مجلة الرسالة/العدد 695/فتح عكا
مجلة الرسالة/العدد 695/فتح عكا
(690 هجرية - 1291 ميلادية)
للأستاذ أحمد رمزي بك
جاء في نهاية المقال القيم الذي كتبه الأستاذ محمود عزت عرفة بعدد الرسالة رقم 693 أن سقوط عكا بيد المسلمين كان في عهد الملك الظاهر بيبرس، والحقيقة أن الفتح تم في عهد لشالملك اهيد الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور سيف الدين قلاووين في سنة 690 هجرية 1291 ميلادية، وقد تم على يده فتح صور وصيدا وبيروت وغيرها من مدن الساحل فأعادها إلى الإسلام، وأطلق على هذه الحروب أسم الفتوحات الأشرفية، واستمر المسلمون قروناً بالساحل والجبل يؤرخون بهذا الفتح فيقولون تم هذا في أيام الفتح الأشرفي أو بعده أو قبله. وفي بيروت حي مشهور اسمه حي الأشرفية نسبة إلى ملك مصر الشهيد الأشرف خليل بن قلاووين، وقد ذكر جيبون المؤرخ الإنجليزي نهاية هذه الحروب وهذا الفتح فقال: (ساد سكون محزن على امتداد ذلك الساحل الذي ظل أزماناً طويلة ميداناً تسمع فيه قعقعة سيوف نضال العالم).
وهذا الفتح من أهم الفتوحات الإسلامية التي من الله بها على مصر الإسلامية في أزهى عصورها بل جعل منها دولة مهيبة الجانب يخشاها العدو ويرهبها الصديق، وبقيت موضع رعب أوربا حتى موقعة امبابة أيام نابليون.
ويقول أبن الفرات في كتابه إن سلطان مصر لما عزم على التوجه إلى حصار عكا أمر بجمع العلماء والقضاة والأعيان والقراء بتربة والده الملك المنصور وهي لا تزال بالقاهرة إلى اليوم وتعد تحفة من تحف الفن الإسلامي العربي ومفخرة من مفاخر ذلك العصر. أرجو أن تذهب لرؤيتها وإشباع النظر بها.
قال إنهم اجتمعوا في ليلة الجمعة الثامن والعشرين من صفر من هذه السنة وباتوا بالقبة المنصورية يقرأون القرآن الكريم، وحضر الملك الأشرف إلى التربة في بكرة نهار الجمعة وتصدق بالهبات وفرق على القراء والفقراء أموالاً كثيرة غير الكسى والهدايا التي وزعها على أهل المدارس والرباطات والزوايا. كأنه كان يودع والده حينما عزم على التوجه للجهاد.
وفي الثامن من ربيع الأول نزل السلطان من القلعة وتوجه بالعساكر المنصورة إلى دمشق وسار منها حتى نزل على عكا وحاصرها وسد الطرق عليها، وكان الفرنجة لما بلغهن مسير الجيوش الإسلامية المصرية وعزم السلطان على محاصرة مدينتهم في قلق زائد، ولذلك كتبوا إلى ملوكهم وسألوهم النجدة. فاجتمع لديهم جموع من مختلف مللهم ونحلهم. ويقول السير وليم موير (إن جزيرة قبرص بعثت بنجدة إليهم)، ولكن الذي يظهر من كلام المؤرخين المعاصرين أن أكثر النجدة أتت إليهم من الأرمن المقيمين بالمشرق.
وليس في عزمي شرح المعارك التي ظهر بها المسلمون على الصليبيين في آخر عهدهم، ولا ذكر القتال يوماً بعد يوم وتتبع الشهداء والقواد وأهل الرياسة من جند مصر والشام فتلك ملحمة من ملاحم الإسلام أجمع لها المواد ليوم قريب بإذن الله؛ كما أنه ليس في العزم أن أكتب عن الملك الشهيد الأشرف خليل وحياته، ولذلك نمر على ذلك مراً، ونكتفي بشهادة بعض المعاصرين نقلاً عن صاحب النجوم الزاهرة.
قال النويري: (كان ملكاً مهيباً شجاعاً مقداماً جسوراً جواداً كريماً).
وقال الذهبي: (لو طالت أيامه لأخذ العراق وغيرها. فأنه كان بطلاً شجاعاً مقداماً مهيباً عالي الهمة).
وقال صاحب النجوم (وجمهور الناس على أنه أشجع ملوك الترك قديماً وحديثاً بلا مدافعة، ثم من بعده الملك الناصر فرج أبن الملك الظاهر برقوق، وشهرتهما في ذلك تغني عن الإطناب في ذكرهما).
