مجلة الرسالة/العدد 685/من لغو الصيف
مجلة الرسالة/العدد 685/من لغو الصيف
3 - من لغو الصيف
سوق الرقيق
للأستاذ سيد قطب
هذا الحشد من العرايا فوق (البلاج) إنه يذكرني بسوق الرقيق. لم أر هذه السوق، ولكنني قرأت عنها، ورسمت لها في نفسي صورة إنها لو تجسمت ما كانت إلا هذا الحشد من العرايا فوق (البلاج)!
إنني أسمع هنا صلصلة القيود ووسوسة الأغلال وسوط النخاس! لا ألمح هنا طلاقة الروح، ولا حتى فراهة الجسد! لا ألمح الحرية التي ترفرف بلا سدود ولا قيود!.
يخيل إلى في أحيان كثيرة أن هناك (نخاساً) هو الذي يعرض هذه الأجساد للشراء. أكاد ألمحه مختبأ خلف هذه أجساد الرخيصة التي تتحرك وفيها ثقلة القيد، وتترنح فتوسوس الأغلال!
ويحي!
مالي لا ألمح الفرح في هذه الوجوه الضاحكة، ولا أحس السعادة في هذه الملامح المرحة؟
ليس هنا فرح ولا سعادة، فالفرح نورانية وإشراق، والسعادة شفافية واطمئنان. . . هنا عربدة تخفي وراءها ضجراً، ومرح يستر في الجوانح الضيق!
هؤلاء قوم ضاق عالمهم (الباطن)، فانطلقوا يذرعون الأرض بحثاً عن عالم (الظاهر)، ومن فقد نفسه فهيهات يجد في (الخارج) شيئاً يطمئن إليه، ويستشعر به السعادة والهدوء!
مساكين!!!
ولكن أهذه محنة رواد (البلاج) وحدهم في هذه الأيام؟
كلا! إنما هي محنة هذه الإنسانية التي غلفت عن نفسها لتسمع صوت الآلات، محنة هذه الحضارة المادية الواردة من أوربا، والتي فتنت الناس عن أنفسهم بما أبدعته من وهج وبريق وضجيج!
كم أمقت هذه الحضارة الأوربية وأحتقرها، وأرثي للإنسانية التي خدعت بها، فأوردتها التهلكة. . . بريق وضجيج، ومتاع حسي غليظ. وفي هذه الضجة تختنق الروح، ويخفت الضمير، وتنطلق الغرائز والحواس، سكرانة معربدة تهيجها الأنوار الحمراء، كالديكة والثيران في بلاد الأسبان!
حينما كان للإنسانية (باطن) تستجليه، وتستشرف فيه النور المشرق الشفيف، وتستروح فيه الأشواق الخالدة، والآفاق البعيدة. . . كانت هادئة مطمئنة مستقرة، لأنها في الأعماق هناك غنية بما تجد، مستغرقة في ذلك العالم الفسيح. . .
فلما طفت على السطح بفضل هذه الحضارة المادية البائسة، ظلت تقفز وتقفز، فلا تستقر أبدا وظلت في قلق دائم، وهياج مستمر. تبحث في كل يوم عن جديد، وتزهد بعد يوم في هذا الجديد.
إنها اللعنة التي يعدها (معجزة) بعض المفتونين بالبريق.
ما قيمة آلات واختراعات وكشوف لا تحقق للنفس سعادتها، ولا تهب للضمير اطمئنانه، ولا تستمتع فيها الإنسانية حتى بالراحة من الضجر والقلق والعربدة والضيق؟
ولقيني بائع الكتب في أحد مقاهي المدينة. . . فشكا إلي كساد سوق الكتب في هذه الأيام! وقلت أعزيه عن خسارته أو أسليه:
- أو تحسب الناس هنا جاءوا ليقرءوا كتبا؟ إنهم يستروحون ويستجمون ويستعيدون نشاطهم المفقود!
فما كان أسرعه بالجواب. . إنه فيلسوف:
- وهل هذه السهرات الحمراء الصاخبة التي يغرقون فيها مما يريح الأعصاب يا سيدي الأستاذ؟!
