مجلة الرسالة/العدد 699/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 699/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 33 -

عود إلى الشعر:

وانطوى ربيع الأليزابيثين فكان في ألحانه التي احتبست بانطوائه تلك المقطوعات، وظل الحال كذلك حتى جاء ملتن في صيف البيوريتانز، فغنى في طلائع ذلك الصيف الحان الربيع الراحل؛ وجدد الطائر المختلف لحن هاتيك المقطوعات. وكان ملتن يحب إيطاليا فازداد حبا لتلك المقطوعات في أول عهده بالشعر وهو جنة الشباب وريعانه؛ وكيف لا يتغنى شاعر مثل ملتن بهذا الضرب من الأغاني وفي فسه من الخواطر وفي خصائص شعره من الموسيقى وسحر اللفظ ما يجعه كأنما خلق لهذا الغناء وحده. على أنه كان مقلا فله تبعث على كثير من الأسف، وذلك لانشغاله بأمور الدين والسياسة وان كانت أكثر مقطوعاته وليدة هذا الانشغال

ولكنه على إقلاله قد أضاف إلى تاريخ تلك المقطوعات فصلا ممتعا رائعا في أدب قومه. ولقد كانت مقطوعاته من بعده كالوحي لشعراء القرن التاسع عشرة من قادة المذهب الابتداعي وفي مقدمتهم وردثوث الذي اعجب إعجابا شديدا بمقطوعات ملتن ودأب على محاكاته، ويتضح هذا الإعجاب في مقطوعته التي بدأها بقوله:

(أي ملتن، إنه لينبغي أن تكون موجودا في هذه الساعة، فإن انجلترة في حاجة إليك)؛ والتي وصفه فيها بان نفسه كالكوكب في سموه ومنعزله، وان له صوتا ينبعث كما ينبعث صوت البحر، طاهرا كالسماوات الصافية العارية عليه سماء الجلالة والحرية، وإنه خالد ينتقل مسافرا في طريق الأبدية. وقد تبع وردثورث في إعجابه بملتن بيرون وكيت وبروننج وأرنولد وروزتي وتينسون، ولهذا الأخير مقطوعة رائعة تغنى فيها بمجد ملتن بدأها بقوله: (يا ذا المقول القدير، يا مبدع النغمات والألحان، إيه يا من وهب المهارة ليغني للزمن أو الخلود، يا من هو لإنجلترا صوت أرغنها جاءها هبة من الله. . . ملتن هذا الاسم الذي سوف يرن في مسامع الأجيال)

وليس بين ما تغنى به مللتن من مقطوعات وبين ما أوحت به مقطوعاته إلى هؤلاء الأفذاذ الذين افتتنوا به شيء يذكر من هذا الضرب من الغناء، وهذه هي القيمة التاريخية لمقطوعاته وخطرها في أدب قومه

لم يترك ملتن إلا أربعا وعشرين مقطوعة، منها خمس من نظمها بالإيطالية، ويرجح نقده الأدب إنه نظم هذه الخمس أثناء مقامه بإيطاليا، وهي من أغاني الحب، وجهها الشاعر الشاب إلى غادة إيطالية من بولونا سحرته بسمرة محياها وبمقلتيها الدعجاوين اللتين افتتن بهما لأنه كان بهذا الدعج مولع كما قال، وبصوتها الحلو وغنائها المطرب الذي هو كفيل أن يسحر القمر السابح؛ وقد تغنى الشاعر بجمال فاتنته وشكا من قسوة قلبها عليه كما يشكو الشباب في أول عهدهم بالحب!