ولقد كان الأمير بيبرس المنصوري شاهد عيان لمعركة عكا، ولذلك أطنب في وصفها ووضع ذلك في كتابه (زبدة الفكرة) وقال أن هذا الفتح العظيم جاء في يوم الجمعة المبارك السابع عشر من جمادى الآخرة من سنة 690، وإن عكا انتزعت من يد المسلمين في عهد صلاح الدين سنة 587، وبقيت بيد الصليبيين103 سنة وختم كلمته بقوله: (لله الحمد على انتصار المسلمين واستظهار الموحدين بهمة أولى الهمم العلية، والعزمات المنصورة المنصورية (نسبة إلى المنصور قلاروين) الأشرفية (نسبة إلى الأشرف خليل)، ولا شك في أن هذه الطائفة أربت على الأول ونالت بها الدولة من النصرة والنضرة ما لم تنله الدول).
ويصف السير وليم موير في كتابه (تاريخ دولة المماليك) سقوط آخر معقل إلا معقل الصليبيين بالمشرق والحقد يأكل قلبه فهو لا يترك نقيصة إلا ألصقها بالمسلمين وملكهم فيقول: (حتى الفرسان الذين وعدوا بأن يفسح لهم طريق النجاة أمر السلطان بقطع رقابهم جميعاً بدون رحمة، وأن ما لاقاه أهل بيروت من إهدار دمائهم وقتلهم صبراً لا يقل فظاعة عم وقع في عكا). يسوق كل هذا ولا يبين لنا أسباب هذا الغدر من الجانبين.
ولقد احتفلت العاصمتان مصر ودمشق بهذا الفتح الأشرفي العظيم، ولما دخل الأشرف مدينة دمشق زينت له الشوارع وأقيمت القباب وأقواس النصر، ودخل وبين يديه الأسرى من الإفرنج تحت الخيول وفي أرجلهم القيود وأعلامهم منكسة، ولما دخل مصر وشق المدينة من باب النصر إلى باب زويلة، وأقيمت له الاحتفالات الشائقة.
ولما كثرت الأقاويل والروايات عن هذا الفتح، وصرح كثيرون أنهم تنبأوا به قبل وقوعه، وقال بيبرس المنصوري: (ولما أتاح الله هذا الفتح وسهله وأباحه وعجله قرظه الشعراء، وذكره الفضلاء).
وقد اطلعت في كتاب أبن الفرات على الكثير من القصائد التي قيلت أعجبني منها بعض الأبيات أنقلها لقراء (الرسالة).
فمن قصيدة الشيخ بدر الدين محمد بن أحمد بن عمر المنجي التاجر المقيم بالقاهرة:
بلغت في الملك أقصى غاية الأمل ... وفُت شأو ملوك الأعصر الأول
ونلت بالحول دون الناس منفرداً ... ما لم تنله ملوك الأرض بالحيل
وهي طويلة فيها العربية السهلة وبعض الألفاظ العامية ومن الغريب أن تأتي بعد خمسة قرون من ينحو نحوها ويقول:
ماذا أقول وكيف القول في ملك ... قد فاق كل ملوك الأعصر الأول
وقال القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر أظنه صاحب سيرة الملك الظاهر:
يا بني الأصفر قد حل بكم ... نقمة الله التي لا تنفصل
قد نزل الأشرف في ساحلكم ... فابشروا منه بصفع متصل
وكتب القاضي شهاب الدين أبو الثناء محمود الحلبي كاتب الإنشاء قصيدة أطول من كل هذا نحا فيها نحو صاحب قصيدة (السيف أصدق أنباء من الكتب)، وقلّد عباراته وتشبيهاته جاء فيها:
بشراك يا ملك الدنيا لقد شرفت ... بك المماليك واستعلت على الرتب
فانهض إلى الأرض فالدنيا بأجمعها ... مدت إليك نواصيها بلا نصب
أدركت ثأر صلاح الدين إذ غضبت ... منه لسر طواه الله في اللقب
إن عكا مدينة عزيزة على القلب بذكرياتها، أقلب صفحات الفتح الأشرفي فاقرأها بجانب صفحات من عاصر صلاح الدين وعاين قلقه على جنوده المحاصرين بقلعتها. أمضيت أياماً أسجل من سيرته تنقلاته في التلول المقابلة لسهول عكا، وأتابع تلك النفس العظيمة، ولذلك كنت كلما مررت بهذه الجهات يخفق قلبي وتهتز نفسي شوقاً إلى أرواح الشهداء الذين ماتوا على تلك البقعة التي تجمع مع الطهارة الخلود في نفس كل مسلم.
أحمد رمزي