مجلة الرسالة/العدد 7/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 7/الكتب
ضحى الإسلام أو أحمد أمين
- 2 -
ضحى الإسلام كصاحبه شديد الوضوح، سديد المنهج، غزير البحر، جم التواضع، تقرأه فتتسابق معانيه إلى فهمك، وتتساوق أغراضه إلى ذهنك، فلا تشك في أن مؤلفه قد استبطن دخائل موضوعه، وأحاط بأصول بحثه وفروعه، لأن المعنى إذا اتضح في الذهن واتسق في الشعور أسفر عنه البيان في إشراق وسهولة وقوة، وما يتعقد الأسلوب إلا من غموض الفكرة أو طموس الصورة أو ضعف الملكة.
اسمع صاحب الضحى أو اقرأه تجده في حاليه واضحا صريحا ثقة، لأنه يتكلم عن روية، ويشرح عن فهم، ويكتب عن تفكير، ويؤلف عن دراسة، أما فترة الشك والتردد فنهايتها بداية عمله.
موضوع الكتاب الحياة العقلية للمسلمين في القرن الأول من العصر العباسي، والعقلية الإسلامية يومئذ كانت أشد العقليات تركيباً، وأكثرها تعقدا، وأوفرها نتاجا، لأنها مزيج عجيب من آثار شتى لجنسيات متعددة، وحضارات متنوعة، وثقافات مختلفة، فتحليل هذا المزيج إلى عناصره الأولية كما يفعل الكيميائي، ورد هذه القوة الناتجة إلى قواها البسيطة المحركة كما يفعل الميكانيكي، أمر لم يضطلع به إلى اليوم غير أحمد أمين، لأن الوسائل التي تهيأت له من مواهبه ومكاسبه وبيئته وعصره لم تتح مجموعة لأحد من قبله، فلو أنه اجتمع لمؤرخينا السالفين مع سلامة الفطرة، ونفاذ البصيرة، وسعة الاطلاع، الوقوفُ على علوم الاجتماع، ومذاهب النقد ومناهج البحث، لما تركوا لنا التاريخ على هذه الحال المضنية من النقص والمبالغة والفوضى، ولكن هذا التاريخ الذي قنع بأخبار الحرب والفتح، والولاية والعزل، والولادة والوفاة، واغفل الكلام في تبدل الأحوال والأطوار، وتغير الميول والأفكار؛ وتطور العادات والمعتقدات، في طبقات الأمة، هو نفسه الذي استخلص منه احمد أمين كتابيه فجر الإسلام وضحى الإسلام على هذا النهج الواضح والنسق المطرد! فاعتبر في نفسك أي عقل إستجلى هذا الغموض، وأي فكر استغل هذا النقص، وأي صبر ساعد هذا الجهد! سار المؤلف في تحرير كتابه على خطة سديدة، وتبويب متناسق. فجعله جزئين متساويين: بسط في الأول العوامل التي أثرت في العقلية الإسلامية وهو الذي ظهر، وفصّل في الثاني الآثار التي نشأت عن هذه العقلية نفسها وهو الذي سيظهر. ثم كسر كلا من الجزئين على بابين: فالأول على الحياة الاجتماعية وعلى الثقافات الدينية والمدنية، والثاني على الحركات العلمية ومعاهد العلم وحرية الفكر، ثم على المذاهب الدينية وتاريخ حياتها وأشهر رجالها وأهم أحداثها.
فموضوع الجزء الذي في يدينا الآن إذن هو العوامل المؤثرة في الحياة العقلية الإسلامية في شباب الدولة العباسية، وهذه العوامل أما مادية نشأت من طبيعة الاجتماع كاختلاف الأجناس، وصراع الطوائف، ونظام الرقيق، ومظاهر الترف من مجون ولهو، ونتائج البؤس من يأس وزهد، إلى غير ذلك مما أسبوعيته فصول الباب الأول الستة وأما أدبية نشأت من تداخل الثقافات الفارسية، والهندية، واليونانية، والعربية، واليهودية، والنصرانية، وما يتبع ذلك من تمازج الآداب والمعتقدات والأنظمة، وقد استقصى المؤلف أطرافها في فصول الباب الثاني الستة.
وهذا الوضع المنطقي المحكم قد ضمن لآراء الكتاب أن تطرد، ولأجزائه أن ترتبط، ولأبحاثه أن تجتمع، فجاء من حيث التأليف مدمج الفصول، مرسوم الوجهة، محدود الغاية، بريئا مما يجره عدم الخطة أو فسادها من استطراد مشت في جهة، وإخلال مرهق في جهة أخرى، وتلك مزية قل أن تجدها في كتاب.
صاحب ضحى الإسلام شديد اليقظة، مستقل الرأي، لا يعرض قولاً دون مناقشة، ولا بحثا دون تقدمة، ولا رأيا دون دليل، ولا تشعر وأنت تقرأه أن هناك رأياً معينا تسلط عليه، أو فكرة سابقة أثرت فيه، فهو يخطِّئ (جولد زهير)، كما يخطّئ ابن خلدون، ويعرض الثقافات الدينية المختلفة بميزان واحد ولسان واحد.
تبدو هذه اليقظة، ويتجلى هذا الاستقلال، منذ الكلمة الأولى في الكتاب؛ إذ يفطن إلى الخطأ الذي جره على بعض المؤرخين الكسل والتقليد في تصويرهم سقوط الأمويين وقيام العباسيين حداً فاصلا بين حياتين مختلفتين للأمة الإسلامية، تبتدئ الثانية عند انتهاء الأولى، ثم يتجليان في سائر الفصول وعلى الأخص في الشعوبية والاسترقاق والزندقة، فليس وراء ما كتبه فيها مراغ لمستزيد.
وصاحب ضحى الإسلام أديب بارع، وعالم ضليع، يظهر أدبه في الصور التي رسمها كصورة الرشيد، والتراجم التي وضعها كترجمة ابن المقفع، وتلك الصورة وهذه الترجمة نموذجان عاليان لكاتب التاريخ ومؤرخ الأدب. ويتحقق علمه في كثرة المصادر التي رجع إليها، ووفرة النتائج التي حصل عليها، وعرضه للثقافات، ولا سيما الهندية، عرضا ينم عن اطلاع واسع واستقراء دقيق وصبر نادر.
وكل ذلك والتواضع الأصيل في الطبع يأبى للمؤلف أن يصدق ما يقوله العلماء، والمستشرقون من أنه مثال الباحث الجامعي الحق، وكتابه نموذج البحث العلمي الصحيح.
الزيات