انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 699/عند القمة الأولي. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 699/عند القمة الأولي. . .

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1946



للأستاذ محمد العلائي

(أخي سيد قطب:

كان في حسابك وحسابي أنني سأبعث بهذه القصيدة أو بمثلها من (لندن) ولكن! ضحكت الأقدار وبعثت بها من هذه القرية المصرية الهامدة التي مزقت أهلها متربة الأنفس ومجاعة الأفواه!!. . فهل يأذن أستاذنا (الزيات) وهو والد كريم ولمحتني حق في (رسالته) هل يأذن في أن أشهد على وزارة المعارف المصرية وموقفها من (بعثتي) بعد أن أصبحت حقاً لا يقوى على اغتصابه إلا من أعفي نفسه من الواجب والضمير. أريد أن اشهد على وزارة المعارف وعلى شعورها بقضيتي أولئك الذين مسني عطفهم وعنايتهم من أساتذتي بالجامعة وخارجها ومن أصدقائي الأقربين. . .

وأشهد وزراء المعارف وذوي الأنفس والآراء في المشرق العربي على وزارة المعارف المصرية وكيف أفقدتني الثقة في وطني وبيئتي مما جعل غايتي في الحياة أن اخرج من (مصر) التي أبت على أن اقنع من الدنيا بالماء والهواء وأن يكون عاملا أمينا مخلصا في قضية الحق والخير وان اخدم طائفتي من أبناء الظلام فأعوضهم عن ظلمة البصر نور البصيرة.

فلنحمل وزارة المعارف المصرية تبعة الروائي في هذه القرية أو هجرتي من هذا الوطن الذي لم تشملني وزارة معارفه بذرة من العطب الذي شملتني به وزارتا المعارف الإنجليزية والأمريكية).

(العلائي)

طال عهد النوى فسيروا أمامي ... ودعوني فلن يطول مقامي!

ودعوني فما انتهيت ولكن ... أوهن الخوف والرجاء عظامي

وازدرائي لما أرى لم يدع لي ... أملا في الثرى ولا في الغمام

فرَّق الصحو مهجتي وطواني ... ألم السهد بين قوم نيام

قَّصر العزم خدعة بعد أخرى ... في شعور مفزَّع بالحمام!

كم طويت الشعاب احمل نفسي ... تحت عبء الرغاب قيد الظ وسقى الشوك في الأجادب مائي ... وترامى على الأفاعي سلامي!!

أستر الفحش في عيون الليالي ... وأداري سفاهة الأيام

أستحث الخطى صباحاً فتبدو ... عثرات المساء في إقدامي

مسرف لا أريد غير بعيد ... يائس تستخفني أوهامي

وبصدري مع الشقاء صراع ... بين حب المنى وبغض الزحام

كنت أهوى امتداد خطوي حتى ... تتوارى مواطن الأحلام

غير أني أحس ضعفاً. . . وهذا ... مجمع الشوق والعواطف دام

وبنفسي تساؤل وملال ... ولجفنيَّ رغبة في المنام

ذهب الركب والتقيت بنفسي ... هامد الحس من صروف الليالي

من طريق أحلامه عبرات ... في ظلام الكهوف والأدغال

وقطيع دماؤه من صديد ... أفرزته نجاسة الأذيال

حمل الخزى في وجوه عليها ... بصقات الزمان غير مبال

في عظامي تقزز. . . وبنفسي ... غثيان من قوله والفعال

في حماه عشقت سود الأماني ... وشربت القذى طريح الملال

وعدمت الصديق أهفو إليه ... في ذرى شوقه ومسرى اكتمالي

أنزع الشوك من رؤاه. . . ويرمي ... زهرة الشر من رياض انفعالي

نسكب النور في المدى ونوالي ... دوحة الخلد في سكون الكمال

وعدمت الملاك يشرع ذاتي ... في سلام الربى ومجد الأعالي

فوق عرش من المودة يندي ... بشذى رحمتي وفيض ابتهالي

سكنت روحنا إليه وغابت ... في أناجيل من وراء الخيال

ضل عني رجاؤها رغم أني ... صانع الوهم خالق الآمال

واحتواني السكوت رغم لسان ... عرفته مضارب الأمثال

ذهب الركب والتقيت بنفسي ... انزع الحس من رميم الشقاء

وكأني بهم مقابر موتي ... بعثرتها عواصف الصحراء

وأرى بالعظام جمرة سُخري ... وبأشلائهم قروح ازدراء عَفَن فاح من جماجمهم أهلي ... أشبهت ريحه صديد البلاء

ذكرتني الرمام عهداً تولى ... وزماناً مضى لغير لقاء!!

