مجلة الرسالة/العدد 698/موازين البلاغة بين القدامى والمحدثين
مجلة الرسالة/العدد 698/موازين البلاغة بين القدامى والمحدثين
للأستاذ كامل السيد شاهين
- 1 -
وبعد جهد جاء الأستاذ العماري يتمسح في الآية الكريمة (والقمر قدرناه مناول حتى عاد كالعرجون القديم) زاعما أنه نظير قوله الآخر في تشبيه البنفسج بأوائل النار. . . الخ. غافلا أو متغافلا عن قدر التشبيه وما وراءه، مدعيا إن أمره واقف عند حد الدقة والانحناء. قال - والاصفرار، ولو كان الأمر كما رجم لكان منزلة التشبيه في الآية منزلة التشبيه بالمنجل والزورق الفضي، وقلامة الظفر، مما يظهر فيه النحول والتقوس.
فالمعنى الذي تمتلئ به النفس عند رؤية القمر آخر الشهر هو الفناء بعد الامتلاء، وذلك أن القمر نزل منازل مختلفة منذ طلوعه فهو قد زاد نوره قليلا قليلا ثم استكمل ثم تناقص قليلا قليلا حتى كاد يذهب ضياؤه، مثله كمثل العرجون يكون حيا في نفسه ممدا شماريخه بالحياة ثم يدب فيه اليبس والفناء فيرجع ولا غناء فيه ولا حياة. فوجه الشبه بعد التصوير يرجع إلى قلة النفع والاضمحلال واقتراب النهاية، وإنما يهدي إلى ذلك سلامة الفطرة وحسن التذوق.
ولا أترك القول في التشبيه المحسن حتى أضع يد الأستاذ على الميزان الذي يعرف به قيم التشبيه جمالا وغثائه فقد ترك القدماء لنا ميزانا شائلا أملته طبيعتهم الأعجمية المتفلسفة، وقديما تحدى بعض الأدباء ابن الرومي ببيت المعتز في الهلال:
انظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وقوله في الآذريون، وهو زاهر اصفر في وسطه خمل أسود:
كأن آذريونها ... والشمس فيها كاليه
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غالية
فمذهب القدماء (إن الغرض من التشبيه هو مضاهاة أبيض على أبيض، وأصفر على أصفر، ومستدير على مستدير، ومستطيل على مستطيل، مما يرى بالعين، ولا فضل فيه للشعور والتخيل، وقصارى ما يطلب من الشاعر في التشبيه أن يثبت لك إنه رأى شيئين في شكل واحد ومن لون واحد كأنك في حاجة إلى ذلك الإثبات الذي لا طائل تحته، فإما إنه أحس وتخيل وصور إحساسه وتخيله باللفظ المبين والخواطر الذهنية الواضحة فليس ذلك من شانه ولا هو مما يدخل في باب البلاغة والشاعرية.
وهذا خطأ بعيد في فهم الوصف والشعر يخرج بهما عن القدرة النفسية إلى القدرة الإلهية التي تحكي المناظر الظاهرة كما تحكيها المصور الشمسية.
وليس يعنيك أنت أن يكون الشاعر صحيح العين مطلعا على المرئيات المتشابهة ليتصل وجدانك بوجدانه، ولكنما يعنيك منه أن يكون حيا يشعر بالدنيا، ويزيد حظك من الشعور بها) ويجلي لك ما اضطرب في نفسك من أحاسيس وخوالج لا تستطيع لها كشفا ولا بيانا وتلك مزية الشاعر في كل زمان، وما كان للقدامى أن يخلطوا في الحكم لولا انه التبس عليهم ملكة الشعر بملكة الوصف، وأن هذه شيء وتلك شيء آخر. (فمن وصف وشبه ولم يشعر فليس بشاعر، ومن شبه وأبلغك ما في نفسه بغير وصف مشبه).
ذلك هو ما جر عبد القاهر وغيره إلى سوء الاختيار والى طول الإطراء لسخافات هولاء الوصافين المصورين، وإلا فأي جمال وروعة وأي وجدان أثاره الشاعر بقوله في وصف منسر البازي:
في هامة غلباء تهدي منسرا ... كعطفة الجيم بكف اعسرا
يقول من فيها بعقل فكرا ... لو زاهدا عينا إلى فاء ورا
فاتصلت بالجيم صارت جعفرا
وتقرأ عبد القاهر، فإذا كلام جميل، وتطريز بديع أملاه تركيب الرجل العقلي الفلسفي.
ويجري في هذا الميدان قوله:
كلنا باسط اليد ... نحو نيل فرند
كدبابيس عسجد ... قضْبُها من زبرجد
وقوله الآخر:
لم أر بد صفاً مثل صف الزُّطَّ ... تسعين منهم صلبوا في خَطَّ
من كلَّ عالٍ جذعُه بالشطَّ ... كأنه في جذعه المشْتَط
أخو نعاس جدَّ في التمطِّي ... قد خامر النوم ولم يَغُطَّ
كل هذه صور ولكنها ليست شعرا ولا تقوم في باب الشعر بقليل ولا كثيرا، ولا يحسب لصاحبها وان رقت صناعته بين الشعراء حساب، وكل ما لها من حسن نرجعه دقة الريشة، وقوة الملاحظة. أما الشعور، أما الإحساس، أما الإثارة التي تهز الوجدان، فما أبعدها عن هذه الصورة الميتة الجامدة.
والفرق بين الشعر والوصف، كالفرق بين الحياة والموت فالذي يشعر يعطيك صورة تدب الحياة في أعطافها، والذي يصور يعطيك تمثالا لا حركة فيه ولا حياة.
