مجلة الرسالة/العدد 702/تعقيبات. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 702/تعقيبات. . .

ملاحظات: بتاريخ: 16 - 12 - 1946



للأستاذ عباس حسان خضر

أبكار الهموم وعونها - عثرتان - زواج أم كلثوم - آه من

الأسعار.

أبكار الهموم وعونها:

كتب الأستاذ محمود محمد شاكر بعدد مضى من الرسالة في موضوع أبيات من شعر بعض الأعراب، تحدث فيها الشاعر الأعرابي عن قصته مع أميمة (حوائه) التي أنكرته إذ رأته (شاحباً مهزولاً رثاً أسوأ حالا مما عهدته)، وكان قد آب من سفره الذي دفع فيه لتحقيق أحلامها، وجعلت تسائله مساءلة المتجاهل المزدري: من أي الناس أنت، ومن تكون؟ فإني أراك في حال لا تليق براعي بل، فضلا عن محب يطمع في مثلي! فقال لها - وقد تكشفت له حقيقة حواء -: إذا كان مطلبك وغاية نفسك رونق الجسم واكتناز اللحم والشحم فعليك براعي غنم يعيش في خفض ورغد من لبنها وزبدها. . . إلى أن قال مكملاً وصف هذا الراعي:

سمين الضواحي، لم تؤرِّقه، ليلةً ... - وأنعم - أبكار الهموم وعُونُها

وقف الأستاذ شاكر عند كلمة (أبكار الهموم وعونها) فخال فيها ما لا أراه يُخال، إذ قال أن هذا الأعرابي (قد أراد أن يعلم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمرا غضاً ناضراً ناعماً لم تؤرقه هموم النفس ولم يضر به الكدح في بوادي الأحلام والآمال، فإنه غني عنها، وعن سائر نساء العالمين - وأن أمثالها لسن له بهمٍّ، وأن له من حاجات النفس وهمومها (أبكاراً) كأبكار النساء و (عوناً) كعونها)، وقال فيما يريد بالأبكار: (فإن للنفس شاعراً هموماً (أبكاراً) لم تمسسها يد ولا فكر ولا حلم) وقال فيما يقصد بالعون: (وللنفس أيضاً هموم (عون) قد أصاب الناس منها ما أصابوا ولكن بقيت منها للنفس الشاعرة بقية فاتنة بما فيها من دلال وكبرياء وقدرة على الامتناع عند الإمكان ونبل في الخضوع والتسليم عند العجز).

فهل لهذه الكلمة الفطرية (أبكار الهموم وعونها) قِبَلٌ بتحمل كل هذا؟ وهل كانت نفس ذلك الأعرابي في باديته وحياته الساذجة تنطوي حقاً على كل هذه الأحاسيس المزدحمة المعقدة. . .؟

يخيل إليُ أن الأستاذ محمود محمد شاكر قد تراءت له في هذه الكلمة أحاسيسه هو، فخالها أحاسيس الأعرابي. . . وهي أمثل به منه، فما أحسب الأعرابي يريد بأبكار الهموم وعونها أكثر من جديد الهموم وقديمها، على ن استعمال (الأبكار) في الجديد من الهم أدنى إلى المعنى الحقيقي من استعمالها في المختص منه، وكذلك استعمال (العون) في قديم الهم أليق من أخذها من مشتركة.

أما تلك الظلال التي يمد الأستاذ شاكر رواقها حول البيت فهي ظلال نفسه المترفعة الآنفة الساخرة العائشة على المثل والمعاني

وأما الشاعر البدوي فما يبغي بأميمته بديلاً، مهما تدللت وبغت عليه، فإن عاتبها أو غاضبها فإليها بعدُ الهوى نفسه، ولديها محط رحاله، وما يليق به وهو ابن الحياة الفطرية الساذجة أن يدعها ويضرب في بيداء المعاني ليتصيد منها أبكار الخيال وعونه.

عثرتان:

ليس من دأبي تتبع سقطات الأقلام في اللغة وقواعدها، ولكن يهوني أيعثر قلم من الأقلام التي يستأنس بها ويتأثرها الناشئون ومن في حكمهم من غير الدارسين. والذي نحن الآن بصدد التعقيب على جموح قلمه، هو الأستاذ ميخائيل نعيمة، وهو من أدباء المهجر الذين جروا فيميدان الأدب العربي الحديث أشواطاً بعيدة، لكنهم أحيانا يصطدمون - في عدْوهم - بأوضاع اللغة، فلا يعبئون لها!

كتب الأستاذ ميخائيل نعيمة في مجلة (الكتاب) مقالاً هنوانه (مهماز البقاءَ) جاء فيه: (فمثلما نجوع إلى أشياء وأشياء كذلك تجوع إلينا أشياء وأشياء، فنحن أبداً جائعون ومجيعون، وآكلون ومأكولون).

فهو يصوغ من الفعل (جاع) اللازم واسم المفعول دون صحبة ظرف أو جار ومجرور، على أن الصياغة نفسها غير صحيحة إذ جعل واو (مجوع) ياء، ولو تروى قليلاً لقال: () فنحن جائعون ومجوع إلينا.

