مجلة الرسالة/العدد 688/وردة اليازجي
مجلة الرسالة/العدد 688/وردة اليازجي
للأستاذ يوسف يعقوب مسكوني
وقالت في رثاء ولدها أمين:
بأي فؤاد أبتغي بعدك السلوى ... وأنت فؤادي في التراب له مأوى
وهي تقول:
ألح عليِّ الحزن من كل جانب ... فشن على صبر الحشا غارة شعوا
فلو أن ما بي بالجبال لأوشكت ... تميد لما تلقاه من مضض البلوى
أرى نار قلبي كل يوم وليلة ... تزيد لهيباً كلم زدت في الشكوى
لفقد أميني بل حبيبي ومهجتي ... وريحان زوجي من غدوت له نشوى
لقد كان في عيني أبهى من الدجى ... وأعذب في قلبي من المنّ والسلوى
كصدر القنا كالنصل كالغصن في النقا ... كزهر الربى كالبدر كالرشأ الاحوى
أيا قبره هذا العزيز فلا تدع ... هوام البلى تهوي عليه كما تهوى
وحافظ على تلك العظام فأنها ... لكنز ثمين ليت قلبي لها مثوى
ورثت ابنتها أسماء بقولها:
يا قرة العين مالي عنك مصطبر ... كيف السلو ونار القلب تستعر
وكيف أسلو وعني اليوم قد رحلت ... أسما وأبقت دموع العين تنهمر
فيا عيوني جودي بالدموع عسى ... تخففي بعض ما في القلب يستتر
وساعدي مهجة المحزون عِّلك أن ... تطفي لهيب فؤاد كاد ينفطر
يا جمرة الحزن هلا تتركي كبدي ... يوماً بغير قروح فيه تنفجر
أسما شريكة قلبي آه وا أسفا ... هلا يعود زمان قد مضى نضر
ربيت تسعة أعوام معي واتى ... من ليس يمنعه كبر ولا صغر
ما كان أقصر ذاك العمر وا أسفي ... كزهرة في انبثاق الصبح تنتثر
يا لهف نفسي لأيام مضت عجلا ... كالحلم ولى فلا عين ولا أثر
أوّاه من طول ليل بت أسهره ... كأنما ماله صبح ولا سحر
قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... واليوم هان عليّ الدمع والبص وقالت ترثي أخاها عبد الله:
أعيناي جودي بالدموع السواكب ... وفيضي دماء بعد فقد الحبائب
ومنها:
طوى الدهر ما بيني وبين أحبتي ... وجّمع ما بيني وبين المصائب
تتابعت الأرزاء من كل جانب ... عليّ كما ينهل غث السحائب
ثم تقول:
ويا كوكباً قد غاب عني في الثرى ... وما هكذا عهدي غياب الكواكب
وتختم الرثاء قائلة:
سأبكيك دهري ما حييت وإن أمت ... ستبكي عظامي تحت طي الترائب
وقالت راثية إحدى السيدات عن لسان شقيقة لها:
قفا نبكي كي أودعها قليلا ... قبيل لبين إذ أمسى طويلا
رويداً حيث اطلب أن أراها ... فلا ألقى لرؤيتها سبيلا
وهيهات الوداع وقد أتاها ... رسول البين يخطفها عجولا
ثم تقول:
إذا ناحت وأعولت البواكي ... أكون أحق من أبدى العويلا
وإن تك فارقت في مصر نيلا ... ففي القليا أجتلت نيلا ونيلا
هناك تمتعت بنعيم عيش ... به تنسى المنازل والنزيلا
وأبقتنا بأحزان لديها ... نعد الصبر أمراً مستحيلا
وقالت ترثي قرينها:
أترى ما اكتفت صروف العوادي ... بسهام أصمت صميم فؤادي
كلما كاد يضمد الجرح ترمي ... ني بسهم مفتت الأكباد
وأبى الدهر أن يمن بنظم ... غير نظم الرثاء والتعداد
سلبتني المنون إنسان عيني ... ورفيقي وعمدتي وعمادي
يا أليفي في شدتي ورخائي ... ونصيري في النائبات الشداد