أما عن الطريقة التي حري عليها في نظم هذه المقطوعات الخمس، فإن اثنتين منها جاءتا وفي الطريقة الإيطالية، وجاءت الثلاثة الباقية مزيجا من الإيطالية والإنجليزية على صورة اتبعها ملتن ذلك الذي كان كثيرا ما يحب أن يتخلص من الأوضاع المتعبة والقيود

والذي يعنينا في الواقع هو مقطوعاته الإنجليزية، ونحب قبل أن نتحدث عن مادتها وعن قيمتها أفنية أن نشير إلى ما اتبعه الشاعر في نظمها، لأنه لم يجر فيها جميعا على طريقة واحدة، إذ إنه لم يتقيد بالطريقة الإيطالية فيها جميعا ولا بالطريقة الإنجليزية أو الشكسبيرية، وإن كان فيها محافظا أكثر منه مجددا

ويمكن القول بوجه الإجمال إنها جميعا أقرب إلى الطريقة الإيطالية إلا الحادية عشرة منها، وهي جميعا إيطالية الصدر أو الفاتحة، وهي كذلك جميعا إيطالية الخاتمة ما عدا الحادية عشرة، فهي في خاتمتها مزيج من الإيطالية والشكسبيرية؛ بيد أن ملتن لم يتقيد في بعضها بإحداث تغير في القوافي بين الفاتحة والخاتمة بل تركها تنساب كما هي بعد السطر الثامن. ونستطيع أن نقسم مقطوعات التسع عشرة على النحو الآتي: تسع إيطالية من جميع الوجوه، وثمان إيطالية ولكن بغير فاصل بين الفاتحة والخاتمة، وواحدة هي الحادية عشرة بين الإيطالية والإنجليزية، وهي التي وجهها إلى كرمول، وواحدة هي التاسعة عشرة أو الأخيرة ذات ذيل بعد خاتمتها. ولم نشر من قبل إلى هذا النوع الأخير، فنقول الآن: إن هذا النوع المذيل ليس من ابتكار ملتن، ولكن وقع مثله في مقطوعات الإيطاليين، وإن كان مما ندر، فإن بعض الشعراء كانوا يضيفون سطرين أو خمسة إلى الأربعة عشر سطراً التي تتكون منها المقطوعة إذا لم يستطيعوا أن يعبروا عن المعنى كله في هذا العدد من الأسطر، وكان يعد هذا الضرب معيباً ضعيفاً ولذلك قلما لجأ أليه الشعراء. ولم يخيل من هذا الضعف كلتن نفسه في ذلك الذيل الذي أضافه إلى مقطوعته الأخيرة: (إلى مستكرهي الضمائر الجدد في عهد البرلمان الطويل)، ففي هذا الذيل ما ينبو عن الذوق من خشونة وعامية وتلاعب باللفاظ.

أما عن مادة هذه المقطوعات، فيجدر بنا أن نذكر ما سلف به القول من أنها قيلت في مناسبات، ولذلك جمعت بين الخواطر السياسية والدينة والوطنية وما يتصل بالرثاء والحب والمسائل الشخصية. وكانت المقطوعات قبل ملتن تدور على الحب، وندر فيها ما خرج عن هذا المجال سواء عند الإيطاليين وعند الأليزابيثيين ولذلك مال بعض نقدة الأدب إلى استصغار شأن المقطوعات على العموم ونظرهم إليها نظرتهم إلى التافه من الأشياء، فهي عندهم من مظاهر العبث واللعب وملء الفراغ بما لا يجدي، وليس فيها صدق ولا علم ولا فائدة من أي نوع. ولعل لهؤلاء بعض العذر فيما ذهبوا إليه، فإن شعراء الشباب كثيراً ما كانوا ينظمون خواطرهم في مقطوعات وليسوا جميعاً مجيدين فشاع فيها الضعف والفسولة، ولكن قدراً منها كان محكم السبك رائع المعنى صادق العاطفة جليل الشاعرية كما يتبين في أكثر مقطوعات سبنسر وفي مقطوعات شكسبير جميعاً على كثرتها. إذ قد بلغت مائة وخمسين مقطوعة، وما جعل بعض النقاد يحتقر شأن المقطوعة كضرب من ضروب الشعر إلا سامهم من نغمات الحب الشاكية الباكية في معظمها، وظنهم أنها ما نظمت إلا على على سبيل اللهو وإبراز المقدرة على النظم، فإن كان في بعضها شيء من الصدق، ففيها كذلك كثير من المبالغة والكذب!