تلك واحدة، والثانية في قوله بنفس المقال: (لَكم نخاطب الأموات ويخاطبونا) فقد حذف نون الرفع من الفعل المضارع المتصل بواو الجماعة المجرد من الناصب والجازم فقال: (ويخاطبونا) والصواب أن يقول (ويخاطبوننا) فهذا هو الاستعمال القياسي للأفعال الخمسة الذي يجب عليه الألسنة والأقلام، دون التفات إلى الشاذ مثل:

أبيت أسري وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذكي

زواج أم كلثوم:

نشرت الصحف أخيراً زواج أم كلثوم، وقد فوجئ الناس بهذا النبأ، وقابلوه بشيء من القلق وشيء من الارتياح! وكأنه قد استقر لديهم أن أم كلثوم - بانقطاعها لفن الغناء - قد خلصت لهم مغردة طليقة، فما ينبغي أن ينافسهم فيها منافس يستأثر بها. . .

والذي دعا إلى الارتياح أن زوجها الأستاذ محمود الشريف من رجال الفن والموسيقى، فيرجى أن لا يكون حائلاً بينها وبين المستمعين الذي تنقلهم - بصوتها الساحر - من أماكنهم إلى يث تحلق بفنها الرفيع. . .

وليت شعري هل كان أبو الفتح كشاجم يطوي الزمن فيصف (بحة أم كلثوم) إذ قال:

آه من بحة من غير انقطاع ... لفتاة موصولة الإيقاع

أتعبت صوتها وقد يُجتبى من ... تعب الصوت راحة الأسماع

وإذ قال:

أشتهي في الغناء بحة حلق ... ناعم الصوت متعب مكدود

كأنين المحب أضعفه الشو ... ق فضاهى به أنين العود

لا أحب الأوتار تعلو كما لا ... أشتهي الضرب لازماً للعود

ولعل أم كلثوم تواصل حفلاتها الشهرية التي تذيعها محطة الإذاعة، فالناس يتجاوزون للمحطة من أجلها عن كثير. . .

وبعد فإن من حق أم كلثوم التي تبعث إلى قلوبنا البهجة والغبطة - أن نفرح لفرحها ونتمنى لها أطيب التمنيات.

آه من الأسعار:

قال لي صاحبي، وقد لمحت على وجهه ما دلني على أنه ظفر بشيء عزيز المنال: أتحب أن ترى شيئاً من (السماعيُات) التي تسمع وتقرأ عنها في هذه الأيام؟ ودس يده في جيبه بعناية، فأخرج قلماً ثميناً من (ماركة) مشهورة، فتناولته من يده، وأجريته على القرطاس، فجرى ليناً، يكاد يجر اليد إلى الكتابة جرَُاً. . . بل يكاد يمتح من القريحة متحاً. . . فرددت بصري بين وجه صاحبي الظافر. . . وبين القلم الذي يقول لي: هيت لك! ثم رجع البصر إليُ خاسئاُ وهو حسير. . . وأعجلني صاحبي - سامحه الله - في رد قلمه، وهو مغتبط بالحديث عنه قائلاً:

- أتدري ما ثمن هذا القلم؟

- أعلم أنه يباع في السوق بثمن خمسة عشر جنيهاً، فمن لك به. . .؟

- أحضره فلان من أمريكا بمائتين وخمسين قرشاً!

عجباً قلم يصنعه الصانع في أمريكا، يشتري مواده، ويحليه بالذهب، ويبذل فيه بارع فنه، ثم يشتريه التاجر هناك ليبيعه بربح، فيكون الثمن بعد كل هذا مائتين وخمسين قرشاً، فإذا ما جاء إلى مصر بلد العجائب صار ثمنه خمسة عشر جنيهاً. . .! يا ضيعة المنتج والمستهلك بين أظفار التاجر!

ولقد كنا نلتمس الأسباب لغلاء المستورد من الخارج إلى مصر، ونحار لما يدعو إلى غلاء لحمها وسمنها وفومها وعدسها وبصلها. . . فإذا الحيرة تتردد بين هذا وذاك، وتجول هنا وهناك، كما يجول الكلب الشرطي، وتتشمم كما يتشمم، فتكاد تمسك بالتاجر، وأنى لها أن تنال منه وقد أنتفخ وبدا (سمين الضواحي) فلا تملك إلا أن تردد ما قال شوقي في غلاء ما بعد الحرب التي قبل الماضية:

عبادك رب قد جاعوا بمصر ... أنيلا سقت فيهم أم سرابا

حنانك واهدِ للحسنى تجاراً ... بها ملكوا المرافق والرقابا

ورقق للفقير بها قلوباً ... محجره وأكباداً صلابا

أمن أكل اليتيم له عقاب ... ومن أكل الفقير فلا عقابا؟!

أصيب من التجار بكل ضارٍ ... أشد من الزمان عليه نابا

يكاد إذا غذاه أو كساه ... ينازعه الحشاشة والإهابا

يا ولاة الأمر، إنا نستعيدكم على هؤلاء التجار، وإلا فإنا نستعدي عليكم الشعراء، فإن لم يهبوا فحسبنا أمير الشعراء، فإن لم يغنِ فحسبنا الله ونعم الوكيل.

عباس حسان خضر