مجلة الرسالة/العدد 695/من صميم الحياة
مجلة الرسالة/العدد 695/من صميم الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
هذه قصة شاب مدرس في ثانوية من ثانويات البنات في بلد من بلاد الله حديث السن لم يجاوز إلى الآن الرابعة والعشرين، معتزل متفرد عاكف على كتبه ودفاتره، لا يخالط الناس، وليس ممن يبتغي الظهور فيهم والحظوة لديهم، فلا يحاول أحد من القراء أن يبحث عنه أو يسعى إلى معرفته، وليكتفوا من قصته التي قصها عليّ بمكان العبرة منها، إذا كان قد بقى في القارئين من يفتش على العبرة، أو يسعى إلى الاعتبار. .
وهذا الشاب أبن صديق من أدنى أصدقائي إلى قلبي، وكان في صباه تلميذاً لي، وكان من أذكى الطلاب قلباً، وأطهرهم نفساً، وأمتنهم خلقاً، وأتقاهم لله في سر وفي علن، وكان على صغره جاداً بعيداً عن المزاح، مجتنباً الهزل، باراً بأمه وأبيه، لا يعرف إلا مدرسته وبيته، لم ير قط واقفاً في طريق، أو ماشياً إلى لهو، وثبت على ذلك حتى شب وأكمل الدراسة، وفارق المدرسة، وهو لم يدخل قهوة ولا سينما، ولم يصاحب أحداً أبداً، ولم يجالس امرأة غير أمه ولم يكلمها. .
وكان لذلك بمنزلة الأخ الأصغر مني، أحبه محبة الابن، ويجلني إجلال الوالد، وكان ينفض إلي دخيلته، ويكشف لي سريرته، وكان من مزاياه انه صادق اللهجة، ولم أجرب عليه في هذه المدة الطويلة كذباً قط. . .
وانقطع عني مدة طويلة، ثم رأيته فأخبرني أن والديه قد توفيا بالتيفويد في شهر واحد، وأنه غدا وحيداً فاحترف التعليم، وبعثت به الوزارة، لما تعلم من عظم أخلاقه، إلى مدرسة ثانوية للبنات، فثار وأبى وطلب نقله إلى غيرها من مدارس البنين، فما زالوا به يداورونه ويقنعونه بأنه إن كان معلم البنات رجل مثله، فذلك خير لهن من أن يدخل عليهن فاسق خبيث، وإن قبوله التدريس في هذه المدرسة قربة إلى الله، فخدع المسكين وقبل!
قال: وبت ليلة افتتاح المدرسة بليلة نابغية لم ينطبق فيها جفناي، من الفكر والوساوس والمخاوف، فلما أصبح الصباح ذهبت أقدم وأؤخر أخرى، حتى دخلت المدرسة، فما راعني عند الباب إلا أن فتاتين كاملتي الأنوثة ليستا بالصغيرتين ولا القاصرتين قد دخلتا أمامي، فلما صارتا من داخل ألقتا عنهما الخمار، فعادتا كأنهما في دارهما، وتلفت حولي فإذا ملء الساحة فتيات نواهد نواضح الأجساد، قد حسرن ورحن يلعبن ويمشين وهن بالثياب الحريرية الزاهية، شعورهن مهدلات على الأكتاف، والسواعد عاريات والسيقان، فأحسست كأنما قد صب علي دلو من الماء الحامي، فاحترقت منه أعصابي، فاستدرت راجعاً ونفضت يدي من الوظيفة، وقلت: الرزق على الله!
وقصدت بيتي فما وسعني والله البيت، ووسوس إلى (لا أكتمك) الشيطان، وزين لي تلك المتعة بمعاشرة أولئك الفتيات، والحياة بينهن، فاستعذت بالله، وأعرضت عنه، وذهبت أفتش عن عمل غير هذا، فسدت في وجهي الأبواب إلا هذا الباب، ولاحقتني الوزارة وإدارة المدرسة حتى عدت مكرهاً. .
