مجلة الرسالة/العدد 699/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 699/البريد الأدبي
بين (أومن بالإنسان) و (هذي هي الأغلال):
لقد أخذتني فرحة هزتني حين تصفحت بسرعة كتاب (هذي هي
الأغلال) للأستاذ عبد الله القصيمي النجدي، فرأيته يتناول بالشرح
والتأييد القضيتين اللتين يدور حولهما فكري ويكاد يقف على الدعوة
إليهما قلمي منذ ست سنوات أو تزيد، وهما قضية (الأيمان بالإنسانية)
وقضية الاعتقاد أن (الحياة صادقة) وذوو الفلسفات الذين يزورون
عليها وينادون بالحرمان من ينابيعها كاذبون، لأنني اعتقد أن اعتناق
هاتين الفكرتين أمر جدير أن يحدث انقلاباً عظيماً في نظرة الناس إلى
أنفسهم والى الحياة والى واهب الحياة، إذ هما الشيء الواحد الجديد
الذي يمكن تقديمه للبشرية جميعها الآن ويمكن اللقاء بينها في مجاله،
ويمكن به إمدادها بكثير من عوامل التأميل والإسعاد والتفاؤل.
فما إن رأيت أن الفصل الأول من (هذي هي الأغلال) عنوانه (لقد كفروا بالإنسان - الأيمان به أول) حتى قلت الحمد لله ثم الحمد لله! إذ أرى عالما من نجد - وما أدراك ما علماء نجد في محافظتهم! - يعتنق الفكرة ويدعو لها بحماس ويصدر بها كتابه.
وما إن رأيت كذلك اغلب فصول الكتاب يستعرض أقوالا معدودة في سجل الحكم والفضائل عند كثير من المسلمين وتنحى عليها بالنقض ثم تجعلها في سجل الرذائل المدمرة للحياة والدي، حتى ثنيت الشكر لله على أن ما سبق أن قلته في مقالات (الحياة صادقة) في هذه المجلة في أوائل سنة 1942 وما بعدها قد وجد صدى مدويا. ولكن ما لبثت هزة الفرح والابتهاج أن انقلبت إلى أسى ووجوم واشمئزاز! إذ رأيت الكتاب يخلو من أدنى إشارة إلى تسجيل سبقي في هذه الدعوة، وإذ رأيت صاحبه مع ذلك يحدث ضجة مفتعلة حوله، ويصدر غلافه بهذه الجملة (سيقول مؤرخو الفكر: أنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل. . .) وأنه (ثورة في فهم الدين والعقل والحياة. . .) كأن مؤرخي الفك عميان لا يتلمسون مصادر الآراء!
وإني أعجب كيف يجرؤ كاتب أو مفكر يحترم رأي الناس ويستحي من نفسه أن يسبق التاريخ ويصدر حكمه على عمله بهذه الدرجة من الافتتان والزعم!
إن المفكر الواثق من أنه أتى بجديد حقا يضع آثاره بين يدي التاريخ في صمت ويدع له أن يحكم ولا يتعجل الحكم حتى تعلمه الأيام سواء في حياته أم بعد مماته. . والمفكر الأمين الثقة الغيور على الحق وحرية الفكر يترفع عن أن يغمط حق غيره وعن أن يطغى جهود من سبقوه بالدعاوة الجريئة لنفسه، لان هذا إن جاز في مجال الإعلان عن المتاجر والمهن فلن يجوز في رحاب الفكر والخلق
ولكن ما للمؤلف وللحديث عن الاخلاق، وهو كما روي عنه الأستاذ سيد قطب في مجلة السوادي يرى (أنه يجب أن ننفي العنصر الأخلاقي من حياتنا، فالحياة لا تعرف العناصر الخلقية ولا قيمة لها في الرقي والاستيلاء. . .).
