مجلة الرسالة/العدد 7/قصة مصرية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 7/قصة مصرية

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1933



حكمت المحكمة!. . .

عم الأسف رجال القرية ونساءها عندما علموا بوفاة ابنة عبد الدايم المسعودي (وهو من الأعراب الذين يسكنون الخيام في أرضهم) فأما الرجال فقد أشفقوا على عبد الدايم لأنه فقدها وفقد أمها في عام واحد، فلم يبق له من بعدهما من يرعى غنمه ويعنى بشئون بيته. وأما النساء فقد ذكرن أن سلمى ماتت فجأة فلم تمرض كغيرها، وأنشأن يترحمن على شبابها وحلو ابتساماتها. . . وتدافع الأهالي وراء نعشها يشيعونها إلى مقرها الأخير. ثم أقبلوا على والدها يعزونه بكلماتهم المحفوظة وهو يرد عليهم بمثلها، فهو (عظم الله أجره) وهم (شكر الله سعيهم) ورجع الجميع إلى بلدتهم ليقيموا ليالي المأتم الثلاث وليسمعوا ما تيسر من القرآن، وعند الغروب خرج أهالي كفر المعداوي كل (بطبليته) إلى المأتم وعليها عشاؤه الممتاز استعدادا لإطعام المعزين من البلاد المجاورة، وجلسوا بعد الصلاة، وقد تنحنح المقريء إيذانا بقراءة القرآن، فأنصتوا وأطفئوا سجائرهم ثم بدأ القارئ بصوت منخفض غير مسموع تدرج به قليلا قليلا حتى أصبح يغطي على همس بعضهم بالتحية لبعض، ويخفي أحاديثهم عن الشئون الزراعية (وقد بدءوها بعد أن بدأ الفقيه بقليل) بنغمات يطرب البعض لها فيمص ويردد لفظ الجلالة اعتبارا واستحسانا. أما عبد الكريم الدايم فقد كانت تبدو على سيماه علامات التفكير العميق والحزن الدفين، ولكنه كان يتجلد للقادم فيسلم عليه ويتقبل تعزيته شاكرا.

وانقضت ليالي المأتم. . . . وتلفت عبد الدايم حوله فلم يجد إلا غنمه ونفسه فقبع في خيمته لا يزور أحدا، وإنما كان يزوره من فاته العزاء في حينه. وانتقد أهل القرية فيما بينهم إبراهيم أفندي لأنهم لم يروه في المأتم، ولكنهم علموا بسفره إلى القاهرة منذ أيام فلما عاد لحظوا أنه لم يقم بواجب التعزية لعبد الدايم، فبرموا بغطرسته واستكباره، ولكن ما حيلتهم وهو ابن العمدة!

مرت الأيام بعد ذلك سراعاً فأوشكت بفعلها أن تصرف أذهان الناس عن مصاب عبد الدايم لولا أنهم رأوا عجبا. رأوه وقد طوع للموسى أن تجذ شاربيه الطويلين وتعبث بلحيته المستعصية حتى أسفرت ذقنه بعد احتجاب طويل، مع أنهم يعرفون في الأعراب تمسكه بشواربهم ولحاهم، ولم ينسوا مبالغة عبد الدايم في هذا، فلم يبق إلا أن الحزن قد أساء إلى عقله فحسن له جنونه أن يظهر على هذه الصورة الجديدة.

وذهب الحاج عبد المطلب وهو أحد مشايخ البلد إلى (دوار) العمدة في المساء جريا على عادته فوجده جالسا في عدد من حاشيته يتحدث إليهم في السياسة عن مصطفى كمال وكيف طار وراء الإنجليز، ويعرج على الاقتصاد فيعلل لهم نزول الجنيه الإسترليني بتعليلات ما أنزل الله بها من سلطان. ولما انتهى العمدة من حديثه اتجه بنظره إلى الحاج عبد المطلب وسأله عن جديد، فأنشأ شيخ البلد يسرد له صنوفا من الأخبار ويتبسط في شرح تفاصيلها إلى أن قال وما رأيكم في عبد الدايم المسعودي؟ يظهر أن الرجل قد جن بعد وفاة ابنته، ولم يكن العمدة على علم بما جرى للحية عبد الدايم فهز رأسه من اليمين إلى اليسار هزات سريعة مستفسراً، وتسابق الجميع إلى إجابته فحدثت جلبة وضوضاء نفذ لهما صبر العمدة فوصفهم بوصف البرابرة: واحد يسمع ومائة يتكلمون، وأشاح عنهم بوجهه إلى الحاج عبد المطلب يسأله عما جرى فلما أخبره بأن عبد الدايم أصبح حليق الذقن والشارب تردد في تصديق ذلك ولكنهم أكدوا له صحة الخبر فرفع حاجبيه في عجب ودفعه حب الاستطلاع إلى أن يأمر شيخ الخفراء باستدعائه.

