مجلة الرسالة/العدد 694/مناظرة هادئة. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 694/مناظرة هادئة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1946



للأستاذ علي الطنطاوي

نحن معشر الرجعيين. . لا نرى قتال المرأة ولا نزالها، ونجد ذلك قادحاً بالرجولة، ونعد ذنب المرأة مغفوراً وجنايتها جباراً، ولكن آراء الرجعيين الجامدين من أمثالي. . . صارت أثراً عتيقاً من آثار القرن الماضي لا تصلح إلا لدار الآثار. . . وقد تغيرت الدنيا وأهلها، وأصبح أشد ما تأباه المرأة (أو السيدة إذا شئت الأدب في الخطاب) وتنكره وتراه هواناً لها ونزولاً بها عن منزلتها أن تترفق بها لأنها امرأة وغدت تريد أن تكافح الرجل وتنازله، لا ترى نفسها أصغر من أن تغلبه، ولا تجده أكبر من أن يهزم أمامها، فعلى هذا، وإكراماً للسيدة الجديدة، ومجاراة لها في مذهبها، ووفاء بحق هذه الأمانة، أمانة (القلم) الذي منّ الله به عليّ وجعلني من أهله، لأضرب به في كل ميدان إصلاح، وأقرع به كل معالم الفساد، لا تمنعني من ذلك رهبة عدو، ولا رغبة في مودة صديق. . . لهذا كله أعرض اليوم عرضاً إلى هذه (النهضة النسائية) التي أصبح الكلام فيها واجباً وجوب عين، فعفوكنّ، - يا سيداتي - فأنتن أردتن هذا، وأنه لا يزعجكن - فيما أظن - الكلام في هذه النهضة، لأنها ليست من الضعف (في رأيكن) ومن الوهن بحيث تنهدم من ضربة، وتطير من نفخة، ثم إني كتبت مجيباً لا مبتدئاً. . . ومنتصفاً لا معتدياً. . .

ولا بد لي قبل من ذكر مقالتي (دفاع عن الفضيلة)، لأن هذا الفصل كالتعليق عليها، ولولا الحياء من أن أوصف بالغرور، وبأني ممن يحرص على (صيد) الفرص، لينوه باسم نفسه ويزكيها، لقلت: إنه قلما تصيب مقالة من النجاح الصحفي ما أصابت هذه المقالة (في بلاد الشام)، فقد نفذت نسخ (الرسالة) كلها في ساعات من نهار، حتى صارت النسخة تطلب بأضعاف ثمنها فلا توجد، وقرأ كل نسخة - فيما أقدر - أكثر من خمسة، ومن القراء من أخبرني أنه كان يعقد لها المجالس ليتلوها فيها كما تتلى المحاضرات، وسر بالمقالة جمهور من الناس ودعا لي من أجلها وأثنى عليّ وهنأني، وغضب منها جمهور من الناس ودعا عليّ وشتمني ولعنني، ورأى فيها إخواننا الرجعيون. . . الخيرين أصحاب الفضيلة ترجمة آرائهم ولسان أفكارهم، ورأى فيها المجددون تجديد الباطل، المجردون أنفسهم وأهليهم من ثياب الستر، المبددون تراث الأجداد الماجد الثمين، سداً في طريقهم إلى غايتهم التي يدعو إليها، وبلاء صبه الله عليهم، وخزياً لهم وغيظاً لقلوبهم، فقالوا: رجعى؛ وقالوا: مجنون؛ وقالوا: مشته محروم ينفس بهذا عن نفسه؛ وقالوا: فاجر يتستر بالدفاع عن الفضيلة، وما باليت كل ما قالوا. . . لأني ما كتبت هذا المقال، وما قبله، ولا ألححت هذا الإلحاح على محاربة تلك المفاسد، ابتغاء رضاء الناس، فأنا أعلم أن من تغضبه هذه الكلمات أطول يداً، وأشد سلطاناً، وأحد لساناً، وأقدر (ولا يقدر إلا الله) على نفعي وضري. ولكني كتبتها، وكتب مثلها الأستاذ سيد قطب، غضباً لله ولدينه ولمحارمه، وتنبيهاً لهذه الأمة الغافلة، أن يفتك بها ذلك الداء، وتحرقها تلك النار، ووطنت نفسي على حمل ما (قد) تأتيني به من الأذى، لأحمل الضعيف العاجز، بل المحارب المقاتل الذي لا تصيبه الضربة حتى يردها بعون الله عشراً. على أني إذا لمت الحكومات ورجالها، فلا أبرئ العلماء ولا الأدباء، فهم أولى باللوم، وأحمل للتبعة، إذ يسكتون عن إنكار المنكر، ولا يسخرون له ألسنتهم وأقلامهم، ولو أنهم أدوا زكاة بيانهم دفاعاً عن الفضائل والأعراض، وأثاروها داحسية بسوسة على الإباحية والفجور، لما حقت هذه اللعنة علينا حتى صار يقود ناشئتنا في دورنا وأسواقنا نفر من الفجار عباد إبليس، سموا أنفسهم كتاباً وصحفيين، وصارت لهم كتب تقرأ ومجلات. . وما كتبهم ولا مجلاتهم إلا الترجمة الفنية لحديث المراقص والمواخير، وبيوت الخنا والزنا، وما يكون فيها من مشاهد وصور، تحملها كل يد إلى كل دار، فيقرؤها الشاب في المدرسة، والفتاة في الخدر، فتكون هادياً لهم إلى تلك البيوت وإماماً!

