مجلة الرسالة/العدد 692/مقالات في كلمات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 692/مقالات في كلمات

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 10 - 1946



للأستاذ علي الطنطاوي

المذهب الرمزي كما أفهمه:

يقف الشاعر على الطريق فتمر به مائة امرأة، ما فيهن إلا جميلة فتانَة تستهوي القلب وتستميل الفؤاد، وما واحدة منهن تشبه في جمالها الأخرى، فلكل (جمال) طعم في الذوق، وأثر في النفس، ومعنى في الحسّ. ويسمع مائة صوت ما فيها إلا مطرب يهز ويثير، ولكنّ للبيات (طرباً) ليس للرصد، وفي الصبا ما ليس في النهاوند. ويشمّ عشر زهرات فلا يجد فيهن إلا طيباً وعطراً، ولكن أثر الياسمين في النفس غير أثر الورد، وفي الزنبق ما ليس في البنفسج؛ وربما رأى المرأة أو سمع النغمة في حال، فأثارت في نفسه عواطف لا تثيرها في حال أخرى، فإذا جاء يصورها بالألفاظ هذا العالم الزاخر من (المشاعر) والخواطر لم يجد لهذه الآلاف المؤلفة، من (المشاعر) المختلفة، والخواطر المتباينة، إلا ألفاظاً قليلة لا تقوم لهذه الكثرة، ضيقة لا تتسع لشيء من هذه التفاصيل، ميتة لا تستطيع أن تجاري هذه القافلة الحية المتوثبة من الخواطر والأحلام الإنسانية. . .

ويقرأ القصة من القصص، أو الأبيات من الشعر، فتنقله إلى دنيا أخرى يرى فيها ما لا تراه عيون أكثر الناس، ويدرك من جمالها وسحرها ما لا تدركه قلوبهم، فإذا عمد إلى حصر هذه الدنيا في نطاق من الألفاظ تفلتت منه ومضت، كما يمضي عبق الزهر إذ ينبثّ في الجو، وهبط من بعدها إلى أرض الحقيقة الصلدة، كما هبط آدم من جنته إلى الأرض. . .

ويسمع الأغنية الحالمة تخرج من قلب عاشق مشوق، فتطفو على وجه النسيم العليل، في الليل الساجي، ينادي بها الليل، والليل معرض لا يجيب، فتَهز الأغنية إذ يسمعها (شاعريته) فتسقط أنضج ثمارها وأحلاها؛ فإذا راح يجمعها ليودعها ظروف الألفاظ، طارت من بين أصابعه كأنها حباب الخمر، أو خيوط النور. . .

ويحلم نائماً أو مستيقظاً فيجد لهذه الرؤى والأحلام متعة وجمالا يملأ جوانب نفسه، ويصل إلى قرارة قلبه، ويصحو منها ولذتها في حسّه، وأثرها في نفسه، وبقاياها في ذاكرته، فإذا أراد أن يضع وصفها على لسانه، خانته الألفاظ ساعة الشدة، وفرّت منه ولم تسعفه. . .

فماذا يصنع الشاعر؟

أيقنع من الشعر بوصف الحالات النفسية الواضحة الدانية، ويدع كل سامٍ منها رفيع، أو غامض معقد؛ وتصوير مشاهد الطبيعة الجامدة دون أن يفيض عليها أفكاره وأحلامه وذكرياته؟ إنه إن فعل كان كمن يأخذ الأصداف والديدان من شاطئ البحر مجتزئاً بها عن كل ما في البحر من لآلئ وأسماك، فماذا يصنع؟

فكر في ذلك ناس من شعراء أوربة فرأوا أن الخصلة من شعر الحبيب، تذكر المحب بأيام الغرام، وتتلو عليه وهي خرساء لا تنطق تفاصيل أحداثها حتى كأنه قد رجع إليها؛ والنشيد الحربي يقص على الجندي الهرم أنباء معاركه التي خاضها؛ وصورة برج إيفل يعيد للباريسي النازح ذكريات بلده الذي فارقه، وما خصلة من الشعر وما النشيد وما الصورة؟ إنها رمز تستدعي في الذهن صوراً وحقائق على طريق (تداعي الأفكار) كما تذكر صورة الكعبة بالحج، و (جون بول) بإنكلترا، والأهرام بمصر. . . فلماذا لا نرمز لكل حالة نفسية غامضة برمز يذكر القارئ بحالة مثلهاكان وجدها، اعتماداً على (تداعي الأفكار) وعلى أن نفوس البشر متشابهات في الجملة في حالاتها الكبرى؟

