مجلة الرسالة/العدد 694/أسلمي يا مصر. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 694/أسلمي يا مصر. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1946



للأستاذ محمود محمد شاكر

ظللت سنوات معتزلاً أو كالمعتزل، وما اعتزلت إلا لأن الحياة أرادتني على ذلك فأطعتها، وليتني ما فعلت! ثم جاءت أيام فهزتني حتى كادت أن تقتلع جذور الحياة من أغمض أعماقها في نفسي وفي قلبي وفي سائر بنياني وحواسي، فانتبهت كالذاهل المغمور وأنا لا أدري أحي أنا أم ميت، وإن كان لم يشعر بما أشعر به إلا رجلٌ أو رجلان أدركا ما أنا فيه من محنة وشقاء. ثم انجلت الغمة وارتفعت الغشاوة، وبدأت أرى الدنيا كما ينبغي لمثلي أن يراها، فأقبلت عليها أتفحصها كأني أقرأ تاريخاً جديداً لم يكن لي به علم ولا خبر. ومن يومئذ آثرت أن أغفل شأن هذه الشعرات البيض التي تلمع على فودي نذيراً وبشيراً، وقلت لنفسي: كذب والله على بن جبلة الخزاعي، فإني لأجد هذه الشعرات البيض أخف على قلبي محملاً وأشهى إلى نفسي من كل ما استمتعت به في صدر شبابي، وكيف اشجي بشيء قد جعله الله بديلاً من جنون الصبا وغرام الشباب. وأنا أسوق هنا أبيات على بن جبلة، وإن كان لا حاجة للمقال بذكرها، لأني أعدها من أجود الشعر وأرصنه وأحسنه تمثيلاً لمقدم الشيب، وأدقه تصويراً لإحساس الفزع الذي تتجرعه النفوس الشاعرة في يوم الكريهة - يوم المشيب. قال يذكر الشيب وقد بلغ الأربعين:

ألقى عصاه، وأرَخى من عمامته ... وقال: ضَيفٌ. فقلت: الشيبُ؟ قال: أجلْ!

فقلتُ: أخطأت دار الحيّ! قال: ولِمْ؟ ... مضتْ لك الأربعون ألسِتمُ! ثم نزَلْ

فما شَجِيتُ بشيء ما شَجِيتُ به، ... كأنما اعتمَّ منه مَفْرِقي بجَبَلْ

ولست أنكر أن علو السن بالمرءِ أمر ينبغي أن يلقى له باله ويتعهده حتى لا يؤخذ على سهو وفي غفلة، وأن الشيب هو النذر العريان - ولكن ما بالشيب من عار، فنحن إنما خلقنا لنحيا ونموت، فلتكن حياتنا كلها كما بدأت جهاداً متصلاً جريئا في سبيل الغاية التي نفخ الله فينا من أجلها الروح. وقبيح بأمري علمته الأيام ووعظته الأسى منذ كان أبوه الشيخ آدم إلى يوم الناس هذا - أن يجزع أشف جزعٍ من منهل لم ينج سابق من وروده، ولن ينجو من وروده لاحق.

وليت شعري ماذا يضيرني من شيبة في شعراتٍ، إذا كان قلبي غضاً جديداً كأنه ابن ألامس القريب؟ ولو قد كان ذلك ضائري لقد هانت الحياة هواناً يجعلها أسخف وأخف وأضأل من أن أحفل بها اقل حفل. وكذلك عقدت عزمي على أن أضرب في مسالك الحياة حيث لا يعوقني وقار غث، ولا حنبلية متزمتة، وحيث أخبر الحياة على وجهها الذي هي عليه اليوم، لأعرف ما الذي ستكون عليه غداً. فأسرعت إلى حلقات الشباب ممن تجاوزوا العشرين وأشرفوا على الثلاثين، لأرى كيف يفكرون، وأنظر كيف يعملون، وأعرف ماذا يدبرون، وأعلم أين يستقبلون فرأيت ونظرت وعرفت وعلمت، فأشفقت وأملت، وخفت ورجوت، ولكني على ثقة من أن رحمة الله أوسع من أن تضيق بأمة ضلت في بيداء هذه الحياة، وقد خرجت تضرب في جوانبها مطموسة البصر إلا ما شاء الله.