ولكن المسؤول قبل الحكومات وأرباب البيان، والمجرم الأول، ومنبع الشر ورأس البلاء، إنما هو الأب، الأب الذي يشتري لبنته لباس المرشدات، وتُبّان السباحة، ويقطع لها (تذكرة السفر) إلى بلاج الإسكندرية، وفندق بلدان، ومحافل لبنان، ويرضى لها أن تتكشف وتتعرى، وتحتك بالشبان في الترام، وتشرب القهوة عند البياع في سوق الحرير، ويرسلها إلى مدارس يعلم فيها أدب بشار وأبي نواس شباب في أعصابهم مثل النار التي في أعصابها، فبعثها في رحلاتهم التي تمتد أياماً وليالي، تنزل معهم في الفنادق، وتركب معهم في السيارات، وتؤم معهم المتنزهات، وتسمع (وكيف لا تسمع؟) الفاحش من نكاتهم، والبذيء من أغانيهم، وما أغانيهم إلا غزل في مثلها وتشوق إليها، وهي في السن التي تصرخ فيها غريزتها، وتغلي دماؤها، ويتفتح للحب قلبها! ولا يدري هذا الأب المغفل القرنان أن ليست عاقبة هذا إلا فضيحة تقصم الظهر أو مرضاً يحمل إلى القبر، ثم إنها لظى نزاعة للشوى، تدعو من أدبر وتولى!

أقول: إن هذه المقالة شغلت الناس، واختلفت فيها آراؤهم، وكان من أعجب ما سمعت من التعليق عليها، أني كنت في الترام، وكان الترام في تلك الساعة خالياً، فسمعت حديثاً بين امرأتين في غرفة النساء، لا أراهما ولا ترياني، موضوعه التعليق على هذه المقالة، ولست أروي من هذا الحديث إلا كلمتين اثنتين تدلان عليه، قالت الأولى:

- يُهْ! ما تردّي عليه؟ ينزل عليه الدم إن شاء الله، وعلى المشايخ كلهم!

قالت الثانية: وأنت ليش مهتمة فيه، مين راد عليه؟ يبعت له الحمى، يعني بدو نرجع للوراء، ونضيع النهضة النسائية ونرجع جاهلات متحجبات، يتحكم فينا الرجال؟ فشر! إننا سنكسر رأسه!

وليصدقني القراء إذا قلت لهم إن هذا كلامهم بالحرف الواحد! وأنا لا احب أن أرد الشتائم ولا أحسن مثلها مع الأسف الشديد، إنما أحب أن ابحث في اصل الموضوع، أما رأسي فقد عجزت عن كسره أقلام كتاب فحول، حاولته من قبل، والسنة خطباء مقاول، وعصيّ حكام جبابرة، فلن تكسره أقلام طرية، في أيدٍ ذات سوار، رخصة البنان، محمرة الأظافر. لا يا سيدتي، إن الله قد صنعه من (مواد غير قابلة للكسر)، فدعن رأسي وتعالين نتناظر (مناظرة هادئة) في هذه النهضة النسائية، فذلك أجدى عليكن من كسر رأس لا تستفدن من كسره شيئاً. . . لأن رؤوس (الرجعيين) لا تزال كثيرة جداً!

ما هي هذه النهضة النسائية؟ بماذا تختلف نساء اليوم عن نساء الأمس؟ أنا ألخص الاختلاف في كلمات:

كانت نساؤنا تقيات جاهلات متحجبات مقصورات في البيوت، فرقّ دينهن وتعلمن وسفرن وخالطن الرجال، فلننظر في كل خصلة من هذه الخصال، أكانت خيراً أم كانت شراً: أما الدين على (إطلاقه) وخوف الله في السر والعلن، وما يكون معه من الاطمئنان والرضا، والإحسان إلى الناس، والبعد عن الفواحش، وترك الكذب والغش والحسد والمكر، وهذه خلائق يوحي بها كل دين من الأديان الصحيحة والفاسدة، فلا يشك عاقل في أنه خير، وأن تركه شر، وأن هذه النهضة بإبعادها النساء عن شرعة الدين، قد أضرت ولم تنفع، وكان ضررها مضاعفاً مكرراً، لأنه إن جاز أن يمنع الرجل من الفاحشة خلقه وإرادته، فقد ثبت أن المرأة لا يمنعها منها إلا دينها!