وقد حاولوا أن يفعلوا ذلك فنشأ ما ندعوه بالمذهب الرمزي فليس الشعر عند الرمزيين أن تصف الحبيب بل ما يثير في نفسك الحبيب من عواطف، ولا أن تصور مشهد الطبيعة بل ما يبعث المشهد فيك من خواطر. وإذا كانت هذه العواطف والخواطر غامضة، فليكن الشعر غامضاً مثلها، على أن يثير في السامع أمثالها، ويحضر له نظائرها. وأول شرط للشعر عندهم هو أن يكون وقعه في الأذن جميلا بارعاً، وأن يكون لألفاظه رنين اللحن الموسيقي. والشرط الثاني هو أن يعلو بسامعه، ويحمله إلى أسمى الحالات النفسية. قال عميد الرمزيين بول فرلين (الشعر ما انبعث من قرارة النفس، ورفَع إلى ذروة السماء، وكان موسيقياً قبل كل شيء).

وهذي غاية ما نظر إلى أبعد منها أديب، ولكن هل بلغ الأدباء الرمزيون هذه الغاية؟

الجواب: لا، وإن نهاية ما وصلوا إليه أن جاءوا بشعر في ألفاظه موسيقية وجمال، يلوح من ورائها معنى فيه من (تلك) الحالات النفسية غموضها، ولكن ليس فيه سموّها ولا عظمتها، ولا يدني منها ولا يوصل القارئ إليها.

هذا ما عندهم؛ فما الذي عندنا؟

الذي رأيناه عندنا إلى الآن: أفكار مهوّشة مضطربة في رؤوس أحب أصحابها التعبير عن أفكارهم بالشعر، ولم يؤتوا ملكته، ولا أعدّوا له عدته، ولم يعطهم الله (شعور) الشاعر، ولطف حسّه، وصفاء نفسه، فاستعاضوا عن ذلك كله بالانتماء إلى المذهب الرمزي. . . ولا يكلف ذلك من يريده إلا أن يكتب في رأس قصيدته. . . أو مصيبته التي يحب أن ينزلها بالقراء، كلمة (من الشعر الرمزي) وأن يلقى صحفياً أحمق ينشرها له. . .

وكل الذي قرأناه إلى الآن من هذا الشعر. . . الرمزي، قطع هي أبعد عن الموسيقى من بُعد الأرض عن السحاب، وبُعد أصحابها عن الشعر، وهي تنزل بقارئها إلى أحظ دركات الاشمئزاز و (القرف. . .) بدلا من أن ترفعه إلى السماء التي ينظر إليها (فيرلين) عميد الرمزيين الأصليين لا القردة المقَّلدين. . .

لا. لا هذه ولا تلك، فالرمزية الحقيقية حلم جميل ولكنه منافٍ لطبائع الأشياء فلا يتحقق أبداً، ورمزية أصحابنا. . .

(تهريج) ثقيل، وتقليد بشع، وعدوان على الفن، فلا تدخل حرم الشعر أبداً. . .

إنها رطانة بحروف عربية، و (شعر. . .) ولكن لا شعور فيه ولا موسيقى ولا حياة.

عوَدة إلى (حرية الكتابة):

دفع إليّ أمس صديقي الأستاذ مظهر العظمة عدداٍ ً من مجلة الثقافة فقال:

- أنظر ما في هذا العدد.

فنظرت فإذا أناألقى أسماء جديدة لم أسمع بها قط قبل اليوم، فلا أحمد أمين، ولا فريد أبو حديد، ولا أحمد زكي؛ ولكن صدقي إسماعيل (؟)، وخالد حمد (؟)، وعمر كركوتلي (؟) فأنعمت النظر فإذا هي (ثقافة) أخرى، غير (الثقافة) المصرية المعروفة، تصدر في (دير الزور) من أعمال الشام، وإذا أصحابها قد سرقوا أسم مجلة الثقافة وحجمها وشكل غلافها وترتيبها حتى ليظن القارئ أنها هي، مع أنها منها كخريطة مصر بالنسبة إلى مصر. . .

فرددتها إليه، وقلت له:

- ألم تسمع أن المكتوب يقرأ من عنوانه، فدعني بالله منها لا أريد أن تَغْشي نفسي.

قال: لا والله، إلا أن تقرأ هذا.

وأشار إلى فقرة قرأت فيها ما نصه بحروفه:

(أيها السادة! الممعن في الأدب العربي من إنتاج العصور وجماع الفنون يلمح خطاً واحداً تنتظم فيه كل الألوان والأغراض هو خط السكون، والممعن في الأدب الفرنسي يلمح خطاً واحداً يناقض ما تقدمه هو خط الحركة).