ذكرتني بأنفس وأفاع ... شرقت بالزعاف تحت سمائي

مسني غدرها فأضحك همي ... ثم أهدى لها الدوارَ وفائي

وبأخرى منحتها من وجودي ... نشوة الأمن واحتساب الرجاء

ورمتني بشرها فوقاني ... شر نفسي وشرة الأهواء

وبأخرى تظامأت تحت حسي ... فسقاها تنبلي وحيائي

شربتني وحين خارت قواها ... علمت أن حكمتي في دمائي

وبأخرى وأخريات تلوى ... تحت ماض يمور في أحشائي

آه من يبعد الرمام ويقصى ... فضلات البلى ودود الفناء

غير أن الرمام خير وأزكى ... من ذويها بعالم الأحياء

ذهب الركب والتقيت بنفسي ... بين أجداثها ومسرى الحياة

ومضى الناس أنفساً تتشهى ... جيفة الأرض وامتصاص الرفات

دنسوا مورد الحياة وفاتوا ... رجس أفواههم على الثمرات

عشت فيهم بظاهر من شعوري ... مشمئز النهى رضي السمات

ثم ضمدت بالزعاف جراحي!! ... وتغنيت للأصم شكاتي!!

يا لنفسي بها نَبيٌّ وطفل!! ... فهي فوق المدى وبين اللدات!!

تسع الكون غاية وابتداء ... ولها بعد ذاك في التافهات!!

يا لنفسي بها بشائر غيث ... يغمر الجدب ماؤه بالصَّلات

ويمد الظلال تهوي إليها ... أنفس الظامئين للرحمات

يا لنفسي بها بشائر نجم ... ينفح الليل نوره بالهبات

يكشف الستر عن كثير ويغشي ... في الدياجي مهازل الحرمات

يا لنفسي جهلتها. . . كيف غيري؟! ... ويح من خاض وهمه في صفاتي

خاطري كالسحاب ليس مقيما ... هو في الصبح غيره في الغداة

أنكروني مثلما. . . ليت شعري ... لو تراءت لهم معالم ذاتي! ذهب الركب والتقيت بنفسي ... ليس محواً وليس حلم اتحاد

ذاك ما كنت أرتجيه وهذا ... فوق ما ارتجي وفوق مرادي!!

تلك نفسي وذاك غير قليل ... مائيَ النور والحقيقة زادي

فرحت الغيب أشرقت في ضميري ... وينابيع راحها في ازدياد

أومض الحق بالرجاء وهبت ... نسمة الروح في كيان الجماد

لمحات تمايلت في سناها ... راسيات المكان والآباد

لمسات من الكمال وأخرى ... تاه فيها المدى وذاب فؤادي

دوحة الخير هذه. . . كم تراءت ... في منامي ظلالها وسهادي

شهدت مولد الزمان وألقت ... في يديه بما نرى من أياد!

ذلك البحر قطرة من نداها ... بين هذى الربى وتلك الوهاد

مست الكون يوم كان فألفي ... حظه من تكامل وامتداد

سكرت مهجتي وغابت رؤاها ... ويك أني أخاف سفح ارتدادي

نشوة الحلم في حسابيَ أهدى ... من يقين بواقع الأصفاد

ذهب الركب والتقيت بنفسي ... بين هم مضى وحلم كِذاب

منذ حين دفنت أمسي حتى ... زهرات ورثتها أحبابي

ورسوماً تفوح منها معان ... نسيتها لديَّ ريح الشباب

وتناسيت أرضنا وهواها ... وتجاهلت إنني من تراب!

ثم أسلمت للسماء رجائي ... وتحيرت في السها محرابي

وتساميت في المدارج حتى ... مست الغيب في العلا أسبابي

وارتوى خاطري وأوشك ينسى ... موبقات الصدى وراء السراب

واستوينا على السكينة لكن ... عاود النفس حبها للعذاب

يا لنفسي تذكُّرٌ واشتياق ... نازعاها إلى حضيض الرغاب

هاهنا الدوح والظلال فمالي ... أتشهى منابت الأعشاب!!

لي فؤاد يعاف قبل اكتفاء ... مستطار يهيم بعد ارتياب

ظلمت الطين حركت في ضلوعي ... صور الناس وارتياد الشعاب ضجة الركب لم تزل تحت سمعي ... وأمانيه لم تزل في حسابي

فوق هذا الأنام روحيَ لكن ... لم يصل بي مكانة الأرباب

ذهب الركب والتقيت بنفسي ... استشف المدى وروح الزمان

انطق الوهم كل أعجمَ حتى ... كلمتني صخور هذا المكان!؟

وتوهمت إن للدوح سمعاً ... فعزفت الشجي من الحاني!!