وأما العلم، فهو خير للمرأة بشرط أن تتعلم ما يصلحها ويصلح لها، وألا يوجب تعلمها اختلاطها بالرجال، لأننا إن قدرنا العلم قدره، وعرفنا له فضله، فلا نستطيع أن نفرط من أجله بالشرف ولا نضيع العرض، وهما أكبر قدراً وأكثر فضلاً، وليس معنى هذا أن كل اختلاط يؤدي حتماً إلى إضاعة العرض، لا، ولكن الغرائز موجودة، والشهوات مستقرة في النفس، إن منعها سدّ فقد تطغى فتحطم السدّ أو تعلو عليه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يرتفع فيه، والعبرة بالشائع الغالب، لا الأقل النادر، وعلى ذلك نزلت الشرائع ووضعت القوانين، ولو كان احتمال سقوط المرأة في هذا الاختلاط واحداً في الألف لوجب منعه وتحريمه، لأن أمة في كل ألف من نسائها واحدة ساقطة لأمة فاجرة ليست بذات خلق قويم، ولا تستحق أن تعيش. . .

ونحن لا نكره أن نرى في نسائنا أمثال باحثة البادية، ووردة اليازجي، ومي، وماري عجمي، ووداد سكاكيني، ولكن أين السبيل إلى أن نوجد أمثالهن؟ وهل توصل إلى ذلك مدارسنا؟ إننا نبصر فتيات يتجاوز عددهن الآلاف المؤلفة، يقطعن الطرقات كل يوم إلى المدارس، غدواً إليها ورواحاً منها وهنْ بأبهى زينة وأبهج منظر، يقرأن كل ما يقرؤه الشبان من هندسة وجبر ومثلثات وكيمياء وفيزياء وأدب غَزِل، ويتعلمن الرسم والرياضة والغناء، ويدخلن مع الشباب في الامتحانات العامة، ويحملن مثلهم البكلوريات والدبلومات، ويجمعهن مجلس بعد هذا كله بالعاميات الجاهليات، فلا تجدهن أصح منهن فكراً، ولا أبعد نظراً، ولا ترى لهذا الحشد من المعلومات الذي جمع في رؤوسهن من أثر في المحاكمة ولا في النظر في الأشياء، فكأن هذه المعلومات الأغاني التي تصب في اسطوانات الحاكي (الفونوغراف) إن أدرتها سمعت لهجة فصيحة، وكلاماً بيناً، ونغماً حلواً، فتقول أنها تنطق، فإذا سألتها وكلمتها رأيتها جماداً أخرس، ليس فيها إلا ما استودعته من الكلام الملحن. . .!

وهذا حق، ما أردت بسرده الانتقاص، ولكن بيان الواقع ثم إن تزوجن لم يمتزن إلا بإهمال الولد، وتركه للخادمات والمراضع، والانصراف عن الدار وأعمالها، والترفع عن الزوج، ثم إنه لا يعجب إحداهن إلا أن تلقي في زوجها حماراً (ولا مؤاخذة) تركبه إلى غايتها، لا رجلاً تحبه وتطيعه ويحبها ويرفق بها وإن هي اشتغلت معلمة أو محامية أو طبيبة، لم تكن إلا (دون الوسط) في المعلمين والمحامين والأطباء، فما هذا العلم؟ ولماذا لا تتعلم ما ينفعها امرأةً وزوجةً وأماً وربة بيت؟ ولماذا لا تتعلم مع ذلك التحرر من عبادة (الموضات) والأزياء، ومن حب تقليد النساء الغربيات حتى فيما هو ضرر محض، وأن يجعل لها العلم استقلالا في فكرها، تتبع كل ما تجده صالحاً ولو كان مخالفاً للموضة، مبايناً لما عليه أهلها؟

