مجلة الرسالة/العدد 687/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 687/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 09 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 24 -

أربع سنوات بغير حرب:

نشر ملتن كما أسلفنا كتيبه الأخيرين في دفاعه عن حق إباحة الطلاق بعد كتيبه الذي ناضل فيه حرية الرأي، ثم سكت منذ شهر مارس سنة 1645، فلم يكتب مجادلاً أو مخاصماً إلا ما ندر من الشعر حتى سنة 1649، فكانت هذه السنوات الأربع فترة سكون أعقبها وثبه قوية في ميدان آخر هو ميدان السياسة

وقبل أن ننظر فيما كان من أمره في هذه السنوات الأربع نشير إلى مقال أثبت فيه رأيه في التعليم، وقد نشره قبل ذلك ببضعة أشهر، أي في صيف سنة 1644

كتب ملتن هذا المقال الذي لا يزيد عن ثمان صفحات بإيحاء صديق له يدعى (صمويل هارتلب)، وهو ينتمي في أصله إلى دنزج، وقد أقام في لندن منذ سنة1628، وكان مهتماً بفلسفة التعليم وتجديد أسلوبه على نحو قريب مما دعا إليه بيكون في انجلترة وكومنيس في أوربا من قبل. . .

وينصب رأي ملتن على التلاميذ من سن الثانية عشرة إلى الحادية والعشرين، وتلمح في المقال على صغره خصائص أسلوبه ونوازع وجدانه، ففيه مثلما يحسه المرء في كتيباته من السمو بالغرض في كلُّ ما ينهض له، وفيه النظرات الحرة التي لا تتقيد بقيد، والتي تنفر من كلُّ متواضع متعارف، وفيه كذلك الاعتزاز بالرأي والتحمس له والاستناد إلى مصادره هو وإنكار ما عداها!

وعنده أن التلاميذ في هذه السن يجب أن يفرغوا في وقت قصير من القواعد اللاتينية والإغريقية، وأن يطالعوا بعد ذلك بعض الكتب الإغريقية السهلة؛ ويجب أن يتخلل هذه الفترة من دراستهم محاضرات تذكى في أنفسهم حب العلم والفضيلة، ومتى اكتمل شعورهم بأداء الواجب (صعدوا في سفح المعرفة غير معجلين ولا وانين)؛ وعليهم أن يتقنوا دراسة الكتب الإغريقية واللاتينية في كلُّ فروع العلم، ولتخصص ساعة للسان العبري، ولكيلا يسأموا ينبغي أن يعلموا المصارعة والملاكمة وإضرابهما من فنون الرياضة، وأن يقلدوا بعض المعارك ليفهموا أساليب القتال، وأن يسمعوا الموسيقى لتنعشهم وتهذب نفوسهم. . .

وواضح من منهاجه هذا أنه يقيس على نفسه فيقترح هذا العبء الثقيل للتلاميذ، لأنه نهض بما هو أثقل منه في غير عناء، وكأنما تأبى عليه شدة ذهابه بنفسه إلا أن يجعل من كلُّ ما يعمل وما يرى من رأى مثالا ينبغي أن يحتذيه الغير. . . وهو في منهاجه كذلك يخرج على البيوريتانز، إذ يوجب تعلم الإغريقية واللاتينية وشتى فنون المعرفة. . .

وألقى ملتن قلمه منذ أوائل سنة 1645، وظل يترقب في هدوء أبناء الحرب الأهلية التي مالت معركة نسبي بكفتها نحو أعداء الملك في يونيو من تلك السنة، وكانت آثار الجهد بادية عليه لفرط ما جادل وناضل منذ أن ألقى بقيثارته على رغمه وشرع قلمه في سنة1641 ليبدأ حربه على قساوسة، ولكنه استشعر بعض الغراء في عودة زوجته إليه بعد معركة نسبي بقليل. . .

وكان منزله الجديد في حي باربيكان الذي استأجره بعد عودة زوجته يكاد على سعته يضيق بمن فيه، لذلك كانت المعيشة فيه ينقصها الراحة والهدوء، الأمر الذي ضاق به صدره أحياناً، ففيه لا يزال يتلقى العلم على ملتن عدد من أبناء أصحابه لا تخفت أصواتهم في أكثر ساعات النهار، وفيه يقيم ابنا أخته، ويقيم معه كذلك في منزله أبوه وهو اليوم شيخ كبير، كما حضر ليقيم معه مستر بوول وزوجته ونفر من أسرتهما سنة1646 بعد أن سقطت اكسفورد وفورست هل في يد أنصار البرلمان. وجاء ليعيش أخوه كرستوفر على مقربة منه، وكان لا ينفك يضايق ملتن بعسره وبمشكلاته القضائية التي جائت في وقت واحد مع مثيلاتها من مشكلات آل بوول. . .

