انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 692/بين جيلين. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 692/بين جِيلَين. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1946


للأستاذ محمود محمد شاكر

انتفض شعر المتنبي فرمى إلي بهذين البيتين، وهما على بساطة لفظهما كالجبلين الشامخين في تاريخ الحياة الإنسانية:

سُبِقنا إلى الدُّنيا فلو عاش أهلها ... مُنعنا بها من جَيْئة وذُهوبِ

تملَّكها الآتَي تملّك سالبٍ ... وفارقها الماضِي فِراق سَليبِ

أفليس لمَلك الموت من عَملٍ إلا إخلاء الطريق للقادم، حتى يتاح له أن يغدوَ ويروح في الأرض التي ورثها عن السابق الفاني الذي مهَّد له بمواطئه سبيل الحياة!! ولعلّ ملك الموت يحارُ أحياناً حْيرَة تديرُ رأسه في الأمر الذي حمل أوزاره، وكُلَّف بقضائه، ولعله يرى أحياناً أنه يزيلُ خيراً كثيراً ليخَلُفه شرُّ كثير، فهو يتردّد تردُّد المتحسّر على ذاهبٍ هو أولى بالبقاء من قادم، ولكنه يقضي قضاءه الذي لا يجد عنه مندوحة ولا مهرباً؛ وهو ككل صاحب صناعة قد أَلفها ودرِب عليها ولا يجيدُ سواها؛ فهو يعيش بها على الرضى وعلى السخط، وعلى الفقر والغنى، وعلى الفتور والنشاط؛ وهو كسائر الخلق ميسَّرٌ لما خُلق له، ولو تُرك له أن يختار لاختار قديماً كثيراً على جديد كثير، ولآثر ناساً على ناس وحياةً على حياةٍ. ولقد أرثي أحياناً لهذا المخلوق البائس الذي يسَّرهُ الله لصناعة الإفناء والإهلاك، فإنه ولا ريب يرى ما لا نرى ويحس ولانحس، ولربما كلَّف أن يقبض الروح من زهرة ناضرة لم تكد تستقبل الحياة. فهو يذوب لها رقة وحناناً لما سوف تتجرّعه من غُصصه وسكراته وحشرجته ومكارهه، فكيف يقسو على من هو بالرحمة أولى، وبالبقاء أخلق من أخرى لم يبق فيها العمر المتقادم إلا الأعوادَ والأشواك والجذور التي ضرَبت فيها الأوقات، وبَرِم بها البِلَى من طول مُرَاغمتها له على العيش!

وكيف يفعل هذا البائس حين يعلمُ أنه قد دنا أجلُ عقل عبقريّ لم يتمّ عملة لخير هذه الحياةِ الإنسانية، فهو مأمور أن يطفئ نوره ليخلُفَه عقل دَجُوجيّ لا يأتي إلا بالسواد والإظلام؟ أترى أنامله ترتجف من الإشفاق والضنّ والبُقْيا على هذا السراج الذي أمر أن يقطع عنه أسباب الحياة؟ أم تُراه يفعل ذلك وهو مسلوب العقل والإرادة والإحساس كأنه قائد من رجال الحرب الحديثة، لا عقل له إلا الحرب، ولا إرادة له إلا الحرب، ولا إحساس له إلا الحرب، فهو كله حرب على الجنس البشري شِيبه وولدانه ورجاله ونسائه، لا يرحم صغيراً، ولا يوقَّر كبيراً، ولا يشفق على أم ولا ذات جنين! أم تراه يعلمُ ما لا نعلمُ من خبئ هذه الحياة الدنيا، وأن جليلها الذي نجُّله ونوقره، هو أولى الشيئين بالمهانة والتحقير، وأن الحقير الذي نزْدريه كأن أولاهما بالتجلّة والتوقير؟ فهو إذن يؤدي عمله راضياً عن نفسه وعما يعمل، لا تزعجه الرحمة لما لا يستحق رحمة، ولا يُمسك يده الإشفاق عما لا يستأهل إلا الإرهاق والتعذيب. وكأننا نحن إنما نحبُّ ونبغض ونرضى ونكره على قدر إدراكنا وما بلغ، لا على منطق الحياة المتطاولة الآماد والآباد، فنرى الأشياء متصلة بمصالحنا ومنافعنا، ومحصورة في حاجات أنفسنا وآمال قلوبنا، لا متماسكة ممتدَّة في كهوف الأمس السحيق، وسراديب الغد العميق.