وأما الحجاب، وأعني به ستر الأعضاء التي تثير غرائز الشر في نفوس الرجال، حتى تبقى الفتاة كالجوهرة في صدفتها، لا يصل إليها سارق ولا غاصب، فأنا أفهم سبب ثورة الفساق من الرجال عليه. إنهم يريدون أن يستمتعوا بالجمال المحرم عليهم، ولكني لا أفهم أبداً لماذا يقلدهم النساء في هذه الثورة، وما وضع الحجاب إلا لصيانتهن وإكرامهن؟ وما يضر السيدة الفاضلة المتعلمة إذا لبست اللباس المحتشم الساتر، وهي ترى الرجل الذي تحاول التشبه به لا يكشف إلا وجهه وكفيه، مع أنها هي التي ينبغي ألا يظهر منها إلا وجهها (عند أمن الفتنة) وكفاها؟ فانعكست الحال، وانقلبت الأمور، حتى احتجب الرجال وتكشف النساء؟ وما الذي ربحناه من السفور؟ ليجب من كان عنده جواب مقنع، أما أنا فأدعي أننا لم نربح منه ألا الشرور والفجور، والدلائل حاضرات:

أما الاختلاط، واشتغال المرأة بأعمال الرجال، فأنا اعجب من مطالبة المرأة به، ولا أفهم من منا يريد لها الخير، ومن الصديق لها ومن العدو!

نحن نريد لها أن تكون سيدة حقاً مخدومة لا خادمة، تأتيها حاجتها من غير أن تسعى إليها، وهم يريدون أن تسعى وتزاحم الرجال حتى تصل إلى خبزها، ولو اشتغلت باخس الصناعات وأحط المهن، ويدعون مع ذلك انهم أنصار المساواة.

أين المساواة إذا حملت على ظهرها مثل حمل الرجل وهي تحمل في بطنها ولده، وأخذت مثل وظيفته وهو يغذي نفسه وهي تغذي نفسها وتغذي من ثديها ابنه؟

ثم إنكن تقلدن أوربة، مع أن المرأة تشتغل في أوربة عن عوز وحاجة، وكريمات السيدات لا يشتغلن شيئاً، إنما تعمل البائسات الفقيرات ويتمنين زوجاً يخلصهن من جهد العمل، وإن عقلاء أوربة يصيحون شاكين من مزاحمة المرأة الرجل. فقد عطلت بيتها، وشغلت الرجل ب (غير العمل. . .) فقللت إنتاجه، ورضيت بالأجر الخسيس، فنزلت الأجور، فأضطر العامل أن يبعث بامرأته إلي العمل، فجاءت قضية الدور التي زعم المناطق أنها من المستحيل!

أفنبدأ نحن من حيث أراد الغرب أن ينتهي؟ أتلحق ما هم يريدون الفرار منه؟!

وهذه هي الصناعات، فأيها تصلح له المرأة العادية وتعدل فيه الرجل؟ اعرضنها كلها من تكسير الحطب وتنظيف المجاري وكنس الطرق إلى المحاماة والقضاء والنيابة والوزارة، وأخبرنني عما تخترن منها. . .

نعم، إن الدهر يجود أحياناً بنساءٍ نابغات يصلحن لبعض أعمال الرجال، ولكن الكلام على سواد الرجال والنساء لا على النادر، فكم هي نسبة الصالحين لكل من هذه الأعمال من الجنسين؟ وإذا صلح لها النساء فهل يصلح الرجل (بالمقابلة) للطبخ وإدارة المنزل وتربية الطفل؟ إن هذا ينتهي بنا إلى إعلان (مساواة الجنسين)، وأنه لم يبق محال للتفريق بين رجل وامرأة؛ وإذن يجب على الحكومة أن تسن قانوناً يجعل الحَبل على كل منهما سنة، فهي تحبل مرة وهو مرة، وهي ترضع ولداً وهو يرضع ولداً، وأن ينص هذا القانون على أن من يستعمل (نون النسوة) يعاقب بغرامة قدرها عشرة جنيهات!

يا سيداتي، إنكن تعودتن منا التشجيع والتصفيق والهتاف، ولكن المسألة خرجت عن المجاملات وصارت مسألة موت لهذه الأمة أو حياة، فأعدن التفكير في أسس هذه النهضة، واجعلن مصلحة الأمة هي الميزان فيها!

يا سيداتي لقد كنا نرجو منكن أن تدفعن عنكن هؤلاء السفلة من الرجال، وأن تصفعهن على وجوههم النجسة، كما تصفع المرأة العفيفة أحد هؤلاء الكلاب إذا حاول الاعتداء عل عفافها، وأن تقاطعن هذه المجلات الداعرة الخبيثة التي تؤذي شرفكن باسم الصحافة والفن، وأن تثرن على هذه الأفلام السينمائية الداعرة، وأن تخرجن معلمات حاذقات وتنادين بمنع كل شاب مهما كان شأنه، معلماً أو مفتشاً أو ناظراً، من تجاوز عتبة مدرسة من مدارس الإناث، فهل تحققن هذا الرجاء، هل تقمن هذه النهضة على أساس الدين والخلق والعلم النافع؟!

(دمشق)

علي الطنطاوي