مجلة الرسالة/العدد 698/الغازي مصطفى كمال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 698/الغازي مصطفى كمال

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 11 - 1946



بحث وتحليل للدوافع النفسية التي دفعته إلى الزعامة

للأستاذ أحمد رمزي بك

(إن من السهل على المرء أن يعمل من أن يفكر، وإذا فكر

فمن اصعب الأمور أن يجعل عمله خاضعا دائما إلى ما

واصله إليه فكره).

جوته

عند اقتراب نهاية هذا العام يكون قد مضى على وفاة مصطفى كمال ثمانية أعوام، خرج منها العالم من حرب عالمية طاحنة؛ وتمخض فيها بالتغييرات والانقلابات الكثيرة. وكلما مرت الأيام تمثلت إلي شخصية الغازي كأنموذج لكلمة جوتة الخالدة: إذ هو من الأفراد القلائل في الشرق الذين عملوا بعد تفكير طويل، وأخضعوا أعمالهم لفكرتهم الأولى، ولما لازمهم التوفيق في جهادهم، لم تسكرهم نشوة الظفر ولا شغلتهم مظاهر السلطان عن فكرتهم التي بدءوا منها واخذوا بها، ولذلك جاءت حياتهم العامة صورة لما انطبع في أذهانهم من أفكار وآمال كبار.

إن الزعيم المجاهد والجندي المنتصر قد أصبح الآن في ذمة التاريخ؛ ولن يضيرنا اليوم أن نعرض لشيء من حياته وأعماله وخدماته، فلو كان حيا يرزق لقيل لنا إننا نتملقه أو نتملق بلاده وشعبه ولا تخذ بعض الناس ذلك للقيل والقال، أما وقد خفت ذلك الصوت الهادئ النبرات الذي كنت تسمع له رنينا عندما كان يخطب بالمجلس الوطني الكبير بأنقرة، وأغمضت العينان اللتان كانتا تشعان نورا وبريقا، فقد اصبح في وسعنا أن نقول ما نعتقد وان نكشف الستار عما نعلم وليست لنا غاية سوى إرضاء الحق.

بين 25 إبريل و9 ديسمبر 1915 كانت حملة الدردنيل حيث دارت رحى الحرب على روابي شبه جزيرة غاليولي، وكانت معاركها محط أنظار العالم إذ كانت سلسلة من التجارب للقيادة التركية بل كانت أكبر من ذلك للجندي المقاتل. كانت له مدرسة قاسية وامتحانا وعرا اظهر مزاياه وصفاته، ففي معركة أنافارطة أوقفت هذه الصفات الخلقية الكامنة في نفسه الهجمات البريطانية المتراصة المتتالية المتتابعة كأمواج البحر.

وكان ذلك تحت قيادة رجل نحيف الجسم عصبي المزاج امتاز على أقرانه الضباط بعناده وقوة شكيمته: ذلك هو الأميرالاي مصطفى كمال الذي أقدم في ساعة من ساعات التاريخ الفاصلة فحمل عبء أفدح المسئوليات التي تواجه رجل الجندية، إذ كان الموقف جدي الخطورة، وكانت القيادة في قلق من انهيار الجبهة إزاء هجوم بريطاني حاسم، ولم يكن الوقت يتسع للمداولة وتبادل الرأي فلم يكن لديها سوى رأيين يتلخصان في نعم أو لا، فنعم كانت قبول الهزيمة وما يتبعها من تراجع وفشل وسقوط العاصمة والفناء، و (لا) كان معناها قبول المعركة في ظروف سيئة ولكن فيها الثبات والعناد والمصادمة والمقارعة حتى يتم النصر.

وكان القائد الأعلى للجبهة الجنرال فون ساندوس الألماني وهو من خيرة ضباط السواري في الجيش البروسي قد وجدها كبيرة عليه أن ينطقها لما تحتمله من المجازفة في دخول معركة تبدو خاسرة، فهو ليس من أهل البلاد، وهو يعلم جيدا أن الفن العسكري والعبقرية لا يجديان شيئا أمام ساعات التاريخ الفاصلة، وأمام القرارات الحاسمة، التي لا تصدر عن إرادة القائد الحربي، إلا بعد أن يدعمها الشعور القومي الواعي، والإحساس الوطني الوافر الذي يربط المرء بأرض بلاده وتاريخها ويجعله يشعر بأخطار المستقبل والمسئولية أمام الوطن، وفي مواجهة الأجيال القادمة.