إلى أن تقول: قد بكت فقدك المنابر حزنا ... وتردت عليك ثوب الحداد
وبكتك العلوم من كل فن ... كنت فيه من أوحد الأفراد
شتت الدهر شملنا وافترقنا ... وكذا الدهر مولع بالعناد
فسأبكيك ما حييت إلى أن ... نلتقي في جوار رب العباد
وتختم الرثاء برثاء شقيقها إبراهيم العالم اللغوي المشهور:
لم يبق للحزن صبر ولا جلد ... ولا دموع تفي لي حق من فقدوا
وضاق صدري مما قد تراكم من ... حزني ولم يبق لي للاحتمال يد
بينا يضمد لي جرح لفقد أخ ... يجدد البين جرحاً ليس ينضمد
أخنى الزمان علينا مثل عادته ... واغتال من هو ركن البيت والسند
مضى الشقيق فشق القلب مصرعه ... وخلف النار في الأحشاء تتقد
ثم تقول:
يا قائل القول ما زالت به كلم ... وصاحب الرأي حقاً ليس ينتقد
منشى الفصول التي ما خطها قلم ... رب البيان الذي لم يحوه أحد
ومنها:
وكوكب الشرق ما تخبو له لمع ... وإن خبت فالضيا في أثرها مدد
بما نشرت لسان العرب معتصم ... وما نظمت لسان العرب معتضد
فضل سيبقى بقاء الدهر متصلا ... عليك لا ينقضي أو ينقضي الأبد
ثم تختم بهذه الأبيات:
يا صخر بنت الشريد اليوم منتشر ... لها عليك قواف في الورى شرد
هيهات ما فقدت صخري ولا نظمت ... دمعي ولا وجدت خنساء ما أجد
بكت وحيداً وأبكي ستة ذهبوا ... لكل محمدة بين الورى ولدوا
يا رحمة الله حلي في مضاجعهم ... ويا غمائم جودي حيثما رقدوا
وقد رثته ثانية حيث أنشدت على ضريح العائلة في بيروت أي بعد نقل رفاته من مصر:
يا قبر أهنأ بما أوتيت من ظفر ... فقد حويت كرام البدو والحضر
حويت من هزّ ركن العلم مصرعهم ... من بعد ما ألبسوه أفخر الحبر حويت كنزاً ثميناً لو عرفت له ... قدراً لفاخرت فيه أثمن الدرر
ثم تقول:
يا قبر قد عاد إبراهيم وا أسفي ... يضوي إلى أسرة من اتعس الأسر
فأي عين لهذا الخطب ما نزفت ... دماً وأي فؤاد غير منفطر
ويلاه من نكد الأيام كم فتكت ... بنا ولم تبق لي صبرا ولم تذر
يا قبر أكرم نزيلا حل فيك ولا ... تمتعنَّ البلى من جسمه النضر
وتختم بقولها:
يا من مضى وجميل الصبر يتبعه ... هل من سبيل إلى لقياك منتظر
قد كنت مني مكان الروح من جسدي ال ... مضنى وكنت مكان النور من بصري
ومن سور الرثاء أيضا ما قالته في الذكرى:
جز يا نسيم على وادي النقا سحرا ... وسل عن الصحب هل تلقى لهم خبرا؟
واشرح لهم سوء حالي بعد فرقتهم ... لعلهم يعطفوا أو يلفتوا النظرا
كنا وكانوا وكان ألامس يجمعنا ... فصير الدهر ذاك الجمع منتثرا
من لي برؤيتهم يوماً ويسعفني ... حظي وتبلغ عيني منهم الوطرا
مضى زمان الصفا ما كان أقصره ... وعوض الدهر عن ذاك الصفا كدرا
أحبابنا ما أمر العيش بعدكم ... وهل يطيب لقلب بات منفطرا؟
هذه مقتطفات من طويل الرثاء في اخوتها وأهلها الذين فقدوا في حياتها بكتهم بعيون تسيل دما لا دمعا. ولم يقتصر الرثاء فقط على من ذكرنا وإنما رثت جماعة كبيرة عن لسانها ولسان صديقاتها الكثيرات كما أوردنا البعض منها هنا بإيجاز.