وجاء عبد الدايم بعد قليل فدهش العمدة عند مرآه وسأله عن سبب حلقه للحيته فأجاب ساخرا إنه رأى واحدا من أهل القرية يضحك منها فآثر أن يزيلها. وقابل أحد الجالسين سخريته بمثلها فقال: (وكيف استغنيت عنها مع أنك كنت تمسح فيها يديك بعد أكل الثريد؟) فتجهم وجه الأعرابي وجحظت عيناه وقال (لما اتسخت أزلتها) فقال العمدة (وما ذنب شاربك؟) فأجاب (صغرت في نظر نفسي فحلقته) وخرج مغيظاً محنقاً. . .

وكان بالمجلس شيخ معروف في القرية بالنباهة ودقة الملاحظة فقال للعمدة (إن لم تخني فراستي فلا بد أن أحدا اعتدى عليه اعتداءاً خطيراً أقسم بعده، كما هي عادة بعض الأعراب، ليحلقن ذقنه وشاربه تشبها بالنساء حتى يأخذ بثأره). فأخذت هذه الملاحظة مكانها من نفوس الحاضرين وصار كل منهم يعلق عليها بما يؤيدها، أما العمدة فقد همه الأمر وحسب لتهديد عبد الدايم حسابه، فهو داهية شديد البأس وتداول الأمر مع مشايخ البلد فأفهمه الشيخ عبد المطلب (وكان على جانب من العلم) أن من واجبه العمل على منع الجرائم قبل وقوعها واطمأن العمدة إلى هذا الرأي فعزم على تبليغ المركز وقام إلى التليفون واتصل بالمعاون.

وعلم المأمور بالأمر فضحك من عقلية عمدة المنشية الذي يجد في حلق رجل لحيته وشاربه خطرا على الأمن العام خصوصا وأنه كان يرى فيه من قبل سذاجة وقلة حيلة، فأمر ملاحظ البوليس أن يستدعيه ليوبخه على تصرفه ويطلب إليه أن يكون في حكمه على الحوادث أبعد نظرا وأكثر رزانة. ورجع العمدة ونفسه تفيض أسفا على تبليغ الأمر للمركز بعد ما راعته ضربات الملاحظ على المكتب، وجرحت عزته شتائمه فكان يسب مشايخ بلده الذين حسنوا له التبليغ ويخص منهم الشيخ عبد المطلب وهو المتحذلق الذي أشار إليه بالعمل على منع الجرائم قبل وقوعها. ولكنه كان يحاسب عقله فلا يجد في عمله مأخذا، ويستشير ضميره فيلقاه راضيا عن قيامه بواجب وظيفته، ثم يرجع بذاكرته إلى الماضي القريب فيذكر أنه لما قتل في قرية بجوارهم سويلم العربي حلق ابنه جويفل لحيته وشاربه حتى أخذ بثأر أبيه فأطلقهما في السجن، وهكذا اختصمت أفكاره فضاع صوابه. . . .

أسدلت يد الأيام ستار النسيان على هذا الحادث حتى جاء يوم فرفع الستار. . . . في صبيحته امتطى إبراهيم أفندي صهوة جواده يقصد السوق فعاد الجواد يعدو إلى مربطه بعد قليل وكان العمدة مطلا من شباك داره فلما رآه انخلع فؤاده لأن ذلك معناه أن سوءاً حل بولده. ونزل يجري في الطريق الموصل إلى السوق منفعلا هائجا فلحق به أهل القرية من كل صوب ولم يذهبوا بعيدا حتى وجدوا إبراهيم أفندي ملقى بجوار مزرعة للقصب يتلوى ألما ورأوا أن رصاصة استقرت في فخذه.