ولذلك ألقى العبء والمسئولية على عاتق مصطفى كمال، فتولى المعركة وأعلن للقائد الألماني (أن الهاجمين لن يقتحموا الجبهة وانه يتحمل وحده مسئولية ونتائج المعركة التي تبدو خاسرة).

واعترف مصطفى كمال بان الذي دفعه لذلك هو إيمانه بأن الجنود الذين تحت إمرته سيبذلون ما في طاقة البشر للقيام بواجبهم وأنهم سيقبلون التضحية بمجرد اشتباك القتال وأنهم سيثبتون في مراكزهم، وحقت فكرة قائدهم فقد ظهر جندي المشاة في الصورة التي رسمها في مخيلته مصطفى كمال. وهكذا ذاقت تركيا طعم النصر بعد سلسلة طويلة من النكبات والهزائم. فكانت وقفة رائعة لفتت الأنظار إلى عبقرية هذا القائد حتى انه عند زيارته لألمانيا بادرة الإمبراطور غليوم عندما قدم إليه بقوله: (الفرقة التاسعة عشرة أنا فارطة) ونظرة عابرة تريك ما هي هذه الوقفة.

إن القطع العسكرية التي في الخطوط الأمامية ذابت تحت نيران المدفعية وقذائف الأسطول ونيرانه المركزة، ولكن لم يتراجع أو يفر فرد واحد منها، بل فنيت بأكملها حتى آخر جندي فيها، وكانت عظيمة في موتها واستشهادها لأن الطلقات التي استمرت تقذف بها أوقفت الهجوم في أشد الأوقات أنقذت الجبهة إذ لم يطأ العدو خنادقها إلا بعد أن لفظ آخر جندي بها أنفاسه الأخيرة.

أما الفرق التي تجمعت في الخطوط التالية فقد كانت تسير إلى الموت وقد ظهر تصميم القتال على وجوه أفرادها، كانت رائعة في مواقفها وفي ثباتها وهي تتراص، كانت قد تحملت نيران العدو وقذائفه ثلاثة أيام بلياليها، لم تؤثر فيها أيام الانتظار ولا ساعات السير على الأقدام من موقع لموقع. كان يخيل إلى من رآها أنها قد أتت من المؤخرة من ساحة العرض أو احتلت مراكزها بعد راحتها وكأنها لا تعلم بما يدور حولها أو كأنها لم تر بعينها سوق الموت القائمة.

نعم كانت معنوياته وأعصابها بإقرار كل من كتب عن هذه الحرب من النقاد الحربيين من البريطانيين والألمان وغيرهم، فوق المستوى العادي للبشر في الساعة التي رأت قائدها العنيد يباشر القتال بنفسه ويصدر أمره مقتحما أول ربوة واجهته ليقودها إلى النصر، ولذلك جاء هجوم هذه الوحدات كإعصار يدك كل شيء، ولم يكن الخصم ينتظر دفاعا مثل الذي لقيه في أول يوم ولا هجوما كهذا، وعليه ولى الهاجمون الأدبار وأخلوا المواقع التي احتلوها متجهين إلى البحر، وفي مساء آخر يوم للمعركة جاء قائدهم من جزيرة لمنوس على باخرته من الجنوب ليشهد الشراذم تتجمع على الشاطئ لركوب القوارب، كانت بقايا الوحدات المنظمة التي قذف بها على الجزء الغربي من غاليبولي: وكان أن اتخذ الأتراك اسم المعركة لقبا لأبطالهم فحلوا بانافارطة واحتفلوا بها واتخذوا يومها عيدا لهم يعيدون فيه ويشيرون إلى أن بعثهم من جديد كأمة بدأ من ذلك اليوم.