فلو أن هذا المَلك كان ميسَّراً لإدراك الحياة ومعانيها بمثل العقل الذي ندركها نحن به، وكان كمثلنا في تقدير الأقدار على قياس الحاجات والآمال الراهنة محجوباً عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، لرأيناه يحرص أحياناً على أن يُبْقي على بعضنا ويعجل أحياناً في القضاء على بعضٍ آخر نظنُّ، ويظنُّ معنا، أنه لا معنى لبقائه في هذه الدنيا ليكون زِحاماً من الزِّحامِ لا عمل له إلا أن يَعُوق المتقدم، ويعثُر به الماشي، ويتفلَّل من جرائه حدُّ الماضي المتعجل، ولكان الناس يومئذ يأتون إلى الدنيا ليجدوها ممَّهدة من نواحيها لا يلقى لاحقٌ عَنتاً من وجودِ سابق؛ ولا يصادف إلا طريقاً خالياً لا يضطره إلى جهاد ولا حيلة ولا حذر، ولا يحمله على النظر والتأمل والهمة في إصلاح الفاسد والفكر في أسباب الفساد، وبذلك يتعطل العقل وتقف الإرادة ويستنيم المرءُ إلى الراحة حين يرضي عن عمل من سبقه من الذين أبقى الموت عليهم لأنهم أهلٌ للحياة. وكذلك تنقطع مادة الحياة، ويتفانَى الخلق بالرضى والقناعة كما يتفانون اليوم بالسُّخط والطمع. بيد أن موت الرضى والقناعة شرٌّ كله لأنه عقيم لا ينتج، أما موت التسخُّط والطمع فهو إلى الخير أقرب، لأنه يبقي البقية الصالحة التي تستمرَ ٌّ بها الحياة متجددة على وجه الدهر.

ومن أجل ذلك قُدّر للآتي القادم على الدنيا أن يأتي منذ يولد وفي إهابه حبْ التملك والتسلط والأثرةِ والعناد واللجاج في صغير الأمر وكبيره، وكذلك الطفل. وقُدّرِ للذاهب الراحل عن هذه الدنيا أن يدلف إلى الغاية، وقد نَفضَ عن نفسه أحبَّ أشيائها إليه فهو يؤثر الزُّهد والإيثارَ وسعة العقل وقلة المبالاة في كبير الأمر وصغيره، وكذلك الشيخ. فإذا الآتي متمَلَّك سالب، وإذا الماضي مفارق سليب.

فهذا هو تاريخ الصراع بين أجيال الناس كلهم، والأمم جميعها، والآراء بأسرها، والمذاهب برُمَتها؛ إلى آخر هذا الحشد مما يقع عليه الخلاف في هذه الحياة الدنيا، وليس يكون فيها شيء إلا كان مظنّة للخلاف. وهذا الصراع المُفنى هو نفسه سرْ القوة المحْيية، وهذا الجهاد المتواصل في طلب الغلبة والظهور، والنصر بين السالب والمسلوب، هو الحياة. وهذا العناء الشديد الذي يلقاه الشباب حين يحتدم الصدام بينهم وبين أهل السنِّ من قدماء الأحياء هو تكملة الإنسان الجديد الذي يريد أن يتملك مواطئ أقدام الإنسان القديم الذي كتب عليه أن يرحل ويُفسح الطريق لمن هو أولى منه بالعيش وعليه أقدر.

وقديماً قال القائل:

لكلّ جديد لَذَّةٌ، غيرَ أنني ... وجدت جديدَ الموت غير لذيذ

فيأتي الآتي إلى جديد الحياة، فإذا هو بها مشغوف لهيفٌ، وإذا هو نفسه جديد، فهو معجب بجديد نفسه ساخرٌ من قديم غيره؛ وإذا سرُّ كل (آت) هو جدته الموفورة، وسرُّ الضعف في كل (ماض) هو جدّته البالية. وللجديد نخوة ونشوة وإرباء على القديم، وفي القديم هيبة وذهول وتقصير عن الجديد، والصراع بين القديم والجديد هو صراع على الحياة وعلى البقاء وعلى الخلود، ولذلك لم يخلُ وجه الأرض قط منِ نزَال دامِ مفزع بشِع بين هذين الجبارين: الجبار الآتي الذي يريد أن يستأثر بالحياة، والجبار الراحل الذي يلتمس لجبروته الخلود: ولا تزال الدنيا دنيا ما اصطرع هذان الجباران، فإذا سكن ما بينهما فقد انطفأت يومئذ جمرة الحياة، ولم يبق إلا رمادها.

ونحن اليوم أحوج ما كنا إلى حدّة الصراع بين الجبارين: جبار الشباب وجبار الهرم، لأن الحياة التي حولنا تريدنا على ذلك، إذا أغفلنا مطالب الحياة الإنسانية نفسها، والتي لا بقاء لها إلا مكاره النزاع والنزال والمصاولة. ولكن يخّيل إلى أن جبارنا هذا الشابَّ لم يعرف بعْدُ أن اتخاذ الأهبة للقتال شيء لا غنى عنه لمن يريد أن تكون له العزة والغَلبة، وأنه ينازل جباراً سبقه إلى الدنيا فعرفها وخبرها واستعدَّ لها، وصرف همه إلى درسها وتمحيصها، وأنه قد بذل في إبان شبابه من جُهد التحصيل والاستعداد، ما غفَل هو عن مثله بين اللهو والعبث والآراء غير الممحصة، وأخْذ الدنيا على أهون وجهيها وأيسرهما، وعلى أن الصدق فيما قاله أسخف قائل: (اضحك يضحك لك العام)!!