وأنا رجل رضت نفسي على العفاف، وأخذتها بضروب الرياضات حتى سكنت شرتها، ولكنها مع ذلك كانت تثور بي كلما سبقت عيني وأنا غافل إلى فتاة في الشارع كاشفة، أو سمعت أذني حديثاً من أحاديث الشبان سقط إلي وأنا لا أطلبه، أو قرأت (وقلما أقرأ) قصة خليعة، أو نظرت (ونادر أن أنظر) مجلة من هذه المجلات الداعرة الخبيثة وما المرأة التي يفتش عنها الشبان ويتحدثون عنها إلا هذه النصف التي تصلح ما أبلى منها الدهر بالثياب والأصباغ وما عند العطار، والتي تقاذفتها الأيدي حتى صارت كالغصن الذاوي وكالثوب الخلق، فما بالك بشاب كتب عليه أن يعاشر النهار كله فتيات كزهرة الفل، أو كالغلالة الجديدة، لم تمسسهن يد بشر، ولم يعرفن من تجارب الحياة ما يتقين به شباكها، ويطلب منه أن يكون عفيفاً شريفاً، وأن يكن هن أيضاً عفيفات شريفات، وله في نفوسهن مثل الذي لهن في نفسه؟
يا أستاذ! إن الخطر أشد مما تتوهمون أنتم معشر الكتاب المعتزلين في بيوتهم أو في أبراجهم العاجية، كما يقولون عن أنفسهم، الخطر أشد بكثير. . شباب وشابات، يصبي كلاً منهما أن يشم ريح الآخر من مسيرة فرسخ، يجتمعون على دروس الأدب وقراءة أشعار الغزل. . تصور (يا أستاذ) المدرس يلقي على طالباته حديث ولادة وأبن زيدون، وأنها كتبت كما رووا (كذباً أو صدقاً) على حاشية ثوبها:
أمكن عاشقي من صحن خدي ... وأمنح قبلتي من يشتهيها
ويمضي يشرح لهن ذلك ويفسر لهن. . حالة فظيعة جداً يا أستاذ. . . ولو كن كبيرات مسنات، أو كن مستورات محجبات، أو لو كن صائمات مصليات يخفن الله، لهان الأمر، ولكنهم يجتمعون بهن على سفور وحسور وتكشف، وتنطلق البنت حرة تزور معلمها في داره، وتمشي معه إن دعاها إلى السينما أو المتنزه، كذلك يرى الآباء اليوم بناتهم فلا ينكرون ذلك عليهم. .!
أنا لا أقول إن الآباء كلهم لا يهمهم أعراض بناتهم، وأن كل أب قرنان، معاذ الله أن أقول ذلك، ولكن هؤلاء الآباء قوم مغفلون، أعمى أبصارهم بريق الحضارة الغربية فحسبوا كل شيء يجيء من الغرب هو خير وأعظم أجراً، ولو كان ذهاب الأعراض والأديان والأبدان! إن هؤلاء كالنعامة يلحقها الصياد فتفر منه حتى إذا عجزت أغمضت عينيها ودست رأسها في التراب لظنها أنها إذا لم تبصر الصياد، فإن الصياد لا يراها! إن هذا الأب يحسب أن كل رجل ينظر إلى بنته بعينه هو، وطبيعي منه ألا ينظر هو إليها بعين الشهوة، فلذلك يطلقها في الشارع، ويبعث بها إلى المدرسة على شكل يفتن العابد، ويحرك الشيخ الفاني. .!
دخلت يا سيدي ودرست، وكنت أغض بصري ما استطعت وأحافظ على وقاري، ولا أنظر في وجوه الطالبات إلا عابساً، ولا أقول كلمة في غير الدرس المقرر، وكنت مع ذلك أداري من أثرهن في أعصابي مثل شفرة السيف الحديد، وإذا قرع الجرس خرجت قبلهن مهرولاً حتى لا أماشيهن ولا أدنو منهن، فذهبت مسرعاً إلى داري أصلي وأسأل الله أن يصرف عني هذه المحنة، وأن يجعل رزقي في غير هذا المكان، وكنت أصوم وأقلل الطعام لأطفئ هذه النار، فإذا مشيت إلى الفصل وسمعت كلامهن، وسبقت عيني إلى بعض ما يبدين من أعضائهن وزينتهن زادت ضراماً واشتعالاً. .!
وكان فيهن طالبة هي. . لا. . لست أصفها ولا ينفعك وصفها، وحسبك أن تعلم أنها زكية ومتقدمة في رفيقاتها، وأنها من أسرة من أنبل الأسر، وأنها فوق ذلك جميلة جداً. . جداً. . إنها تمثال، هل رأيت مرة تماثيل الجمال والفتنة. .؟ وكانت كلما نظرت إليّ قرأت في عينيها كتاباً مفتوحاً، ورسالة صريحة لي أنا وحدي، وأحسست منها بمثل شرارات الكهرباء تخرق قلبي. . فكنت أزداد عبوساً وإعراضاً، فلا يردها عبوسي ولا يثنيها إعراضي، وأسرعت مرة ورائي وأنا خارج وهي تناديني (سؤال يا أستاذ). . ولها في صوتها رنة. . يا لطيف. .! فوقفت لها فجعلت تدنو مني حتى شعرت كأني ألامس. . ألامس ماذا؟ لا أجد والله شيئاً أشبهها به، لأنه ليس في الدنيا شيء آخر له مثل هذا التأثير. . فهربت منها وأسرعت إلى الدار، وحرصت على ألا أدعها أو أدع غيرها تفعل مثل هذا!