واختتمت معركة أنا فارطة بأيامها ولياليها والقمر شاهد عليها بالنصر الذي جعل اعظم قوات العالم تبدل وتغير في خططها الكبرى واستراتيجيتها ثم تقرر إخلاء شبه الجزيرة، وانتهت بذلك حملت الدردنيل بعد أن فتحت الطريق للقواد والنقاد والكتاب الحربيين يضعون المؤلفات عن تاريخها وأيامها ومواقعها فإذا نحن أمام مكتبة فيها عشرات المجلدات بمختلف لغات العالم ما تقرا مجلدا بالإنجليزية حتى تراه مترجما للتركية ونرى مثيله فيها، وما تجد مؤلفا بالألمانية حتى تجد ما يساويه بالفرنسية، استعرض كاتبوها مواقع البر ومعارك البحر وحددوا سير القتال ومواضع الزحف وانتقدوا عمل الأساطيل كما انتقد رجال البحر عمل رجال الجندية، وتبين من أقوال الاختصاص أن مشاريع اقتحام المضايق درست وبحثت ووضعت تفاصيلها منذ عام 1906، وضع المؤلفون كتبهم وتداولها الناس ولكن رجلا واحدا بقي صامتا لا يتكلم هو مصطفى كمال صاحب المواقف الحاسمة وبطل أنا فارطة، إنه لم ينسب لنفسه شيئا بل قال: (إن ما حصل عليه من مجد ليس من عمله؛ إنه نتيجة كفاح الجندي التركي وحده) ذكر مرارا ذلك وأعاده وكرره.

لقد انتهت المعركة التي جعلت منه بطلا عالميا وخفتت أصوات المدافع وزمجرة البطاريات السريعة الطلقات وزالت الأخطار عن عاصمة آل عثمان فأقيمت الأفراح فإذا بأنصاف الرجال يدقون الطبول ويرفعون أرباع الرجال إلى السماء، وإذا بهم يتقاسمون الأسلاب ويفرحون بما لم يفعلوا وينسبون أمجاد الغير لأنفسهم ووقف القائد العنيد يدخن سيجارته بهدوئه وصمته وقد اتجهت أنظاره إلى آفاق بعيدة، فما الذي أوحت به إليه تلك الأيام الحالكة السواد وهذه المعارك الفاصلة، وماذا تركت في نفسه من دوافع وما حملت إليه من أفكار؟ لقد كانت أقامته وقتئذ بمركز قيادة الفرقة التاسعة عشرة بشبه جزيرة غاليبولي، وكان يقضي الأيام والليالي في وحدة شاملة وقد تجمعت أفكاره واتجهت إلى مستقبل هذا الوطن الجريح، وقد اخترقت عينه النافذة ما وراء الحجب فإذا هي تبصر ما يحيط بلاده من الأخطار وما يحاك حولها من مكائد وما يرسم ويدبر من خيانات وما يعقبها من أهوال ونكبات.

في لحظات التركيز والوحدة استرد مصطفى كمال ثقته في نفسه وإيمانه في أمته، فأيقن أن الأقدار قد حملته رسالة مقدسة هي إنقاذ تركيا من مصائبها. ويحدثنا عن نفسه في تلك الفترة الرهيبة فيقول: أخذت تنتابه الأفكار وترتاده الآمال الكبار وهو يحركها في بوتقة التحليل مستعينا بمنطقه الجبار فيفرز الغث من السمين ويطرد الهواجس والأحلام والخيالات الوهمية من نفسه بل يجتهد أن يحرر عقله منها، وأخيرا وجد ضالته فقال: (إن الإمبراطورية التي أقامها بنو عثمان من بقايا ملك آل سلجوق وقدر لها أن ترى فتح القسطنطينية يتحقق على يديها، هذه الدولة التي سببت المتاعب والمخاوف لأوربا وشعوبها ودانت لها الدنيا ستة قرون لم تعد شيئا مذكورا بعد الضربات التي تلقتها من أعداء الداخل والخارج، فكل عمل يبذل لإنقاذها سيذهب هباء منثورا).

واضطربت نفسه أمام نكبات تركيا المتتالية وحروبها التي لا تنقطع فأراد أن يجد لذلك مبررا من دروس الماضي متسائلا لماذا كانت بلاده من بين بلاد العالم هي التي توجه أليها الضربات والهجمات من كل جانب؟ حاول أن يجد تفسيرا لذلك فقال: (إن الأعلام الحمراء التي ظهرت في آسيا وحملتها جيوش المسلمين إلى أوروبا حتى ظللت أسوار فينا وقفت هناك وقفتها الأولى وكان ذلك في القرن العاشر من الهجرة، كما وقفت من قبل أعلام العروبة والإسلام في تود وبواتييه من أرض فرنسا في القرن الأول قبل الوقفة الثانية بتسعة قرون).