وجاء ملتن فخرج بالمقطوعة عن مجال الحب وجعلها لكل ما يخطر على قلبه، فاكتسبت المقطوعة على يده قوة وخطراً وطبعت بطابع الصدق والإخلاص وجرت فيها إشارات إلى أمور تتصل بالعلم أو بالفلسفة فألبسها ذلك كثيراً من الجد والفائدة وليس هذا الاتجاه بالأمر الهين في تاريخ المقطوعة إذا ذكرنا أنه أوحى إلى شعراء القرن التاسع عشر أن يحذوا حذوه، فكان لمقطوعاتهم في الحرية والسياسة وانتقاد عيوب المجتمع وأشباه ذلك من المسائل قيمة عظيمة وأثر بعيد في القلوب والأذهان ما كان يتفق لها لو أنها اقتصرت على التغني بمعاني الحب والجمال. ويتجلى أثر ملتن في هذا التوجيه في مقطوعة وردثورث التي أشرنا إليها والتي يقول فيها شاعر القرن التاسع عشر: إن انجلترة في حاجة إلى ملتن؛ والتي يذكر فيها شكواه قائلا: (نحن قوم طغت علينا الأنانية، وارفعنا وأمددنا بالمثل في الآداب والفضيلة والحرية والقوة)

ويحس من يقرأ مقطوعات ملتن أنها نفثات نفس عظيمة وهمسات روح قوية، وهي على قلتها زاخرة بفيض من الخواطر، ويرجع ذلك إلى طبيعة المقطوعة في بنائها كما يرجع إلى مقدرة ملتن العظيمة على الإنجاز البليغ الذي جعله يعبر بالكلمات القلائل عن المعنى الواسع الكثير الوشائج، وهي مقدرة جعلها وكولى من أبرز خصائص شعره، بل جعلها خاصته التي يمتاز بها من أكثر الشعراء، وهي من الزم الصفات كما ذكرنا لبناء المقطوعة

وحسبك أن تقرأ في هذه المقطوعات العاطفة الرقيقة التي تعبر عنها النغمة الهادئة الرخية كأنها نسمات الفجر، إلى جانب الصرخة الصاخبة المدوية كأنها هياج العاصفة أو اصتخاب الموج، لتعرف كيف استطاع ملتن أن يجعل من المقطوعة شيئاً آخر قوياً مهيباً له خطره وأثره، وتجد مثالا للأولى في إشارته إلى ما أصابه من عمى وفي توجده على فقد زوجته الثانية، وتجدمثالا للثانية في غضبته لمذابح بيدمنت وجملته على مستكرهي الضمائر من البيوريتانز، وفي سخريته ممن انتقدوا كتيباته من خصومه. وبين هذا وذاك تقع على نغمات تتصف بالقوة والجلال وهي التي مجد بها أبطال قومه مثل فيرفاكس وكرمول، والتي دافع بها عن الحرية الدينية والسياسية

بهذه الصفات وأمثالها رفع ملتن المقطوعة مكاناً عالياً، فلم تعد كما كانت أغنيات غرامية رائعة أو مائعة، وإنما أصبحت هتاف شاعر يهيب بقومه إلى جانب كونها خلجات نفس تتألم وتتفجع كسائر النفوس، وما من أصدق وأجمل كلمة وردثورث التي وصف بها المقطوعة على يد ملتن إذ قال: (لقد أصبحت هذه بوقاً في يديه)

ولئن خرج ملتن بالمقطوعة عن نطاق الإليزابثيين ومن قبلهم من الإيطاليين، وأتخذ منها أداة لخواطره السياسية والاجتماعية إلى جانب خطراته المنحصرة في حياته الشخصية، فإن تمكنه وصدقه قد جعلا لمقطوعاته السياسية والاجتماع من الجمال والسحر ما تسمو به إلى مستوى الآثار الأدبية الرفيعة، وأعانته ضلاعته على أن يلبس الآراء السياسية لباس الأدب الصحيح، ويضفي عليها رونق الفن وروعته وهو عمل يستعصي على من لم يكن له مثل عبقريته. ولما كانت المقطوعة عند الإيطاليين والإليزابثيين شكاة في الأكثر من حبيب قاس أو من ضنى الحب وسهده ووجده فقد الفتها النفوس في هذا المجال وان كان قد تطرق إليها بسبب هذا الفتور والصنعة حتى استصغر شأنها بعض النقدة كما أشرنا.

