويسأله جبريل عن فعلته، فيجيب مستكبراً مستهزئاً، ويتأهب للعنف والمقاومة، ولكنه لا يلبث أن يجد نفسه، وقد منع ذلك منعاً من السماء فيطير ويهرب من الجنة.

ويتنفس الصبح فتقص حواء على آدم ما كان في حلمها الذي شغل نفسها؛ وبهذا يفتتح الشاعر الكتاب الخامس؛ ويكره آدم هذا الحلم ويفر منه ولكنه يعمل على تهدئتها ويجتهد أن يصرف عنها ما يشغلها من وساوس.

ويقبل آدم وحواء على عملهما اليومي ويقرآن صلاتهما عند باب عشهما وينشدان نشيدهما يسبحان بحمد ربهما؛ ولكيلا يكون للإنسان على الله حجة يرسل الله روفائيل ليذكرهما بطاعته وامتثال ما نهاهما عنه، ولينذرهما أن الشيطان لهما عدو وأنه على مقربة منهما، ويبين لهما لم كان الشيطان لهما عدواً مبيناً إلى غير ذلك مما يجب أن يعلمه آدم من علم ينفعه.

ويهبط روفائيل فيدخل الجنة، ويصف الشاعر ظهوره في ربوعه؛ وتأخذه عينا آدم من بعد وهو جالس بباب عشه، فينهض للقائه ويسلم عليه ويدعوه إلى مقره، ويقدم له أطيب ما اختارته حواء من فاكهة الجنة؛ ويتحاور آدم وروفائيل حول الخوان؛ وينبئه روفائيل بما جاء من أجله ويحذره من الشيطان ويذكر له ما يضمره له ولزوجه من العداوة والبغضاء؛ ويقص عليه استجابة لطلبه من هو هذا العدو وكيف أصبح لهما عدواً، ولماذا ينطوي على العداوة قلبه مبتدئاً بما كان من تمرده في السماء على خالقه وما أعقب ذلك من غضب الله عليه وإلقائه إلى الجحيم.

وهنا يصف الشاعر على لسان روفائيل تلك المعركة التي أدارها الشيطان الأكبر على رأس قبيلة، والتي أجمل الشاعر الإشارة غليها في مفتتح القصيدة

ويستطرد روفائيل في أول الكتاب السادس ليتم كيف دارت المعركة فيصف كيف أرسل ميكال وجبريل ليحاربا الشيطان وهو ثائر متمرد على رأس جنده، وكيف وقف القتال في اليوم الأول عند نزول الليل، وكيف جمع الشيطان مجلساً من أعوانه الثائرين فابتكروا أسلحة أوقعت ميكال وجنده في شيء من الحيرة والاضطراب، وكيف استحر القتال فافتعل ميكال وجمعه الجبال وقذفوا بها الشيطان وأعوانه وزلزلوا زلزالاً شديداً وأدخلوا على قلوبهم الرعب والدهشة في اليوم الثاني؛ وكيف أصر الشيطان على الرغم من ذلك، فصاول وطاول ولج في شره وعناده حتى أرسل الله في اليوم الثالث ابنه المسيح الذي احتفظ له بالنصر وفخاره؛ وكيف سوى المسيح الملائكة صفاً وفي روحه قوة أبيه، وقذف في صفوف أعدائه بالرعد القاصف، ووثب في مركبته فدفعهم دفعاً إلى أسوار السماء؛ وكيف فتحت أبوابها. فألقى العصاة منها جماعات قد امتلأت رعباً وهوت إلى قرار سحيق أعد لها في الظلام والحمم نكالاً من الله؛ وكيف عاد المسيح بعد ذلك ظافراً إلى أبيه.

هذا هو موضوع القصيدة الكبرى أتيت على سرده كي أتستطيع بعد ذلك أن أتكلم عن فلسفة القصيدة ثم عن الشعر فيها موضحاً ماذا يرمي إليه الشاعر في هذا الموضوع مفصلاً ما أجملت من حوادث القصيدة ومواضع الوصف فيها مبيناً على قدر ما يسعه جهدي مبلغ ملتن فيها من الشاعرية مستعرضاً ما أثبته نقدت الأدب الأعلام من آراء وما عقدوه من موازنة بين هذه القصيد وبين مثيلاتها من الملاحم الطويلة.

فلسفة القصيدة الكبرى:

تدور هذه القصيدة على فكرتين أساسيتين: أولاهما هبوط الملائكة من السماء إلى الجحيم؛ وثانيتهما هبوط آدم أو الإنسان من الجنة إلى الأرض؛ والغرض من هذه القصيدة كما جاء في مقدمتها على لسان الشاعر هو أن يبرر أحكام الله ومشيئته تلقاء الإنسان.

وقبل أن نبسط القول في فلسفة القصيدة يجدر بنا أن نشير إلى أمر كان له أهميته في خلق الكثير من آراء الشاعر، وكان له أثره في توجيه ذهنه اتجاهاً خاصاً بحيث أثر ذلك في فلسفة القصيدة على العموم، وذلك أن ملتن لم يجعل من القصيدة وسيلة لعرض آرائه الدينية مجردة فحسب كما يتبادر إلى الذهن بمجرد النظر إلى موضوع قصيدته، وإنما جعل الشاعر بالإضافة إلى ذلك موضوع قصيدته في أكثر من موضع مجالاً للإشارة إلى ما في نفسه من معان تتصل بحياته الخاصة أو بحياته العامة وحياة قومه من ناحيتيها الاجتماعية والسياسية. وهذا كما ذكرنا جانب من فلسفة القصيدة، إذا أغفلناه نقصت في قيمتها كعمل فني نقصاً كبيراً، بيد أننا نؤثر أن ندع بيان ذلك حتى نعقد له فصلاً خاصاً نكشف فيه عن ملتن وحياته في الفردوس المفقود، ولنقصر همنا الآن على ما أراده من الأفكار الدينية.

ولكي نستطيع أن نتبين هذه الأفكار، يجدر بنا أولاً أن لم أختار الشاعر هذا الموضوع المستمد من الأنجيل، ونتبين الدوافع التي دفعته إلى ذلك دون غيره.

(يتبع)

الخفيف