مجلة الرسالة/العدد 699/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 699/الكتب
دعوة في وقتها:
الرسالة الخالدة. . .
بقلم الأستاذ عبد الرحمن عزام باشا
الأمين العام لجامعة الدول العربية
عرض وتعليق
للأستاذ عبد المنعم خلاف
- 3 -
وقد بين المؤلف أخوة الذمة والعهد وحقوق الذمى وواجباته مما يتضح منه أن غنمه أكثر من غرمه. وبين الفرق الكبير بين نظام الذمة الإسلامي ونظام الحماية الحديث الذي همه الاستيلاء على المواد والاستعلاء على الأقوام، وبين أن أرى عهد بين المسلمين وغيرهم هو في كفالة الله وشهادته عليه، فهو في حماية العقيدة وحراسة الضمير الناصح المخلص الذي لا يخدع ولا ينافق.
ولا تملي شرائط الصلح عوامل الخوف والطمع، وليس للحرب إلا خاتمة واحدة هي أن يستقر السلام والعدل
وبين أن حرمة العهود فوق صلة الدين: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق) وهو مبدأ يفخر به المسلمون وتعتز به البشرية كلها
وقد أكرم الفرد واحترم كلمته التي يقولها في تأمين محارب أو إجارة مستجير ولو كان ذلك الفرد عبدا أو امرأة. . . واحترم الكلمة ولو لم تكتب ما دام قد سبق عليها اتفاق، وبين أن الحالة الوحيدة التي يجوز فيها نقض العهد هي حالة التوجس وخيفة الخيانة من المعاهد. وهو نقض يجب الإعلان والنبذ به على سواء.
والحق أن ما في فصول هذا الباب شيء عظيم جداً يجب أن يوضع على أعين الأشهاد في المجال الدولي لأنه الطريق السلام والأمان. وقد اضطرت إلى خطف بعض مسائله الهامة خطفا لا يغني.
في أسباب الاضطراب العالمي
في الفصول الخمسة لهذا الباب تتجلى عقلية المؤلف كرجل عالي مهتم بقضايا الإنسانية كلها مشخص لأدواتها، واسع المعرفة بدخائل حياتها في المشرق والمغرب. وإذا كان تشخيص الداء في الطب هو أول وسائل العلاج، فإن ذلك صحيح في الاجتماع أيضا. وإذا كان ذلك لا يتأتى إلا لمهملين من الأطباء، فإن هذا لا يتأتى إلا للمهملين من علماء الأجتماع.
لقد حصر الأسباب الرئيسية للأضطراب العالمي في الاستعمار، وفي النزاع بين الطبقات على النظم الأقتصادية، وفي الإفراط في النزعة الوطنية والعنصرية وإنكار حقوق الأخرسين، وفي طغيان المادية وحب الترف، وفي انهزام القوى المعنوية أمام القوى المادية مما ترتب عليه تبلبل الأخلاق والعقائد والعرف الصالح، وفي تفشي فلسفة الكذب والغدر والنفاق في السياسة.
وقد بين بالوقائع والأسانيد أن الاستعمار خراب وان فرائسه هي فرسانه! وأنه سراب لا تملأ أمواجه ملعقة. . . وأنه سبب الحروب في القرنين الاخيرين، وإنه شر الغالب وشر على المغلوب في الغرب والشرق، وأنه لا بد من التضحية به لنجاة الحضارة، وأن الرسالة الخالدة تنكره وتنكر مبرراته!
