مجلة الرسالة/العدد 698/على هامش النقد:
مجلة الرسالة/العدد 698/على هامش النقد:
شعر من الجزيرة
للأستاذ سيد قطب
1 - الهوى والشباب: أحمد عبد الغفور عطار
2 - الشاطئ المسحور: محمد عبده غانم
هذه تحية لا نقد؛ فتلك بواكير يقظة في قلب الجزيرة، ما أجدرها منا بالتحية، لا لأنها لا تثبت النقد، ولكن لان التحية هنا أليق!
وهما ديوانان من الشعر، والشعر في هذه الفترة يعاني ازمة، فبين مئات الكتب التي صدرت في فترة الحرب بوفرة، لم تصدر إلا دواوين تعد على الأصابع، وذلك موجب آخر من موجبات التحية!
شعر من الحجاز وشعر من اليمن. . وقد اعتدنا أن ننتظر الشعر في لبنان ومصر، وفي سورية والعراق، وربما تونس، فقد نبغ فيها الشابي شعلة تضوي ثم تخبو سريعا، فها هو ذا الحجاز، وها هي ذي اليمن تساهمان أيضاً بنصيب. . فما أجدرها بالتحية!
وكم ذا يسرني - كمصري مشتغل بالنقد الأدبي - أن أستقبل هذا النتاج، وأن أضم يدي على طاقة من تلك الزهرات من [مشرق الشرق العربي إلى مغربه، فمصر كثيرا ما تتهم بالتقصير في حق جيرتها، فهي في عرف بعضهم غافلة أو متغافلة عن خطوات النهضة الأدبية في البلاد الشقيقة.
وهذا ظلم لمصر، فما احسبها قصرت في التنويه بأي أدب، ولا بأي أديب وصلت إليه أنباؤه، وأني لأعلم أن صحافتها تفسح لأبناء البلاد العربية ما لا تفسحه لبنيها، وتؤثر بريد البلاد العربية على بريدها؛ ولا تجد في نفسها غضاضة ولا حسدا أن يتفوق بعض أبناء الشقيقات على بعض أبنائها؛ وأنها لحفية بكل ما يصل إليها من هناك. أما الذي لا يصل فليس الذنب ذنبها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وقبل أن يلومنا الإخوان عن إهمالنا لنتاجهم، يجب أن يسألوا أنفسهم: هل بلغنا نبا ذلك النتاج؟ هل هو يباع في اسواقنا؟ هل اعلن عنه في صحفنا؟ هل وصلتنا صحفهم التي أعلنت عنه؟ وإلا فما نجد سبيلا إلى الحصول على كتب مما يصدر في كثير من البلاد العربية إلا أن نقوم برحلة إلى هناك، وهذا ما لا يستطاع لكل فرد في كل آن.
لقد أعلنت مرة في (الرسالة) - وهي مقروءة في كل بلد عربي - إنني في حاجة إلى كل ديوان شعر والى كل قصة أو أقصوصة طبعت في شتى البلاد العربية، لان لدي بحثين معطلين عن: (الشعر المعاصر) وعن (القصة الحديثة)، ولأنني كرهت ان اقتصر على الشعر المصري وعلى القصة المصرية؛ وقلت: إنني لا اطلب (هدايا)، ولكنني اطلب هذه الكتب محولا ثمنها على البريد، ذلك إنني لا أجدها في السوق المصرية، ولا أجد لي سبيلا إليها. فماذا حدث؟
حدث ان تفضل بعض الشعراء والأدباء في فلسطين والعراق والحجاز بإهداء دواوينهم وقصصهم إلى، ولكن البقية لم تصلني كما أن سورية ولبنان لم يسمعا النداء، وهمس بعضهم في أذني: ان هناك موجودة على مصر لأنها تصدر أدبها ولا تستورد آدابهم وهذا غريب. . فلقد اشترينا هنا كل ما صدر إلينا من هناك، ومن سورية ولبنان خاصة، وإنني لأكره هذه النغمة، انها نغمة مقيتة - وفي جو الأدب خاصة - فكلنا شركاء في النهضة ومصر تؤدي واجبها الذي فرضته عليها الظروف، وانها لتجد نفسها سعيدة حين تنهض شقيقة لها أو أكثر بالمشاركة في العبء فهو عبء اثقل من ان تنهض به وحدها، وما يجوز ان ترتفع هذه النغمة المقيتة في بلد من البلاد الشقيقة.
فلندع هذا كله لنعود إلى تحية الشاعرين والديوانين
هنالك شبه عجيب بين النسيج الشعري في كلا الديوانين، فهو نسيج رقيق هفهاف، والشعر الحجازي القديم مشهور بالرقة والعذوبة، والشعراء الغزلون قد نشأوا هناك، فديوان (الهوى والشباب) ليس غريبا في بيئته، فالظاهر أن الرقة والعذوبة ما تزالا كامنتين - تحت الشظف - في مدائن الحجاز. اما (الشاطئ المسحور)، فيبدو انه يستمد عذوبته ورقته من خصب اليمن وروائها التاريخيين، فالبذرة هناك كامنة ما تزال.
وإذا كان في شعر الأستاذ (عطار) جزالة تمازج الرقة في بعض الاحيان، فإن شعر الأستاذ (غانم) انسيابا وسيولة دائمين في جميع فصول الديوان، ولكنهما قريب من قريب.