ولم يعدم الأدب نصيراً في تلك السنين العاصفة، وكان هذا النصير هو ناشر يدعى موزلي على جانب ملحوظ من الثقافة، وكان مما نشره موزلي في خريف سنة 1645 كتاب كتب على غلافه: (قصائد مستر جون ملتن الإنجليزية واللاتينية، نظمها في أوقات متفرقة).

وكان هذا الكتاب ينتظم شعر ملتن كله من أول عهده بالقريض حتى ذلك اليوم؛ وفي الصفحة الأولى أثبت ملتن عبارة مقتبسة من فرجيل مؤداها أن للشعر هواه ومتجهة لا للكتيبات، وأنه لا يحب أن يعرف بشيء إلا بالشعر، وأثبت كذلك في تصدير ديوانه ما تسني لشعره من تقريظ الأجانب إياه وثنائهم على صاحبه!

ولا ريب أن خصومه من المتزمتين قد وقعوا كما صورت لهم عقولهم ونوازعهم على أكثر من غميزة في هذا الشعر الذي يزخر بصور الجمال والفتنة وخرافات الإغريق والرومان، وفي تلك الأغنيات التي لحنها على أوتاره الملحن (لو) الذي ينتمي إلى حزب الملك، وأنهم لذلك تغامزوا فيما بينهم ونعتوا باللاتينية أو ما يقرب منها ذلك الشاعر، وسخروا من ذلك الذي طالت بإباحة الطلاق، وثار على الرقابة وخاصم البرسبتبريز، فما يطلب في رأيهم إلا الإباحية وإن زعم أنه يدافع عن الحرية. . .

ولكن كثيراً من المثقفين تقبلوه بقبول حسن، وأشربوا في قلوبهم محبته، ومن هؤلاء صديق له مرموق المكانة في الأدب والثقافة هو الدكتور روس الذي كتب إليه يسأله نسخة ثانية من كتابه، فأرسلها إليه الشاعر مشفوعة بمقطوعة يثني فيها على هذا الصديق ويتواضع على غير عادته إذ يشير إلى مبلغه من الشعر في صدر شبابه، ويحن إلى تلك الأيام التي أقبل فيها على النظم أول ما أقبل حين كان حدثاً لا تكاد تبلغ الأرض قدماه إذ يكتب، ويأسف إذ يرى اليوم ربات الشعر تروعها الحرب القائمة وتطيرها. . .

والحق أن للمرء عذره بادئ إذ أحس التناقض بين أن يكون ملتن بيوريتانياً، وأن ينطق لسانه بهذا الشعر، ويفيض قلبه بهذا الإحساس الغامر بالحياة ومسراتها ولذاذاتها وكل جميل فيها، ولكنه لا يكاد يتذكر مولده بين ربيع الأليزا ببيثين وصيف البيوريتانز حتى يدرك ما ذكرناه عنه من قبل أنه كالطائر المتخلف الذي يغني في هجير الصيف ألحان الربيع.