ومن الشعراء طائفة ممن قرظوا ديوانها (حديقة الورد) فقالوا في ذلك أبياتا نورد قسما هنا، منهم قول الشيخ الحموي أحد أدباء يافا مادحا ديوانها:
الجهل شاع بهذا العصر وا أسفي ... وقد رأيت بيومي اعجب العجب
بديع نظم سما من وردة عبقت ... فاحت روائحها في العلم والأدب
فلله در لآلي درة نظمت ... كريمة اليازجي حسّانة العرب
وقال الحاج حسين أفندي بيهم: حديقة الورد طابت لجانيها ... ورق بالطبع قاصيها ودانيها
فالقاطف ثمار المعاني من لطائفها ... وارشفت شهي الحميا من قنانيها
يا حسن فكرة من أبدت لنا درراً ... ونظمت خير عقد من دراريها
فإنها فرع ناصيف الذي اشتهرت ... لطفا مقاماته وارتاح حاكيها
حكت أباها بآداب فما ظلمت ... جاءت على أصلها الباهي قوافيها
دامت تطرز أثواب القريض لنا ... ما قام يطرب الأشعار راويها
ثم قال إسكندر أغا أبكاريوس:
أهدت لنا نفحات الورد في الكلم ... كريمة من بنات الجود والكرم
فريدة قد سمت في الناس واشتهرت ... ألطافها بين عرب الأرض والعجم
أكرم بها درة قد طاب عنصرها ... بالفضل أشهر من نار على علم
فاقت على سائر الأمثال قاطبة ... للنظم والنثر والآداب والشيم
صاغت لنا من نفيس الشعر أحسنه ... نظما وأجوده في المدح والحكم
أبدت لنا السحر في نظم البيان وقد ... زهت وباهت نساء العصر بالهمم
لا زال طالها بالسعد مقترنا ... ما ضاء بدر الدجى في حندس الظلم
وقال خليل أفندي الخوري:
لا يفخر الغرب بالغادات لابسة ... تاج البلاغة تجلو راية الأدب
فان في الشرق روض رائق نضر ... تهدي شذا الشعر فيه وردة العرب
كريمة للكريم اليازجي بدت ... تجلو الفخار بمجد العلم والأدب
وقال المعلم أسعد الشدودي:
ألا يا وردة العرب التي قد ... زها نظم لها كعقود در
لقد أنشأت ديواناً بديعاً ... به أنسيتنا خنساء صخر
معانيه الدقيقة ذات ظرف ... لها رقصت معاني كل شعر
فلا عجب إذا فاقت سواها ... فنشر الورد أطيب كل نشر
ثم قال يوسف أفندي السيوفي:
نزه لحاظك في جمال حديقة ... أبداً يفوح الطيب من أزهارها لا بدع أن فاقت بحسن بهائها ... وتقاصر الأقران عن أقدارها
فالورد من أغراسها والطيب من ... أنفاسها واللطف من أسرارها
ثم قال سليم أفندي الخوري:
في روضة الورد قامت وردة العرب ... تبدي لنا نفحات العلم والأدب
كريمة الفرد ناصف التي أخذت ... عنه النظام فكانت بنت خير أب
أبدت من رقيق الشعر أعذب ما ... يحلو ويغلو كما يخلو من الريب
وقال المعلم إبراهيم سركيس:
فريدة العصر قد صاغت لنا درراً ... تدوم ريانة حيناً إلى حين
أحلى الحدائق ما كانت مكللة ... بالورد والورد سلطان الرياحين
ومما قاله أخوها الشيخ إبراهيم اليازجي:
هذه حديقة ورد عز جانبها ... وحبذا روض ورد يفرج الكربا
من طافها ير فيها الدر منتظما ... والطيب منتشراً والسكر مختلبا
هذه صورة مصورة من حياة الشاعر الكبيرة وردة اليازجي أقتطفتها من ديوانها (حديقة الورد) آملاً بعملي هذا تقديم باقة من زهر هذه الحديقة الغناء يشمها القارئ فيتعطر بشذاها ويتعبق برائحتها خدمة للأدب والتاريخ.
(بغداد)
يوسف يعقوب مسكوني