أما نزاع الطبقات، فقد صار في العصر الحديث عنصرا للاضطراب العالمي بين الفقراء والأغنياء والعمال والصناع والملاك والمديرين. وقد ضاعف التعقيد العصري للمذاهب والدعوات في خطر هذا العنصر، وكذلك ضاعف استخدام البخار والكهرباء في عوامل استفحاله بين رأسمالية الآلة والعمال، وتفرق الناس من اجل فلسفات هذا النزاع بين الشيوعية والرأسمالية والفاشية والنازية والديمقراطية. ولا شيء يستطيع أن يقاوم التعقيد في هذا العنصر إلا البساطة الدينية في معالجة مشكلات المال. فقد جعلت للمحروم حقه الثابت في أموال الناس جميعا وهذا المبدأ الثابت يتناوله التنفيذ المرن بحسب الظروف. والقرآن أوجب الزكاة، وعلى الإمام أن يوجهها حسب الحاجة. وكل مصلحة اجتماعية فهي سبيل الله، فتشمل التامين الاجتماعي والصحي مثلا. ولم تكتف هذه البساطة أيضاً بفرض هذا الحق المعلوم في أموال القادرين للمحتاجين، بل جعلت الدولة كفيلة على إقامة التوازن الاجتماعي، سواء أكان بالزكاة أم بغيرها إن لم تكف الزكاة الحاجات العامة. وحيثما كانت المصحة واعدل فثم شرع الله ودينه. وفي التاريخ الإسلامي أمثلة رائعة لتصرف الدولة حسب الظروف مع عدم تقيدها بالنصوص القرآنية في أهم المسائل الاقتصادية والسياسية. وقد ضرب منها مثلا في تصرف أبي بكر في مساواة السابقين إلى الإسلام واللاحقين في الأعطية وتفضيل السابقين في عهد عمر، ومثلا آخر في عهد عمر حين رأى عدم تقسيم أرض العراق والشام كفيء على المحاربين وأجرى لهم أعطية من خراجها مع بقائها في أيدي الأجراء يعملون فيها محافظة على حقوق الذريات والأجيال الآتية. مع إن النص القرآني صريح تقسيمها إلى كفيء على فاتحيها.
وقد ألزم الإسلام السلطان بمنع النزاع بين الطبقات وبالتامين والتوازن الاجتماعي بالتهذيب الروحي ومحاربة الترف والبذخ والجمع بين الوجدان والسيف
أما النزاعات القومية والوطنية، فقد صارت عصبية حديثة أوحاها التشدد في الحدود الجغرافية والجنسية، وهي نزعات لم تكن بهذا الاستفحال في العصور القديمة والوسطى حين كانت الدولة الواحدة يشترك في خدمتها عناصر وأجناس متفرقة كلها ترقى سلم المناصب الرفيعة بحسب المواهب في خدمتها. فليست هذه النزاعات الحديثة سببا في الاستقرار بل عاملاً في زيادة الاضطراب لأن الحدود السياسية الخالية للأوطان حدود صناعية كثيرا ما تفرق بين جنس وآخر وتضم أجناسا مختلفة. وقد مر قرنان على أوربا وقد غرقت في الدماء من جراء النزاع على الحدود وتحرير الأقليات بين الفرنسيين والألمان، وبين النمسويين والألمان وبين هؤلاء وهؤلاء والصقالبة، وبين النمسا وإيطاليا، وبين البلقانيين جميعا، وبينهم وبين الدولة العثمانية وبين روسيا وغيرها من جيران الشرق والغرب، وبين المجر والتشك والبولونيين والرومانيين.
وقد أنتقلت هذه العصبيات إلى الشرق لتأدبه بأدب الغرب، فعلى سنجق الاسكندرونه خلاف بين سوريا وتركيا، وعلى شط العرب بين العراق وإيران، وقد ابتدأو ينسون الأدب المحمدي في النظرة إلى أشبار الأرض. . .
وقد لجأت الدولة إلى الهجرة الإجبارية فلم يستفيد منها أحد، وحاولت عصبة الأمم حل المشكلات الأقليات فلم تحصل على طائل والإسلام لا يعرف الوطنية والعنصرية إلى هذا الحد الوثني، ويضع العلاقات البشرية على أساس معنوي، فإن الخلاف فيه أخف من الخلاف في المجال المادي الذي يثير أخس الغرائز وأعنفها وليس لديه اعتراف بسيادة أو عبودية، بل بالأخوة الشاملة. أما هزيمة القوى المعنوية، فهي اثر من آثار السيطرة على المادة، وسرعة التطور المادي وبطأ التطور الروحي، وتباعد الفروق بين الناس تبعا لحظوظهم من العم المادي ولعلاج ذلك يجب التوفيق السريع بين الروح والمادة قبل الكارثة الكبرى التي ستهدم الحضارة. والإسلام قد وفق بين الحياتين لئلا تستحيل نعم المادة إلى نقم كما وقع في الحربين الأخيرتين التي حطمت مدينتنا مرتين في ربع قرن. ولا ملجأ للقوى المعنوية إلا بالرجوع إلى منابع الرحمة والهدى في الأديان.
عبد المنعم خلاف