يا لهول الفاجعة!! حتى أبناء العمدة يعتدى عليهم!! ولم تحم الشبهات إلا حول عبد الدايم فانبث الخفراء في أزقة القرية يبحثون عنه بعد أن لم يجدوه في خيمته، واهتزت الأسلاك تنقل الخبر إلى النيابة؛ أما الجريح فقد نقل إلى مستشفى الزقاقيق ليسعف بالعلاج. وبعد برهة وصل وكيل النيابة ثم تبعه ضابط المباحث على رأس قوة من البوليس ففتشوا بيت عبد الدايم فلم يجدوا شيئا يفيد التحقيق، فخطر لضابط المباحث أن يفتش مزرعة القصب لأنه استبعد أن يظل عبد الدايم محتفظا ببندقيته، ورجح أن يكون قد ألقاها فيها فبعثر رجاله في أنحائها وإذا برجل منهم يعثر على بندقية. . وإذا بالبندقية حديثة الطلق. . . . وإذا بكل من رآها يشهد أنها لعبد الدايم.

اكتفت النيابة بهذا الدليل فقبضت على عبد الدايم ولكن سر الجناية ظل غامضا حتى وصل إليها بلاغ من مجهول يقول فيه (لقد علمت من أحد المصادر أن سلمى عبد الدايم المسعودي لم تمت ميتة طبيعية وإنما قتلها أبوها لأنه علم باتصالها بإبراهيم أفندي بن عمدة كفر المعداوي. وقد كان يمكن كشف هذه الجناية في حينها لو أن طبيب المركز رأى الجثة قبل دفنها، ولكنه صرح بالدفن مكتفيا بقول حلاق القرية إنها ماتت بسكتة قلبية) فانتقل وكيل النيابة فوراً مع الطبيب الشرعي إلى قبر سلمى وأمر بإخراج جثتها وقال الطب كلمته فإذا بها ماتت خنقا. . . . وختمت النيابة أبحاثها وبدأت التحقيق. . . . .

س - إبراهيم أفندي يقول أنه رآك تطلق عليه الرصاص.

ج - أبداً

س - وماذا تقول في البندقية التي عثرنا عليها في القصب وهي لك؟

ج - لم تعد لي بندقية منذ أخذها الإنجليز مني وهم يجمعون السلاح في سنة 17.

س - وابنتك سلمى؟ لدى النيابة شهود يقررون أنها لم تمرض مطلقا وأنهم رأوها أمام خيمتها قبل أن تموت بقليل؟ فهل مرضت وشكت واحتضرت وأسلمت الروح في أقل من ساعة؟

ج - هو كذلك، فإنها ماتت بسكتة قلبية.

س - ولكن الطبيب الشرعي أثبت أنها ماتت خنقا.

ج - إذن تكون قد خنقت نفسها.

س - ولماذا حلقت ذقنك وشاربك بعد موتها؟

ج - خطر لي أن أتزوج فحلقتهما كي أبدو صغير السن.

س - ولكنك قلت في مجلس العمدة كلاما يستفاد منه أن أحدا اعتدى عليك فحلقتهما حتى تأخذ بثأرك.

ج - لم أقل ذلك وإنما كنت أسخر من قوم رأيتهم يسخرون مني.

س - لقد وصل إلى علم النيابة أنه كان بين ابنتك وبين إبراهيم علاقة وأنك من أجل هذا قتلتها وأردت أن تقتله.

فضرب الأعرابي جبهته في عصبية ويأس ورمى وكيل النيابة بنظرة شزراء ثم اندفع يقول إذن فاسمع. إني اعترف بأني قتلت ابنتي وإني أطلقت الرصاص على إبراهيم. خذني إلى السجن فإني أريد أن أتلهى بأشغاله الشاقة عن لؤم الناس وظلم القانون.

واقفل المحضر بعد أن تليت عليه أقواله فأقرها وأمضى. . .

السيد أبو النجا