واليك قطعتان من الديوانين: يقول صاحب (الهوى والشباب) بعنوان (وعود الغانيات):
وعودك يا غادتي جمة ... ولكن الي اليوم لم تصدقِ
كأنك لم تبصري عاشقاً ... ألح به الحب لم يشفق
يعيش بعالمه كاسفاً ... ويغرقه الهم للمفرق
يسير بلا وعيه ناجياً ... إليك. . إلى بيتك المغلق
عساه يرى طيفك المشتهي ... يلوح له كالسنا المشرق
ويسمع صوتك جم الحنان ... يغرد كالبلبل المطلق
فيحسبه أغنيات الخلود ... ترف على قلبه الشيق
فهلا رحمتِ الفؤاد الحزين ... وأنجيته من ردى محدق
وهلا أنلت الرضى مغرماً ... يصافي الوداد ولم يمذُق!
بهجرك أمسى يذوق اللظى ... ولو أنت وفَّيت لم يوبق
ولولاك ما اجتر آلامه ... وأمسى صريع الهوى المطبق
وعاش على أمل شارد ... يلوح كآل الفلا المرهق
فإنك ان تكذبيه الوعود ... فليس سوى يأسه الُعْنِق
ألا فاصدقي مرة وامنحي ... حبيبك رشف الجنى الرّبق
فقد صرعته اكف الخطوب ... وما انفك عن حبه الموثق
وصفق كفيه غل الأسى ... فضاع حجاه مع المنطق
ويقول صاحب (الشاطئ المسحور) بعنوان (أنين)
لست تمشين على الأرض ولكن فوق قلبي
تلك أنغام خطىً قد مازجت روحي ولبي
ثقلِّي الخطو كما شئت ولا ترثي لصب
ضاق بالآلام والآمال في بعد وقرب
ما بارك الله مثل الناس من لحم وعظم
أنت إشعاع من القدس لقلبي المستحم
جمّع الله بك الألوان في أبدع نظم وأرانا كيف يجلو آية الحسن بالإثم
كم تعرضتُ لعينيك لكي أحظى بنظره
وتمنيت بان ارشف من ثغرك قطره
وتحايلت لكي ألمس من جَعْدِك شعره
وتلويت لكي أقطف من وردك زهرة
وتمرّين كأني لست موجوداً بقربك
وكأني ما ملأت الكون أشعاراً بحبك
لا تغضى الطرف عني وانظري نحوي بربك
أنا والله الذي ترضْين لو عشتِ لقلبك
أنا لحن في فم البلبل ترويه الرياح
ورحيق في كؤوس الحب تحسوه الملاح
وشعاع في الثرى النعسان يزجيه الصباح
وشذا ما منه للهائم بالروض براح
لستُ أدري ما الذي تخشيْن مني لست ادري
وأنا الشاعر لا أرضى لمخلوق بضر
أنا لولا لوعتي صنتُك في قلبي كسرِّي
ومنعتُ القلبَ أن يخفق حتى لا تضري
كم يقاسي الشاعر الهائم في دنيا الجمال
كم له من أنة حمراء في سود الليالي
ودموع دونها لولا الهوى رطب اللآلي
قد جرت فوق الروابي وتلاشت في الرمال
أنت يا رب الذي أوجدت فينا الشاعرينا
وجعلت الحب للشاعر في دنياه دنيا
كلما لاح الحب جميل جن بالشوق جنونا
ومضى ينفث في آهاته الداء الدفينا لست ادري لِمْ خلقت الحب يا رب غشوما
وملأت القلب بالإحساس والوجد جحيما
لو محوت الحسنَ ما ذقنا به الذل الأليما
أو مسخت القلب صخراً عاش كالصخر كريما
أنت قد سلّحت يا رب الحسان الفاتنات
بلحاظ فاتكات وقدود طاعنات
وحرمت القلب في بلواه من درع الثبات
فهو بين الضرب والطعن على وشك الفوات
هاتان القصيدتان تمثلان فني الشاعرين كل التمثيل؛ وحينما يبدو من الأستاذ (عطار) ميل إلى اتباع (عمود الشعر العربي) يبدو من الأستاذ غانم ميل إلى الرومانتيكية (الإبداعية) ثم يجتمع كلاهما على الرقة والعذوبة كما رأينا.
وقد أثبت القصيدتين كاملتين بما فيهما من مواطن الضعف ومواطن القوة في الشعور والتعبير، لأنني ارمي إلى التعريف بالشاعرين. ولقد يدهش الكثيرون أن يجدوا مستوى الأداء قد وصل إلى هذا الحد في الحجاز وفي اليمن، لأننا حديثو عهد بالنهضة الأدبية في هذين البلدين الكريمين.
وقد يكون الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار معروفا للقراء في مصر، لأنه كتب في بعض صحفها، كما نشر من قبل كتابين: (كتابي) و (محمد بن عبد الوهاب)، والأول مجموعة مقالات لها قيمتها في الأدب والاجتماع والسياسة. والثاني دراسة طيبة لحياة المصلح الكبير (محمد بن عبد الوهاب)، فكتبت عنهما الصحف المصرية مثنية مشجعة.
أما الأستاذ محمد عبده غانم، فيسرني أن أقدمه شاعرا عذب الإيقاع، رقيق العبارة، حلو الروح
وإنه ليسرني أن أجمع بين الأدباء والشعراء في جميع البلاد العربية، وبين قراء (الرسالة) في مصر وفي هذه البلاد مرات بعد مرات. . .
سيد قطب