(إن العهد الذي لقي فيه المسلمون أولى هزائمهم وفترت فيه معاركهم الزاحفة الفاصلة قد حرك روح الانتقام لدى لعدائهم وأن القاعدة أن كل هجوم تعقبه فترة هدوء واستجمام للمهاجم ولكن هذا لا يمنع أن كل تصادم يحرك تصادما وكل هجوم يعقبه هجوم مضاد، فالهزيمة التي أوقعها شارل مارتل بجيوش المسلمين في فرنسا كانت فاتحة الهجوم المضاد الذي شنته أوروبا على العرب في أراضيها والذي دام ثمانية قرون حتى قذفت بهم على الشاطئ الافريقي، ولك تقف عند ذلك الحد، بل استجمعت قواها في القرنين التاسع عشر والعشرين وأخذت تطارد العرب في ديارهم وتنزع من أيديهم الجزائر وتونس ومراكش ومصر وطرابلس، وما ملاحقة هذه الشعوب والعمل على إفنائهم وإسكان الأوروبيين بأراضيهم سوى حلقة من حلقات ذلك الصراع الصليبي الذي بدأ من تور وبواتييه أو قل هو الثمن الذي يدفعه العرب نتيجة لهزيمتهم في قلب فرنسا).

(أما الأتراك العثمانيون فقد أثاروا الهجوم المضاد عليهم من يوم هزيمتهم تحت أسوار فينا إذ تلاحقت عليهم النكبات في خلال ثلاثة قرون، فرض عليهم القتال فيها ولم تبق أمة من أمم أوروبا إلا اشتركت وساهمت فيه بحق وبغير حق، بل وافتخرت بما سفكت من دماء المسلمين وبما أفنت من رجالهم وبما مزقت من أشلائهم وبما خربت من مساجدهم وآثارهم وقبورهم. لقد تجمعت على الأتراك القوى من كل جانب وحاصرتهم في البر والبحر ولم يبق بعد طول العراك سوى هذه البقعة من الأرض يرفرف عليها علمهم: فما قيمتها للجندي المقاتل الذي اغمض عينيه للمرة الأخيرة أمام نظر قائده؟ هي له الموئل والمآل فهل هي النهاية كما كانت للأجداد بداية؟).

في ليلة من ليالي أنقرة في قصر نشان قايا اخذ الزعيم يشرح هذه النظرية أمام جمع التف حوله فقال: (إن المعارك التي خذنا غمارها بالأمس والتي سندعي لغيرها بالغد هي حلقة من حلقات هذا الهجوم المضاد القاسي الذي شنه الغرب علينا وأثاره الترك بزحفهم إلى فينا كما أثاره العرب بفتوحاتهم الأندلسية ودخولهم إلى قلب فرنسا).

قال إنه بعد معارك الدردنيل وفي وسط حرب الاستقلال كان يحدث نفسه قائلا: (لقد فرض علينا الأعداء أن نفنى لأننا كنا أقوياء وخيل إليهم أن جهادنا التاريخي قد انتهى وإننا نعالج سكرات الموت في الموقع الأخير فهل تنفخ في البوق النغمة الختامية على أجساد آخر المقاتلين من بقايا تلك الملايين التي حادت بالارواح في حومة الوغى وتطوى تركيا وتحمل إلى اللحد كما فنيت وطويت آشور وروما وكما زال فرعون وثمود وعاد).

حدث عن نفسه قائلا انه في أسوء المواقف كان يشعر (بان هذا لن يكون وان بلاده ستبعث قوية وستحيا إلى الأبد).

وهنا التفت وصوب نظراته النافذة وخرج كلامه قويا فقال (إن إطلاق النظريات الإنشائية والآمال والأفكار الكبرى سهل على النفس ولكن التمسك بها والسير على ضوئها صعب، لان هذا يستلزم أولا إخراج ما يلابس هذه النظريات والمبادئ من عوامل السلبية وما يلازم الفكر البشري من عناصر الضعف والتردد، إن الأفراد الذين ينصبون أنفسهم لخلاص الوطن يجب عليهم أن يتجردوا من أشياء كثيرة عزيزة عليهم).