ليس معنى الصراع بين الجديد والقديم: هو أن ينازل أصغر الخصمين وأقلهما تجربة، أكبرهما وأوفاهما تجربة، وهو يضمر له في نفسه الإزْراءَ به والتحقير له والاستهانة به وبسابقته في الحياة، كلا، بل هو يحرص أشد الحرص على فهم خصمه، وعلى معرفة حيله، وعلى درس قوته ومواطن الضعف فيها، وعلى أساليب معالجة للأشياء التي حازها بالنصر والغلبة على من سبقه. وذلك يقتضيه أن يجعل صدر أيامه وريِّق شبابه وقفاً على الدرس والتحصيل ورياضة النفس، وتربية القُوَى، وتعهُّد نفسه في مراشدها وتجنيبها مغاويها، فإذا فعل كان أهلا لمن ينازله، وكان خليقاً أن يكتب له النصر عليه، ولكن شاء الله أن يسلك جبارنا الشاب أضلَّ الطريقين.

فماذا كانت العقبى؟ بقينا إلى زمن نرى فيه الشيوخ الذين أكلَ الدهر جِدَّتهم، وأبلى هممهم، وأفنى حوافزهم، وقطع دابر الحماسة من نفوسهم، هم الذين يتولون تصريف الأمر في غدِنا تصريفَ العاجز، ويدبرون سياستنا للمستقبل تدبير الذاهل، ويسيرون بهذا الشرق كله إلى رَدَغةٍ موحلة يرتطم في أوحالها الشيب والشبان جميعاً. وإلا فأين الشباب المبشر بالخير المهدى إلى طريق الرشاد، ليكون لشيوخنا إذا عجزوا عضداً، وإذا قصِّروا باعاً، وإذا سقطوا خلفاً؟

إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير، ولكن لا أرى أحدَا

ومعاذ الله أن أكون ممن يُخْلي هذه الأمم من رجال شبان يدخل في أطواقهم أن يغيروا وجه هذا الغد الذي نستقبله، ومعاذ الله أن يلمّ بي اليأس ويتداخلني القنوط، فإني لأرى فيهم رجالا لوهم صرفوا عاماً أو عاملين في التأهب لصراع الغد، أي لصراع الحياة، أي لإنقاذ بلادنا من خوَرالشيخوخة، وجبن الهرم، وعجز السنِّ، وضعف الكِبرَ الطاحن، ومن غرور هذه جميعاً بسالف تجربتها واحتناكها، لأدركنا البغية التي يظن شيوخنا أنها محال، وأنها طَفْرة، وأنها جرأة وتقحم، وارتماء في مهاوي الهلاك.

أو ليس من أكبر العار في هذا الزمن أن يكون الشرق الذي بلغ بفتيانه قديماً ما بلغ، هو اليوم مبتلى بفتيانه أشد البلاء؟ أليس من الخزي أن يعرف أحدنا كيف تعاون شبابنا قديماً وكهولنا وشيوخنا على فتح الدنيا، فإذا خَلَفهم يتعاونون جميعاُ شيوخاً وشباباُ وكهولا على ترك بلادهم وأرضهم لقمة سائغة لكل طامع، ولحماً ممزقاً بين يدي كل جزَّار وإن هان؟

إن علينا نحن الشباب أن نوقر شيوخنا ونجلَّهم ونستفيد من تجاربهم، وعلينا أن ننازلهم ونصارعهم، ونأخذ من أيديهم المرتعشة ما يستقرُّ في راحاتنا الثابتة التي لا تخافُ ولا تتهيب. علينا أن نأخذ حقنا أخْذ الكريم المقتدر، من أقران نصارعهم ليموتوا موت الكريم البذَّال. وعلى هذا الصراع بين جيلينا يتوقف أمر الخير الذي نبتغيه، والاستقلال الذي نجاهد في سبيله، والعزة التي نسعى إلى اقتحام أهوالها.

وعلى شيوخنا أن يعلموا أنه لا بد لهم من شباب شديد الأسر يشد أزرهم إذا ضعفوا، ويخلفهم إذا هلكوا ولكنهم غفلوا زماناً فتركوا النشء ينشأ بين أحضانهم، فلم يسدّدُوه ولم يعاونوه ولم يعدُّوه لغدهم، وقلبوا آية الحياة وبدَّلوا معناها، فكانوا هم الصبيان حين تخلقوا بأخلاق الصبيان، وأصرُّوا على حبّ التملك والتسلط والأثرة والعناد واللجاج في كبير الأمر وصغيره!

هذه الأيام تمضي بنا سِراعاً، فلنقدّر لغدٍ، فإن مستقبل الشرق معقود بنواصي شبابه، فإذا نَفضَ عن نفسه غبار الكسل والمجاتة واللهو، كان إلى النصر أسرع ساعٍ، وعلى الدنيا الجديدة أكرم وافد.

محمود محمد شاكر