قلت له:

لقد قرأت، فقل لي ماذا تريد من رجل جاهل بالأدب العربي وبالأدب الفرنسي، ويريد مع ذلك أن يتعالم وأن يتشبه بالباحثين؟ أيمكن أن يفتح عليه إلا بهذا الهذَر الذي لا معنى له أبداً إلا (الدعاية) المضحكة لفرنسة التي قطع رأسها في بلادنا، وبقيت أذنابها تتحرك كما يتحرك ذّنب (سام أبرص) بعد دعسه بالحذاء؟. . . وهذه ثمرة (حرية الكتابة)، فمادام كل دعيّ في الأدب أحمق يستطيع أن يكتب ما توحيه إليه حماقته، ومادام كل رجل معه ثمن الورق وأجرة المطبعة يستطيع أن ينشئ صحيفة أو مجلة تنشر كتابات الأدعياء والحمقى، فارتقب العجب العجاب، من هذا (الأدب. . .) الجديد، وهذه (المجلات. . .) المحدثة التي لا آسف على شيء إلا على أنها لم تلحق الأديب الكبير أبا العبر الذي كان يقف على جسر بغداد فيكتب كل ما يسمع من كلام المجتازين في صحيفة معه، ثم يشقها ويخالف بين أجرائها ويقرأ ما تحصل معه، فيأتي بالأعاجيب، إذن لكانت تنشر له، وتقدمه وتفضله على سائر الكتاب، لأن مقياس الجودة عند أصحاب هذه المجلات الجدّة والمخالفة، وآثار ابن العبر هذا جديدة لم يسبق إليها، مخالفة لكلام العقلاء جميعاً.

قال: أرجو أن تتم المحاضرة.

قلت: أعوذ بالله، ماذا عملت معك حتى تعاقبني بقراءتها؟

قال: لابد.

وأخذ يتلو عليّ تتمة هذا الهذر:

(السكون والحركة هذا هو كل ما استطعت الحصول عليه من وراء دراستي للأدب العربي والأدب الفرنسي).

قلت: يظهر أن هذا الرجل قد أطال الدراسة للأدبين، وسهر فيها الليالي مادام (كل) ما استطاع الحصول عليه (من وراء. . .) هذه الدراسة، هو السكون والحركة، وما السكون والحركة؟ العلم عند الله، فهذا شيء يدق عن إفهام أمثالنا من عباد الله المساكين، ويعلو عن مداركم. . .

وجعل يقرأ أشياء من هذا الباب، وأنا لا أكاد أفهم منها إلا مفردات الألفاظ، أما الجمل وما يراد من إيرادها، فكان يخفى عنى، حتى وصل إلى قوله:

(. . . وفي أزهارشرْ (بودلير) و (لاأخلاقية) أندره جيد، وإباحية فيكتور مرغريت الأدب الحر والفن الثائر).

فقلت له: وصلنا. هذا هو المقصد! إنه ينقم من الأدب العربي خلوّه من هذه (ألا أخلاقية) وهذه (الإباحية) مع أنه لم يخل منها، ولكن هذا الجاهل لم يسمع كما يبدو باسم بشار وأبي نواس، وأبو نواس هو أمام أندره جيد في (مذهبه. . .).

هذا هو مقصد هؤلاء الذين سماهم الأستاذ سيد قطب أولاداً لا أعراض لهم، كما جاء في إحدى مقالاته العظيمة التي جعل عنوانهم (من لغو الصيف) وهي والله الجدّ كل الجد، ليست باللغو ولا باللهو، وهي من خير ما جرت به الأقلام في هذا العصر. هذا هو مقصدهم: الإباحية!

إنه لا يغيظهم شيء ما يغيظهم أن يكون في الكتاب من يدعو إلى الأخلاق ومن يحارب الإباحية. . .

إننا نحاربها يا أولاد، لأن لنا أعراضا، وأن لنا بنات وأخوات، أما أنتم فلا بنات لكم ولاأخوات، ولو كنَّ لكم لما باليّم والله بأعراض بناتكم وأخواتكم، ولكشفتموهنّ على البلاج ولجعلتموهن (مرشدات). إنكم تؤثرون لذة الإباحية والانطلاق على شرف العفاف والحرمان، ثم إنكم جاهلون تقولون ما لا تفهمون، وتهرفون بما لا تعرفون، أفسدتم بكتاباتكم هذه ملكة البيان في نفوس النشء، وأفسدتم خلق العفاف في قلوبهم، وأفسدتم ميزان المنطق في رؤوسهم، وتلقون مع ذلك مجلات تنشر لكم ما تكتبون. . .

إني أعود مرة ثانية فأقول: إن المصيبة ليست بهذا الدعي الجاهل ذنب فرنسا صاحب هذا الهذيان ولا بأمثاله، ولكن المصيبة في (حرية الكتابة) فمتى يصحو رجال الحكومات، ويتنبه العقلاء، فيكفوا هؤلاء الأولاد الذين لا أعراض لهم، عنا وعن أعراضنا؟

متى؟ متى؟ أبعد خراب البصرة؟! علي الطنطاوي