ومما زاد أسفي أن أرى المؤلف يتجاهل حين سأله الأستاذ قطب أن يكون قد علم بسبقي إلى الفكرة. فعلى فرض أنه لم يطلع على (أومن بالإنسان) بعد ظهوره مجموعا في سنة 1945 فهل يكون من المقبول أو المعقول أنه لم يقرأ حتى بعض مقالات (أومن بالإنسان) التي تقارب العشرين حول تلك القضية أثناء بسطها في (الرسالة) وأحيانا في الثقافة في مدى خمس سنين تقريبا، ولا يزال أبسطها للان ويتناولها بعض الكتاب بالمناقشة؟ أم هو يزعم إنه لم يقرأ (الرسالة) أيضاً طول هذه المدة!!
ولئن كان سروري بأنتشار الفكرة برغم انتحال ناشرها لها قد قعد بي ما يزيد على شهرين بعد اطلاعي مصادفة على كتاب (هذي هي الأغلال) لدى الأستاذ الجليل محب الدين الخطيب، دون أن أنبه القراء، يضاف إلى ذلك أنني كنت على ثقة من أن النقد اليقظ سيرد الأمر إلى صاحبه. . . لئن كان ذلك هو ما قعد بي عن التنبيه فأنني حين اطلعت على مقال الأستاذ سيد قطب في مجلة (السوادي) في الأسبوع الماضي ورأيته يكشف عن خبايا كبيرة في آراء القصيمي الشخصية وسلوكه السياسي نحو محطمي أمجاد الإسلام والأديان ومهدري كرامة الإنسان. . . شعرت أن الواجب يقتضي أن انبه القراء إليه.
ولعلي أجد من الوقت ما يسمح بتتبع الالتواء الذي خرج به المؤلف عن جادة الفكرة الأصلية التي تبناها في حياة أبيها. . .
عبد المنعم خلاف
إلى الأستاذ حسنين مخلوف:
قرأت شاكراً ما كتبت وكتبت اليد ذات السوار وكتب الأستاذ فؤاد السيد خليل، ورضيت ووافقت في الجملة، وأنا رجل لا اكره النقد ولا أطيل النزاع في أدبي وأسلوبي، لاني اعرف من نقائصهما أضعاف ما يتنبه له الناقدون، وما ادعيت لهما الكمال قط، ولكني أنازع فيما أجد فيه خروجاً على الجادة ومضرة للناس كقولك: (ولعللي أصدقك، وقد كنت في ماضي حياتي معلما في مدارس البنات، فهذه المخاوف التي استولت على ذهنك كنا نتصورها، أو قريبا منها، حتى إذا وجدنا أنفسنا في هذا الوسط، أحسسنا أن هؤلاء البنات بناتنا، والمعلمات أخواتنا، وزال هذا الخوف الأسود من مشاعرنا، وصارت الحياة عادية، وهذا شان سائر المعلمين في مدارس البنات
(فرفقاً بالناس وحنانيك، وإنصافاً، يا حضرة القاضي، فالأمر إن شاء الله على ما تحب بفضل القدوة الصالحة، والتهذيب الصحيح، وإلا فلتغلق مدارس البنات، والسلام)
يا أستاذ، إن القضية أهم من أن نضيع الحق فيها في غمرة المجاملات، وان لها من اثر في حياتنا ما يوجب علينا إيجابا الكلام فيها بصراحة ووضوح، كما يتكلم الطبيب في المرض ابتغاء علاجه، وعلى ذلك أقول لك اننا، وما قلت (نا) على سبيل تعظيم نفسي، بل أردت الجمع الحقيقي، وأنا أتكلم عن نفسي وعن كل من قال أنا عربي، وكل من شهد أنه لا اله إلا الله، وأسوق قضايا لا أظن أن في الدنيا عربياً أو مسلماً يعارض فيها.
أقول لك: إننا لا نجد مدارس البنات في الشام على ما نحب، بل على ما نكره اشد الكراهية، وعلى ما نألم منه ونشكو ونستغيث، وإذا فتشنا عن القدوة الصالحة في مصر وجدنا مدارس مصر أدهى وأمر، ووجدنا أن مدارس البنات في الشام إذا قيست بمدارس مصر كانت مساجد، واشهد أنه ما جاءنا هذا الذي نشكو منه إلا من مدارسكم ومجلاتكم وأقلامكم. ولا تحسب أني أتعصب للشام، ولا تأخذك عصبية لمصر، فأنا أيضاً مصري الأصل طنطاوي، ولقد أحببت مصر وعشت فيها زمنا، وأنا قادم إليها الآن لأعيش فيها زمنا آخر، ومن محبتي لها اذكر عيوبها. . .