وتخيلت في النجوم عيوناً! ... فكشفت الجراح قبل الأماني!!

وحسبت الرياح تعقل خطبي ... فأفاضت سريرتي وبياني!!

وتأملت. . . لم أجد غير نفسي!! ... وجماد غمرته بالمعاني!!

وتراجعت استرد شعوري ... فأهالت جمودهَا في كياني

ضل في عشرة الجماد ذكائي ... بعد ما ضل في بني الإنسان!!

كم تمنيت غير شيء وخاضت ... في فضاء مفرغ أشجاني

كم ركبت الشقاء نحو ضلال ... وتوسدت في الدجى أدراني

كم تلهيت بالكبائر حتى ... طفر الرعب من دم الشيطان!!

كم تطهرت بالقداسة والنور ... وفاض الحياء من أيماني!!

أنت يا من خلقتني كنت أولى ... بضيائي من الثرى والهوان!!

أنا راض بما قضيت ولكن ... عاتب اخرس الحياء لساني

ذهب الركب والتقيت بنفسي ... نتشاكى مذاهبي ودياري

أطفأ اليأس ما أمامي حتى ... مثل النور بعد شمس النهار!

وجم القلب. . . لا صلاة عليه ... لا ولا قدرة على أوزار!

وانقضى الخوف والرجاء وزالت ... شائقات الرضى ففيم انتظاري؟!

لم تدع موجة الصعود لحسي ... رمقاً اهتدي به في انحداري!!

كلما لاح في الأصائل معنى ... طمسته شوائب الأسحار

أذهلتني مواقف الحظ مني ... وجنوني بحكمتي واختياري

راعني ذلك التصادف حتى ... خلت في تصرف الأقدار

ليتني لك أذق تجارب دهر ... سلبتني إرادة الأحرار حلقات من التماسك هاجت ... فيّ أوجاعها خطوب انهياري

شَرِقت بي محافل ستباهي ... بازدرائي لها وتبكي احتقاري

قيم الأرض وهي منها أثارت ... في سمائي رواسب الأغوار

لم أزل اذكر السماء فتهوى ... فيّ أحلامها لغير قرار!

بين جنبي خفقة لو رأوها ... لأصابت قلوبهم بالدُّوار

ذهب الركب والتقيت بنفسي ... في مهب الأسى ومهوى ارتفاعي

وذكرت الشقاء في اليم حتى ... ذهبت ريحه ومال شراعي!

وتوسدت خيبتي ورجاء ... مزقته وساوس الأوجاع

وتواريت في بقايا كيان ... أتملى فضاءها وأراعي!

بعدت غايتي وقصر عزمي ... حرجُ الضعف واشتباه الدواعي

وجنوني بما شربت عليه ... غير كأس من القذى والخداع

وانطوائي على فراغ وخوفي ... سكرات المنى وهول الصراع

وانتفاضي لما أهاجت بصدري ... عثرات الجدود الأوضاع

من جراح تمرغت من دماها ... سابحات البلى ومرض الأفاعي

وخطوب تعفنت واشتهتها ... آكلات الرميم دود البقاع

ضاقت الأرض والسماء ومالي ... غير نفس قليلة الإطماع

غاية العيش عندها أن تراني ... فوق مرعى العيون والأسماع

أهب الحب والرجاء وتسري ... نفحات السلام خاف شعاعي

ويح هذا المدى أمامي أمسي ... وورائي غَدِي ففيم اندفاعي؟!

ذهب الركب والتقيت بنفسي ... في اشتياق عليه لون الفراق!!

وزماناً ذكرته حين هبت ... ريح أيامه على آفاقي. . .

وحياة أضعت حظي منها ... في جنوني بها وفي إغراقي!

وشباباً زويت يومي عنه ... بانطوائي على غد واحتراقي!

وأمان ذهبن إلا هشيما ... ليس فيه تفاؤلي واشتياقي!!

وأمان تشربتني ومصت ... دفء قلبي وحكمة الأعماق! أذهلتني عن الحياة ودست ... في شعوري تمائم الإخفاق!

وأمان تهافتت يوم صحوي ... صوراً من تزيدي واختلاقي!

وأمان أرقت فيها وجودي ... ثم جاءت فلم تجد أشواقي!

وأمان من الذرى واليها ... طال فيها مع المدى إطراقي

علمتني الذرى محبة نفسي ... وكفى الغيرَ بسمةُ الإشفاق!

علمتني وباركت في طموحي ... نشوة الكبر ساعة الإغداق!

فسلام على الذرى. . . ولنفسي ... ما تمنيت من جزاء وفاق!

خفق الحظ بالجنوح فإما ... لغروب خطاي أو إشراق!

(الزقازيق - كفر الحمام)

محمد العلائي