ولقد أشار مكولي إلى هذه الناحية من حياة ملتن فجاء بوصف بديع يحملنا لفرط قوته على أن نثبته هنا غير منقوص. قال بعد أن تحدث عن الملكيين والبيوريتانز (لم يكُ ملتن منتمياً بمعنى الانتماء الحق إلى طائفة مما ذكرنا، فلم يكُ بيوريتانيا ولا من ذوى التفكير المطلق من قيود الدين ولا ملكياً، فقد اجتمعت في أخلاقه وائتلفت من صفات كلُّ طائفة أكثرها نبلا، فمن البرلمان والبلاط، ومن مجتمع المنشقين على الكنيسة والغناء القوطي للكتدرائية، ومن حلقات البيوريتانز الكئيبة الموحشة كالقبور ومباهج عيد الميلاد عند ذوي الجود من الفرسان، من كلُّ أولئك انتقت طبيعته واجتذبت لنفسها كل ما كان عظيماً صالحاً بينما نبذت كلُّ ما من شأنه أن يشوه تلك العناصر الخلقية من الخلال السافلة البغيضة. . . فعاش كالبيوريتاز عيشة من يمسي أبداً أنه تحت عين البارئ الأعلى، وكان مثلهم لا ينقطع تفكيره في المهيمن العدل؛ وفي الجزاء السرمدي؛ ومن ثم فقد أخذ عنهم احتقارهم للعليل الظاهرية، وقوة بأسهم وطمأنينتهم وعزمهم الذي لا يلين؛ ولكن أعظم الناس شكاً في الدين وأكثرهم استهزاء به لم يكن أكثر منه انطلاقاً من عدوى أوهامهم الجامحة، ومن عاداتهم الوحشية ورطانتهم المضحكة، وازدرائهم العلوم ومعاداتهم متع الحياة؛ ولئن كان يكره الطغيان أشد الكره فإنه كان على الرغم من ذلك يتصف بتلك الصفات الغالية القمة التي يتحلى بها من يكتسبها، والتي كادت تكون وقفاً على أنصار الطاغية فلم يك في الناس من هو أكثر منه إحساساً بقيمة الأدب، ولا أرق منه استساغة لكل متعة مهذبة، ولا أكثر منه شبهاً بسجايا الفروسية فيما يتصل بالشرف والحب، ولو أنه كان ديموقراطياً في آرائه إلا أن أذواقه وصلاته أكثر كانت مشاكله للملكية والأرستقراطية؛ ولقد كانت تحيط به كافة المؤثرات التي أضلت ذوي الأناقة والشجاعة من الفرسان، ولكنه لو يك عبداً لتلك المؤثرات بل كان سيدها المسيطر فكان كبطل هوميروس الذي استمتع بلذاذات السحر جميعاً ولكنه لم يعتقله السحر، فقد أصغى إلى أنشودة (السبرينز) ولكنه اتخذ سبيله في البحر بقربهن فلم تمسه منهن غواية تجنح به إلى شاطئهن المخوف. وشرب من كأس ميرسْ ولكنه كان يستحوذ على ترياق أكيد يبطل أثر حلاوتها الساحرة، وكذلك كان ملتن، فلم يك ما تملك خياله من الأوهام ليوهن من قوة حكمه على الأشياء فكان له من رجل السياسة في شخصه دريئة تدرأ عنه ما يسحر الشاعر فيه من أسباب الروعة والجلال والخيال؛ ويدرك ما نعنيه بقولنا هذا كلُّ من يتبين مبلغ ما هنالك من تضاد بين ما أفصح عنه من عواطفه فيما كتبه من مقالات عن القساوسة وبين تلك الأبيات الرصينة الجميلة عن العمارة الكنيسة والموسيقى الكنيسية في قصيدته البسبروزو التي نشرت حوالي ذلك الوقت الذي نشرت فيه المقالات، وتلك من المتناقضات التي تسمو بأخلاقه في نظرنا أكثر من كلُّ شيء غيرها لأنها ترينا كم ضحى ملتن من أذواقه واحساساته الخاصة لينجز ما يعتقد أنه واجبه نحو الإنسانية؛ وإن كفاحه لهو بعينه كفاح عطيل النبيل، ذلك الذي يرق قلبه ولكن يده ثابتة، والذي لم يأت عملا قط عن كراهة يل فعل ما فعله كله بدافع الشرف فهو يقبل خادعته الحسناء قبل أن يهلكها).

ويخيل إلينا أنه وقد رأى شعره في كتاب يلقاه منشوراً يتداوله الناس قد عاود نفسه الحنين إلى النظم، وتمنى لو ترك ضجيج الحرب وأنبائها وعاد إلى محراب الفن، ومن ثم كانت مقطوعته عن الساحرة التي نظمها سنة1645 والتي جعل عنوانها (إلى صديقي هنري لو)؛ وكان لو هو الذي لحن له بعض أغاني أركادس وكومسي كما أسلفنا ومثل دور الروح الحارس في الغنائية الثانية وبين الشاعر والملحن من صدر شبابهما محبة ومودة توثقت عراها ولو أن لو كان ملكياً، ولكن فنه كان أعز على صاحبه من أن يتجافاه بسبب الاختلاف المذهبي بينهما مهما اشتد كما أنه كان لشخصه عند ملتن مكانة لا تدانيها لأحد غيره مكانة. وفي هذه المقطوعة يرفع ملتن قدر لو ويعزو إليه فضل تهذيب الموسيقى في قومه. ذلك الفضل الذي لن تنساه العصور المقبلة، كما أنها لن تنسى عظيم صيته، ويقول لصاحبه في ختامها (لقد مجدت الشعر، وعلى الشعر أن يحلق كيما يمجدك. . . ولسوف يأذن دانتي للصيت أن يرفعك مكانا أعلى من مكان مغنيه كازلاً الذي لاطفة كيما يني له إذ لقيه في المطهر في غبش الجحيم)