كان من أهم ما شغلني أن اسمع ماذا يقولون عما يشغل الناس جميعاً في هذه الأيام، وأن أناقشهم فيما يقولون حتى أعرف خبئ نفوسهم وضمائرهم، وأن انقل ما استطعت شيئا مما يعتلج في هذه القلوب الشابة التي تريد الحياة الحرة الكريمة - أي تريد الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وينبغي لكل صاحب قلم أن يحرص أشد الحرص على بيان ما يرى وما يراقب، فإن الجيل الماضي الذي صارت إلى يديه مقاليد الحكم في مصر غافل كل الغفلة عن الآمال والآلام التي تساور القلوب المصرية الشابة، وجاهل كل الجهل بالمولود الجديد الذي ولد في أرض مصر وشب ونشأ واستوى وكاد يبلغ مبالغ الرجال. يقول قائل الشباب:

(لقد خرجت مصر كلها، عالمها وجاهلها وغنيها وفقيرها، تنادي يوما ما باسم (الجلاء) وباسم (وحدة وادي النيل من منبعه إلى مصبه) وباسم البلد الواحد الذي هو (مصر والسودان). والشعوب أو الجماهير إن شئت، لا تعرف تفاصيل التاريخ ولا يهمها أن تعرف، بل هي تحس وتدرك وتتمنى وتسعى وتفعل كل شيء بالإلهام الذي تسدده الفطرة المستقيمة، وهذه الفطرة المستقيمة إذا نظرت إلى شيء واستوعبت لبه وطرحت نفايته ولقد نظر الشعب المصري بفطرته المستقيمة فرأى دولة طاغية تحتل سماء بلاده وأرضها وبحارها، بل تحتل أرزاقها المقسومة لأهلها من طعام وشراب، وتشاركها في نسمات الهواء بل تضيق عليها أيضا، وتحرمها النفحة بعد النفحة من هذه النسمات. وإذن فهي تمنع عنها ما هو مباح للوحوش في مساربها، والبهائم في مراعيها، والطير في مسابحها. وإذن فلابد أن تظفر يظفر به أدنى الخلائق وأهونها على الناس وعلى الله ربها وربهم.

وإذن فالشعب لن يعرف إلا كلمة واحدة هي: (الجلاء)، ولا ينادي إلا بشيء واحد هو: (اخرج من بلادي أيها الغاصب)، ولا يعرف من التاريخ ولا من السياسة ولا من البراعة والحذق في الدهاء إلا أن هذا غاصب واقف بالمرصاد يغتاله ويغتال أسباب حياته، ويرمي به في الرغام ليعيش هو في رغد وفي بحبوحة.

(قام الشعب فاسمع من كانت له أذنان، فإذا فئة من محترفي السياسة، ومن كل محتال عليم اللسان، ومن كل وجيه زينه ماله وغناه، ومن كل ذي صيت رفعته الأقدار بالحق أو بالباطل - قد هبوا جميعاً مع الشعب يقولون بمثل الذي يقول، فظن الشعب أنهم قد صدقوا بعد ماض كذب على التاريخ وعليهم، فرضى عنهم وأعانهم، ولكن لم يلبث إلا قليلا حتى رأى الوادي يموج عليه بالحيات والأفاعي والعقارب، وكل لداغ ونفاث وغدار، فانتبه فزعاً يطلب النجاة مما تورط فيه من ثقة بأقوام لم ينالوا يوماً ما ثقته، ولا حملهم أمانته، ولا رضى عن أعمالهم، ولا سلم إليهم مقاليده إلا مرغما أو مغرراً أو مخدوعاً. ثم بقى الشعب يترقب نهاية هذه المفاوضات العجيبة التي نالت فيها مصر كل شيء إلا الجلاء، ورأت كل عجيبة إلا عجيبة ارتحال الجيوش البريطانية ذات الزي العسكري أو الزي المدني).

ويقول قائل الشباب: (أنني لا أعرف تاريخ القضية المصرية على الوجه المعقد الذي يدلس به الساسة علينا، ويدخلون به المخافة والذعر في قلوبنا. لا اعرف من تاريخ هذه القضية إلا أن بلادي كانت توشك أن تكون قبيل 1882 إحدى الدول العظمى في العالم، ثم إذا بأوربة كلها تتألب على هلاكها، وقتلها، والولوغ في دمها بتحريض دولة واحدة قد امتلأ قلبها جشعاً وحقداً. فلما ظفرت بما أرادت، ذادت كل دولة عن طريقها، ورمت مصر غدراً وخيانة فاحتلتها في سنة 1882، وحسدتها الدول، وخافت مغبة احتلالها لأرض مصر، فتألبت عليها وطالبتها بالخروج منها، فوعدت أن تجلو عن أرض مصر جلاءً ناجزاً بعد أن تستقر الأمور ويتوطد سلطان العرش المزعزع! وقامت مصر تطالب بالجلاء فوعدت أيضا بالجلاء، وظلت بعد ذلك تعد وتعد وتعد وهي لا تمل وعداً ولا تحققه، إلى أن كانت سنة 1956 فإذا هي تعلن الجلاء إعلاناً تاماً صريحاً بيناً واضحاً ناجزاً سريعاً، وتبدأ تجلو، ولكن من غرفة إلى غرفة، ومن سرير إلى سرير، ولكنها لا تخرج من باب الدار إلى لقم الطريق.