وكنت أكتب الدرس في كراس وأدفعه إليهن لينسخنه، فهو يدور عليهن، فلما كانت نوبتها عاد إلي الكراس وفيه هذه الأبيات لعلي بن الجهم:
نطق الهوى بجوى هو الحق ... وملكتني فلينهك الرق
رفقاً بقلبي يا معذبة ... رفقاً وليس لظالم رفق
وإذا رأيتِك لا تكلمني ... ضاقت عليّ الأرض والأفق
مكتوبة بخطها منقولة من (المنتخب)، فمحوتها وكتمت الأمر، وعقدت العزم عقداً مبرماً على ترك التدريس، وخرجت من الفصل بهذه الهزيمة، وكان في الساحة تلميذات فرقة أخرى في درس الرياضة، وقد اصطففن بالشلحات، كاشفات الأفخاذ والأذرع، راسخات النهود، يقفن كذلك بين الرجال (والمعلمون كلهم رجال). . فكبر رأسي وأسرعت إلى الشارع، وقد حلفت ألا أعود ولو مت جوعاً، وبعثت بكتاب الاستقالة!.
ومرت أيام وكنت وحدي في الدار - وأنا وحدي دائماً ليس لي زوجة ولا قريب - فإذا الباب يقرع، فقمت ففتحت وإذا بها تدخل علي، وتغلق الباب وراءها، وترفع الغشاء عن وجهها، وتلقي المعطف عن منكبيها، وكأن تحت جلدها الأبيض المورد الناعم انهاراً من الدماء تجيش الرغبة. . مثل الشلالات المتحدرة، وجلست أمامي كما تجلس أمام زوجها. . وقعدت تحدثني تطلب درساً خصوصياً، وعيناها تحدثانني تطلبان غير الدرس. . ولست يا أستاذي رجل سوء ولا أليف دعارة، ولكني رجل على كل حال. . فلما رأيتها في داري. . وتحت يدي. . والباب مغلق. . وهي تريد. . ملكني الشيطان. . ورأيت الدنيا تدور بي، ولما حاولت أن أتكلم اختنق صوتي ثم خرج وفيه بحة غريبة كأني أسمع معها صوت إنسان آخر غيري، وهممت يا أستاذ. . ولكن صوت الدين رن في أذني، ينادي لآخر مرة كما يصرخ الغريق آخر صرخاته. . فاستجبت له. . ولو أعرضت عنه لحظة لضاعت هذه الفرصة إلى الأبد، ولخسرت أنا والبنت الدنيا والآخرة من أجل لذة لحظة واحدة. . ولم أتردد بل قلت لها بصوت بارد كالثلج، قاطع كالسيف، خشن كالمبرد: (يا آنسة، أنا آسف، إن هذه الزيارة لا تليق بطالبة شريفة، فاخرجي حالاً!). . . وفتحت الباب وأغلقته خلفها، وتم ذلك كله في دقيقة!
ولما خرجت ندمت. . نعم ندمت. . وعاد الشيطان يوسوس لي، وضاق بي المنزل حتى كأني فيه محبوس في صندوق مقفل، ولم أعد أدري ماذا أصنع، وأحسست أني أضعت كنزاً وقع إلي، وتغلبت غريزتي، فأخفت صوتها صوت الدين والعقل، وأحسست توتراً في أعصابي، حتى وجدت الرغبة في أن أعض يدي بأسناني، أو أضرب رأسي بالجدار، وعدت أتمثل حركاتها ونظراتها. . . فأراها أجمل مما هي عليه، وأحس بها في نفسي، فكأني لا أزال أشم عطرها، وأرى جمالها، بل لقد مددت يدي لأمسك بها، فإذا أنا أقبض على الهواء، وخيّل لي الشيطان أن هذه البنت لم تعد تستطيع البصر بعد أن أذكى هذا النظام المدرسي نار غريزتها، وأنها ستمنح هذه الـ. . هذه النعمة رجلاً غيري. . فصرت كالمجنون حقاً، وحاولت أن أقرأ ففتحت كتاباً فلم أبصر فيه شيئاً إلا صورتها، وأردت الخروج فرأيتني أنفر من لقاء أي من أصحابي كان ولا أريد إلا إياها، وحسدت إخواني المدرسين الذين لم يتربوا مثل تربيتي الصالحة، فتمنعهم من الانطلاق في هذه اللذائذ انطلاق الذئب في لحم القطيع الطري!
والعفو يا أستاذ إذا صدقت في تصوير ما وجدت، فأنت أستاذي أشكو إليك، وأنت الرجل الأديب قبل أن تكون الشيخ والقاضي، فقل الآن ماذا أصنع؟ إني تركت التدريس واشتغلت بغيره، ولكني لم أستطيع أن أنساها، ولو أنا أردت وصالها لقدرت عليه ولكني لا أريد، فماذا أصنع يا أستاذ؟ لقد حاولت الزواج، فرأيت الأب الذي لا يكاد يمنع أبنته حراماً لا يمنحها حلالاً إلا بمهر وتكاليف يستحيل دفعها على مثلي، فأيست من الزواج، فماذا أصنع؟
ماذا يصنع يا أيها القراء؟ قولوا، فأني لم أجد والله ما أقول!
() دمشق)
علي الطنطاوي