ولكن الشاعر لا يكاد يلمس بكفه هذه الأوتار الهادئة الساحرة التي طال به عهد هجرانه إياها وعاوده الحنين إليها حتى يدعها إلى أوتار صاخبة ترن رنيناً مزعجاً مثل ضوضاء المعركة، فقد مس أذنيه طنين هو بقية سخط البرسبتيرينز على آرائه في الطلاق، فنظم سنة 1646 مقطوعة عاوده فيها عنفه وصرامة هجائه ونشرها تحت هذا العنوان (إلى مستكرهي الضمائر الجدد في عهد البرلمان الطويل) وفيها يرمي البرسبتيرينز بتهم قاسية. فيقول إنهم ذلك إلا ليكرهوهم بمبادئهم ضمائر الناس التي حررها المسيح، وأنهم لم يكونوا خيراً من القساوسة الذين قوضوا سلطانهم لا بدافع النقمة على آثامهم بل بدافع حسدهم إياهم على تلك الآثام، ثم يتوعدهم الشاعر بكشف الستار عن ألاعبهم ومكرهم ويستعدى عليهم البرلمان، ويذكر أسماء بعض رجالهم فيسخر منهم ويتجاهلهم، ويختتم مقطوعته بتلاعب لفظي يفهم منه أن البرسبيتر ما هو إلا قسيس كتب اسمه غير مختصر.

وبعد هذه المقطوعة آثر ملتن أن ينفض يديه من الخصومات ولعله سئم طول القتال، أو لعل ذلك لأنه في الواقع لم يجد ما يثيره ويسخطه، أو لعله يئس من بني قومه جميعاً ورآهم لا يستحقون منه ما يلقي من أجلهم من عنت الخصومات وغل الحزازات.

ولكنه وقد ركن إلى الراحة لم يظفر بها في بيته فقد ازدادت في البيت دواعي متاعبه وضيقه، فأضيف إلى ما فيه من جلبة صراخ بنتين ولدا له تباعا في سنتي 1646 وما بعدها، وما زال جيرانه وأنسباؤه يضايقونه بمشكلاتهم وأحاديثهم التافهة التي يتجرعها ولا يسيغها، لقد شكا من هؤلاء الناس فيما كتبه إلى صديق له بإيطاليا سنة 1647 يصف حاله فقال: (هؤلاء الذين لا يربطني بهم إلا مجرد الجوار يحرضون لمجالستي كلُّ يوم فيضجروني بل يكادون من فرط ما أحس به من ثقلهم يدفعون بي إلى الموت).

وفي سنة 1647 مات حموه مستر بوول، ولم يمض غير قليل حتى مات أبوه فحزن الشاعر عليه حزناً عميقاً، فقد كان يجله ويذكر دائماً ما له عليه من فضل، وترك له أبوه مالا تحسنت به حاله، فصرف تلاميذه لأنه استغنى عما كان يناله منهم من أجر نظير تعليمهم، ولأنه كانت تغمز على قلبه الرغبة في أن يعود إلى قيثارته، واستأجر ملتن منزلا جديداً أكثر سعة وأحسن موقعاً، وأمل أن يجد فيه ما ينشده من هدوء

ولكن شيئاً جديداً يقلقه ويخيفه وتتكدر له جوانب نفسه، وذلك أنه يوقن من تضائل بصره، ولقد بدأ ذلك الإحساس في نفسه منذ مستهل سنة1645، فظنه يومئذ وهماً من الوهم، ولكنه اليوم تلقاء حقيقة راهنة، فإنه إذا قرأ في صباح تألمت عيناه وأحس بظلمة تغشى الجانب الأيسر من عيناه، حتى لتحجب عنه ما يكون في هذا الجانب من أشياء. . . فإذا أضيفت هذه الظلمة إلى ما يكتنفه من ظلمة اليأس مما ابتغى من إصلاح أمكننا أن نتبين مبلغ ما كان يعانيه يومئذ من عذاب. . .

فكر ملتن أن يعود إلى الشعر، ولكن الفجر الذي بشر به في نهاية كتيبه الأول سنة1641، والذي لمح إلى طائره الصداح لم ينبثق نوره بعد، بل لقد ازدادت حلكة الغسق من جزاء هذا الاختلاف الشديد في الدين والسياسة الذي فرق الناس شيعاً وأحزاباً وطوائف متباغية، ومن جزاء هذه الحرب المستعرة التي تزلزل الملكة، وهيهات أن يتغنى شاعر في ليل كهذا الليل. . .

واتجه ملتن إلى التاريخ، فأخذ يكتب كتاباً في تاريخ قومه، وتبين المرء من مقارنته بين الأقدمين منهم الأنجاد الأذكياء وبين المحدثين الأدعياء الأغبياء مبلغ ما كان في نفسه يومئذ من سخط وازدراء لأهل عصره، ومبلغ ما ساوره من هم وسأم من هؤلاء الذين طالما امتدحهم فأطنب في مدحهم وتوقع على أيديهم كثيراً من الخير!

(يتبع)

الخفيف