ونحن، يا أستاذ، نريد العلم للرجال والنساء، ومن ذا الذي لا يريد العلم؟ ولكنا نريد الدين أيضاً ورضا الله، ونريد الأخلاق والعفاف والشرف، ولا نستطيع أن نصدق ولو أكدت القول لنا، أن في الدنيا شابا متدفق الشباب رجلا ناضج الرجولة، يعيش بين بنات ناضجات الأنوثة، كاشفات الوجوه والأيدي والسوق يقفزن أمامه ويلعبن، ويمرحن ويضحكن، ويقران عليه في الدروس أشعار الحب والغزل، ويقران وحدهن هذه المجلات المصورة الملعونة، ويزين هذه الأفلام الدنسة، لا يصلين وكيف يصلين مكشوفات العورة، ولا يعرفن الحلال ولا الحرام، ثم يحس أن هؤلاء البنات بناته، وان المعلمات اخواته، وتصير الحياة عادية، ويكون هذا الشان سائر على المعلمين في مدارس البنات، هكذا التعميم بلا استثناء!
إذا كانت هذه الحياة عادية، ليس فيها شيء غريب ولا شاذ، كانت قوانين الطبيعة التي وضعها الله، وكانت أحكام العقل، وكانت مقررات الشرع هي الشاذة الغريبة، فانظر رحمك الله ما تقول!
يا أستاذ، أنت رجل مسلم، فهل تعتقد أن الله حرم شيئا عبثا، ومنعه لهوا وتسلية، تعالى الله عن ذلك، أم لحكمة بالغة، ومنفعة شاملة؟ وهب أن الحكمة من أمر أو نهي خفيت علينا، فهل يملك مسلم تعدى حدود الله؟ وإذا هو استحل ما حرم الله، فهل يبقى مسلماً؟
فقل لي: هل يجوز في دين الله أن تعيش ويعيش الشباب في هذا الوسط، ولو كان المستحيل وصارت الحياة عادية، ورأيت البنات كبناتك، والمعلمات كأخواتك؟ أريد الحكم الفقهي الشرعي لا أريد الآراء والخطابيات، فإن مصر دينها الرسمي الإسلام!
وهل يجوز وهذا هو حكم الله، والغرائز بعد موجودة، والميول قائمة، والنفس أمارة بالسوء، والشيطان عامل للشر كادح، أن تقيم وزارتكم مهرجاناً رياضياً في أول الصيف الماضي، نرى صورة له في مجلة مصورة، فنرى من التكشف (تكشف البنات اللائى هن كبناتك). ومن الأوضاع الرخيصة الفظيعة ما يذكر بأخبث ما يشاهد في السينما الخليعة، وأن تفتح مسبحا للبنات ونبصر صورهن منشورة وهن يسبحن فيه أمام الرجال؟
فهل يجوز هذا في شريعة العروبة وغيرتها وشهامتها؟ هل يجوز في دين الدولة المصرية الرسمي؟ هل يجوز عند أهل العقل الذين يعملون بعقولهم ما هي نتائجه والى أين يوصل؟
أهذه هي القدوة الصالحة؟ أهذا هو التهذيب الصحيح؟ انصف أنت أيضا، فما يطلب الإنصاف من القضاة وحدهم. . . إنه ليطلب من المفتشين!
آما القصة التي انتقدتها، فإني أحلف لك بالله الذي لا يجرؤ على الحلف به كذبا مسلم، إنها واقعة وإنها ليست متخيلة، وأني ما صنعت فيها إلا ما يصنعه إذ يكتب القصة الواقعية لأديب، وان الطالبة كتبت له الشعر وزارته الدار، ولك أن تصدق أو تكذب، أنت حر!
(دمشق)
علي الطنطاوي