ذلك مبدؤه الذي نادى به في تلك الليلة؛ وتفسير ذلك أن معارك الدردنيل أصبحت له قوة دافعة بل كانت حدا فاصلا في حياته إذ أمضى الشهور ونفسه متوثبة متطلعة تحت تأثيرها، ولكن ما لبث أن واجهتها الحقائق: عادة إليه ذكريات الهزائم المتتالية وأخذت تبدو إليه العاصمة بمظاهر التفكك والانحلال الخلقي وعوامل الهدم وتاثرت نفسه لما استعرض تاريخ الحروب والمعارك التي كسبها مقاتلة الترك ثم أضاعها رجال السياسة والمواقف التي اكتسبها هولاء في ميادين السياسة وأضاعها رجال الحرب في ميادين القتال.

وبرزت تركة الرجل المريض المحتضر على حقيقتها محملة بالأعباء والمصائب وبدا المستقبل قاتما مظلما كالليل. تلك هي النواحي السلبية التي أخذت تساوره في الأيام التاريخية التي وقعت بين حملة الدردنيل وعودته من المانيا، قال (انه وجد أمامه بصيص نور من أنوار الأمل هو ذلك الضياء الذي ارتسم على مجه الجندي التركي في معركة أنا فارطة حينما لقي الموت وهو قرير العين، كانت ابتسامة تحمل الخلود للامة التي أنجبت هذا المقاتل الذي لقي ربه وهو ضاحك بعد ان أدى واجبه نحوها).

وكتب مصطفى كمال فقال: (لو قدر لهذا الجندي أن يجد القيادة الحازمة، ولو لمس الإخلاص الذي يشع من قلبه فوجده في قلوب الساسة والقادة لغير وبدل ما كتبه التاريخ في عصور الانحطاط ولأعاد مرة أخرى عهد الدماء القوية التي حملت الأعلام الحمراء إلى قلب أوربا وفرضت النصر في كل معركة دخلتها. إنها ليست أخطاء الشعب إنها خطايا القادة التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه)

ولم يدر مصطفى كمال في تلك الفترة أن ابتسامة الشهيد التي رآها هي نفحة من نفحات الإسلام يرزقها المولى لمن ذاق حلاوة الإيمان في قلبه ولقي الموت وهو يؤدي فرض الجهاد ابتغاء مرضاة الله، وفي سبيل الله وعملا بما مره به الله. فهي ليست دليلا على تفوق العنصر بل هي آية من آيات الرسالة المحمدية للناس كافة.

إنني أكتب هذه الكلمات بعد إقامة سبعة سنوات بتركيا وبعد أن التقيت بمئات من المسلمين من أنحاء الأرض منهم من جاء من كاشغر عاصمة التركستان الصينية، ومنهم من كان في القرم وفي قفقاسيا وعلى نهر الفولجا: لأقرر أن الثورة الكمالية في عنفوان شدتها، والثورة الشيوعية بأساليبها التي لا يقرها العرف وكلاهما في إبان القوة والبطش لم يستطيعا التغلب على الإسلام في البلاد التي رسخ فيها، وان الذين خيل إليهم أن سلطان الإسلام قد زال من الأقاليم الآسيوية الخاضعة للسوفيت وان ظله قد تقلص من تركيا واهمون: وسيبعث الإسلام ودين محمد في تلك الجهات ويعود على صورة تبهر العالم.

إن أقوى التعاليم الدنيوية والنظريات لا تلبث أن تهوى وتذبل مع الزمن، أما قواعد الثورة المحمدية الكبرى التي وادعت في تعاليم الإسلام واتت بها النبوة فباقية مع الزمن في أفئدة الشعوب والجماعات والأفراد وحتى الذين خرجوا عليها وشقوا لأنفسهم الطريق بعيدا عنها ونابذوها العداء لا يلبثون أن يعودوا إليها، وما مصطفى كمال إلا واحد من هولاء ستكشف الأيام الكثير عن روحه الحائرة وسنعود يوما لدرس هذه النفس المتمردة من ناحية الإيمان والعقيدة وكل آت قريب.

(يتبع)

أحمد رمزي