(ثم إننا نرى هذه الفئة التي اختالت في ثياب (الزعامة) ومجدتها الصحافة وسمتها باسم (الزعامة) قد دخلت في المفاوضات بينها وبين البريطانيين باسم مصر، ومصر منها براء، فإذا بريطانيا تزعم للشعب أنها جلت عن مصر، فأخلت القلعة، وأخلت فندق سميرا ميس! وكانت فيه القيادة العليا البريطانية للجيش البريطاني في مصر، وأخلت كذا، فتجلوا عن كذا، ولكنها تأبى في المفاوضات إلا أن تبقى في مصر لتشارك مصر في الدفاع عن أرض مصر العزيزة - على بريطانيا بطبيعة الحال!

(أفتظن هذه الفئة أن الله قد سلب الشعب المصري فطرته السليمة، حتى تخدعه كل هذه الترهات الباطلة التي يرسلها كهنة السياسة من كهوف المفاوضات على واديه المحرم؟ لئن ظنوا فقد خابت ظنونهم وباءوا فأخيب الرأي وأبعده عن مواقع الصواب أن الذي بيننا وبين بريطانيا قد بان وتكشف لكل ذي بصر. نعم لقد مضى على مصر دهر وهي مخدوعة بالمفاوضة، ومخدوعة بقدرة السياسة على نيل الحقوق المهضومة، ولكن لم يبق في مصر بعد اليوم شابٌ في قلبه ذرة من أيمان بالحرية، وفي عقله ذرة من حسن التقدير وصدق التفكير، إلا وهو يعلم أصدق العلم أن المفاوضة معناها كذب القوى على الضعيف، وذلة الضعيف بين يدي القوى. ونحن ننظر صابرين إلى هذا العبث الدائر بين رجال قد أحدوا أنيابهم، وأعدوا مخالبهم، ورجال قد عرضوا مقاتل أمتهم لهذا الضاري المفترس ليقضم منها حيث شاء كما شاء، ثم يقول للفريسة: لقد أعددت لك الأطباء والممرضين ليضمدوا جراحك ويحقنوا دمك، ويدفعوا عنك عادية الردى! وكذلك تكون شفقة الأسود الرحيمة!

(أن القضية المصرية أبسط قضية على وجه الأرض: غاصب قد أقرت الدول جميعاً منذ سنة 1882 أنه غاصب معتدٍ، ومغصوب لا يزال يصرخ منذ ذلك التاريخ، ويقول لأهل الدنيا أنقذوني. فما معنى الدخول في المفاوضات بيننا وبين بريطانيا؟ إن العالم كله مطالب بإخراج بريطانيا من مصر، ونحن لا نحب أن نفاوض بريطانيا ولا ينبغي لنا أن نفعل، بل الذي ينبغي هو أن نفاوض الدول كلها إلا بريطانيا في شأن إخراج هذا الغاصب وإجلائه عن برنا وجونا وبحارنا، وفي صده عن عدوانه على أعراضنا وعلى طعامنا وعلى أرزاقنا وعلى أخلاقنا وآدابنا وثقافتنا. . .

(إن بريطانيا دولة قوية ما في ذلك شك، ولكننا أقوى منها لأننا أصحاب حق. فليعلم هؤلاء المفاوضون أن مصر لن تقبل الدنية في مستقبلها ومستقبل أجيالها، وليعلم هؤلاء المفاوضون أنهم لا يملكون التصرف في حق رقاب أهل مصر الحاضرين، ولا في رقاب الأجيال الآتية، وانهم وإن كانوا مصريين أكواما، إلا أن مصر خالدة على وجه الدهر، وهي أكرم منهم على أبنائها ورجالها الآتين. ونحن الشباب الناشئ نعرف أننا لن ننال لأنفسنا ولبلادنا حقها وحريتها إلا بالحزم والعزم وترك التهاون، والإقلاع عن هذه الخبائث التي يسمونها المفاوضات، ونسميها نحن المساومات. ونحن الشباب الناشئ نعرف أن الحياة لا معنى لها إذا خلت من الشرف والكرامة، وأن الشرف والكرامة عندئذ هي الموت. فلنمت كراماً صادقين، فذلك خير من أن نعيش أذلاء مستعبدين. ولتعلم هذه الفئة أنها تسير بمفاوضاتها في وادٍ وأن الشباب يسير في وادٍ غيره، فليحذروا مغبة ما يفعلون، وخير لبريطانيا أن تفهم هذا ولا تتجاهله، فربما جاءها يوم لا ينفعها فيه هذا التجاهل، وكان خليقاً أن ينفعها الفهم وحسن الإدراك).

هذا حديث الشباب أيها الشيوخ، فتحذروا غداً، فإن القوة التي تتجمع في الصدور قد أوشكت تنقض السدود التي رفعتها بريطانيا وشيدتها وجعلتكم عليها قواماً وحراساً، أيها الشيوخ شاركوا الشباب قبل أن يأتي يوم لا يغني عنكم عقلكم ولا استبصاركم ولا تلبسكم بأثواب السياسة ومسوح الحكمة وعمائم الوقار. وذلك يوم قد دنا أوانه.

محمود محمد شاكر