ويعد خروج ملتن بها عن نطاقها جرأة في الفن تنهض دليلا على فحولته وصدق شاعريته يضاف إلى ما توافى له من أدلة وذلك فضلا عن كونه فتحاً في تاريخ المقطوعة صار له ما بعده.

ولقد أشرنا إلى أكثر هذه المقطوعات كلا في موضعها من سيرته أو في المناسبة التي نظمها الشاعر فيها، وكانت مقطوعته التي ناجى فيها البلبل أول شبابه هي باكورة مقطوعاته الإنجليزية وتليها المقطوعة التي نظمها بعد ذلك بقليل بمناسبة بلوغه الثالثة والعشرين من عمره، وكلتاهما من المقطوعات التي تدور حول شخصه، ومن أشهر تلك المقطوعات الشخصية ما ظمه حين أصيب بفقد بصره ثم تلك المقطوعة التي رثى بها زوجته الثانية. أما مقطوعاته العامة فأولها مقطوعة جميلة لم نشر إليها من قبل وهي التي اتخذ عنوانها (حينما أزمع مهاجمة المدينة) وكان ذلك سنة 1643 إذ تهددت جنود شارل مدينة لندن، وهو يخاطب فيها الفرسان ألا يزعجوه في مأمنه وألا يزعجوا الشعر في منعزلة وجزاؤهم على ذلك أن يخلد أسماءهم بثنائه ويشير فيها إلى ما فعله الاسكندر الأكبر حين حطم مدينة مقدونيا فأنه استثنى البيت الذي كان يعيش فيه من قبل الشاعر بندار، وكذلك فعل ليساندر القائد الإسبرطي فأنه أنقذ أثينا من الدمار لأنها أنجبت يوروبيدس وكان القائد قد سمع بطريقة المصادفة شيئا عن شعره. ومن اشهر هذه المقطوعات العامة مقطوعة عن مذابح بيدمنت وتلك التي مجد فيها فيرفاكس ثم تلك التي رفعها إلى كرمول.

ولسنا بحاجة إلى كثير من القول لبيان قيمة تلك المقطوعات جميعا من حيث بلاغة الشعر فيها وروعته، فإن خصائص شعر ملتن كما أسلفنا كانت مما يوائم بناء مثل هذه المقطوعات؛ ولقد كانت جزالة اللفظ مع إشراقه وجماله ووجازته وأداء المعنى المراد لا أكثر منه ولا اقل من أبرز خصائص شعر ملتن، وكذلك كان من خصائصه قوة تأثيره في النفوس بما تحويه ألفاظه من رؤى وأطياف وما يتداعى إلى الخاطر عند سماعها من معان وأخيلة كأنما كان للفظة قوة خفية سحرية لا تنكر وان كانت لا تدرك؛ أضف إلى هذا موسيقى عذبة ناتجة من ائتلاف الألفاظ وصوغها وإضافة بعضها إلى بعض على صورة تكسب كلا منها جمالاً لا يكون له غير هذا الوضع وتجعل منها في مجموعها لحنا عجيبا تستشعره النفس كما تستشعره الأذنان، ويرى أكثر النقاد أن هذه الخصائص واضحة في هاتيك المقطوعات لم تشذ إلا في أسطر قليلة أو في كلمات معدودات كانت اقرب إلى لغة العوام في مقطوعة من المقطوعات التي هاجم فيها الشاعر منتقدي فلسفته في الطلاق من خصومه.

(يتبع)

الخفيف