- 2 -
يقول الأستاذ الخولي في قول المتنبي:
فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال
كلامهم في أن الغرض من التشبيه بيان أن وجد المشبه ممكن مرفوض لأن الأديب لا يضع نفسه موضع المناقش بل يفرض نفسه على الناس. وإنما دعاه إلى هذا التمثيل أن الناس ينكرون المزايا، فقال إن ذلك نظائر. اهـ
أما أن الشعراء يفرضون أنفسهم فذلك ما لا يسع أحدا التشكك فيه، ودونك فافتح صحيفة من ديوان، أي ديوان، فانك واجد أكثر من مثال:
قال أبو العلاء في رثاء الشريف الموسوي:
ذهب الذي غدت الذوابل بعده ... رُعْشَ المتون، كليلة الأطراف
طار النواعبُ يوم فَادَ نواعيا ... فندبنه، لموقف ومُنافِ
أسفٌ أسفَّ بها واثقل نهْضها ... بالحزن فهي على التراب هواف
فهذا الذي ادعاه في اختلاج أواسط الرماح وكلال أطرافها، وهذا الذي ادعاه من ان الغربان قامت نوادب للشريف، وأنها لحزنها ثقلت حتى كادت تخالط التراب، وما زعمه بعد من أن الغربان ترثي الشريف بقصيدة على روي القاف.
هذا كله ادعاء سوغه أن الشعراء يفرضون أنفسهم على الناس، فليس في حسابه أن يقول له القوم كذبت فاقم الدليل على ما تقول. فإذا قال المتنبي أنت أربيت على الأنام وفقتهم، فما عليه باس، وليس لأحد أن يقول له هذا غير ممكن أو ممكن حتى يقال إن قوله: فإن المسك بعض دم الغزال لإثبات هذا الإمكان ولكنه حين يقول ذلك يؤكد دعواه، ويقرب المعنى الذي قصده إليه، وإلا فما هو بالذي يحتاج أن يثبت إن الأمر ممكن، لان الشاعر ان يدعي ما يشاء وليس لأحد أن يحصى عليه، فاقبض على هذا الأصل وعه، وتبينه، فلن تجد تناقضا ولا غرابة، وجمال الرد في هذا: ان الشعراء لهم ان يدعوا ما شاء لهم الخيال، وان التشبيه هنا للتأكيد والتقوية والإيضاح ولا يفوتني أن أنبه الأستاذ أنه ذكر أن مرد الغرابة في كلام الأستاذ الخولي أمران، ثم ذكر إحداهما ولم يذكر الاخر، فلعل في هذا المنسي الإلزام والإفحام، الإقناع والإمتاع!.
- 3 -
يقول الأستاذ الخولي:
(أ) هم يقولون إن بعض التعابير أوضح من بعض، فعلم البيان هو الذي يبين درجات الوضوح).
فيقول الأستاذ العماري (ليست وظيفة علم البيان البحث في درجات الوضوح) ثم يقول (هذا العلم له أبحاث كثيرة، قد يكون البحث في وضوح الدلالة أقلها).
فأي تهافت هذا وأي اضطراب: علم البيان لا يبحث في الوضوح والخفاء، علم البيان يبحث في هذا ولكن ليسٍ هذا وحده.
تعال - يا أستاذ - أين الخطأ في قول أستاذ الجامعة؟
هل عبارته تفيد أن علم البيان لا يبحث إلا في أمر الوضوح والخفاء كما تزعم؟. انه يقول (علم البيان هو الذي يبين هذا نعم هو ذاك فليس ذلك موكولا إلى علم المعاني أو علم البديع، ولكنه لم يقل إن هذا كل مباحث علم البيان يا دقيق!!
(ب) ويقول أستاذ الجامعة:
(والجملة تتكون من أجزاء سليمة، وهذا ما يكفله علم النحو) فيزعم الأستاذ العماري أن النحو (يبحث في سلامة التراكيب) و (أن الذي يبحث في المفردات إنما هو علم التصريف)
فليفرخ روعك يا صديقي فإن الكلمة في الجملة لها ناحيتان هيئتها من مادة وترتيب حروف وضبط وهذه للصرف، وناحية آخرها - إذ هي في جملة يا فتى! - وهذه للنحو.
وأستاذ الجامعة حين كفل النحو بذلك إنما أراد النحو والصرف، قال في الشافية: وأعلم إن التصريف جزء من النحو بلا خلاف بين أهل الصناعة).
(جـ) ويقول الأستاذ الخولي:
(والجملة قد تعرض عرضا متنوع الأنماط) فيصل الأستاذ المحقق إلى إنه كان يجب أن يقول: ومعنى الجملة. . . إلى آخره.
وذلك لا يخفى على غبي ولا لبيب.
يقول بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا، ليل تهاوى كواكبه
فقرر أستاذ الجامعة أن الشاعر قصد وراء التصوير وهو مداخلة السيوف ومزايلته والتماعها في العجاج، معنى نفسيا هو الحيرة والاضطراب فتشبيهه هذه الحالة بالليل تتساقط كواكبه مرشد قوي إلى هذا الخوف الذي يمتلك المحارب عند الالتحام وهياج العثير وانعقاده على رءوس الفرسان:
ولكن الأستاذ العماري ينكر هذا، وما كان لينكره لولا إنه يقتفي أثرا مضللا، فينقل ما كتب عند القاهر حرفا حرفا، ويسير وراءه إصبعاً إصبعاً، ومع هذا فإني أناشد شاعريته أيهما أليق بالشاعر: أن يكون مصورا نحاتا كما يريده القدامى أم يكون حساسا للظلال التي تحيط بالمرئى مشعرا لك بها في وضوح ونقاء كما يريد النقاد المحدثون؟
أحسب أن حكم الشاعرية لا يعضدك ولا يسندك وحسبي بها حكم.
كامل السيد شاهين
المدرس بالمدارس الأميرية