وحرت كيف أجيبه. وجمجمت بالكلمات المخنوقة، في الوقت الذي كان هو يتابع حديثه بعد هذا الاستفهام:
- الكتب يا سيدي الأستاذ تباع الآن في الحي الحسيني. هناك تجد الإقبال على جميع أنواع الكتب القيمة حتى في هذا الصيف الشديد. . .
إذن ما يزال في هذه الأمة خير. هذا الخير هناك في الحي الحسيني حيث يعيش الفقراء من الناس، وحيث يعيش الأزهريون. هنالك حيث يخفت صوت الحضارة المادية الجوفاء، وحيث يحيا جزء من الماضي.
ولكن إلى كم يا ترى يعيش هذا الخير قبل أن يخنق؟ ليخيل إلى أن الأزهر في السنوات (يتجدد) على طريقة (الغراب). فهلا اتقى الله فيه أولئك (المجددون) فحفظوا له قديمه في عهد الاجتهاد، وصانوه عن ذلك (التجديد) أو ذلك (التقليد)؟!
الكتب. .
وهل يصبر هذا الجيل الضجر القلق المعربد الصاخب. . . على الكتاب؟ ولماذا يقرأ الكتاب الجاد، ولديه تلكالمجلات الرخيصة والأفلام الداعرة تملق غرائزه، وتنادي أحقر ما فيه؛ وتنشر له صور العرايا على البلاج، وتحدثه بالدعارة عن القلب الإنساني وما فيه؟
أقول القلب الإنساني! وهل تعرف هذه الصحف والأفلام القذرة ومحرروها وممثلوها الرقعاء، شيئاً عن القلب الإنساني؟ ولكنهم يسودون صفحات كل أسبوع وينشرون أفلاماً في كل شهر عن هذا القلب الذي يزعمون!
آه. لو سوط الجلاد!
هنالك في (نجد) يجلدون الشعراء الذين يقولون الغزل. وهنا في مصر يصفقون لمن يدلون الفتيات والفتيان على طرق الدعارة ويدربونهم على المجون الرقيع. . .
شئ من التسامح هناك. وشئ من الحزم هنا. . . يرحمك الله يا محمد بن عبد الوهاب، ويرعاك الله يا عبد العزيز آل سعود! يوم وليلة فقط من هذا في مصر، ليجلد أولئك الرقعاء في محطة الإذاعة وفي (ستود يهات السينما) وفي جميع المجلات المصرية، الإعداد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، يشرف عليه بعض الشرفاء ذوي الأعراض وهم قليلون!!
ولكنهم مساكين.
لقمة العيش وشهوة الجسد. . . هذا كل عالمهم في الوجود!
هم وقراؤهم ومستمعوهم ومشاهدوهم من ذلك الطراز. . . ليس هناك أفق مجهول، ولا هدف مكنون.
ليس هنالك عالم في الضمير يعيشون فيه بعض الوقت، ثم يخرجون منه ليروا هذا العالم الظاهر بعين المستطلع، وحس المتذوق، وشعور الغني بالرصيد المذخور!
نهم بالمتاع وسعار، المتاع الحسي الغليظ، المتاع المتاح في هذا العالم المادي. . . لو كان لهم روح تستشرف آفاقا وأنوارا أخرى لاقتصدوا في هذا المتاع الحسي الغليظ!
ولولا جريمتهم في نشر الدعارة بين الشعب كله، لاستحقوا الرثاء ولكنهم ينشرون في صفحاتهم وأفلامهم وأغانيهم ما يعاقب بوليس الآداب على بعضه في المواخير، ويسمون بعد ذلك كله صحفيين أو مطربين ناجحين!
ويحي! لماذا استطردت هذا الاستطراد؟ إنما أتحدث عن (سوق الرقيق)!
والملطعة؟
هذا هو الاسم الذي اختاره بعضهم بحق للقسم من (الكورنيش) بين (بلاج سيدي بشر رقم 1) و (بلاج سيدي بشر رقم 2)
فحينما ينقضي النهار، ويخرج رواد (البلاج) منه، ويصطف بعضهم في المساء على سور (الكورنيش) بينما يجول بعضهم ذهابا وإيابا.
يستعرض هؤلاء أولئك، ويستعرض أولئك هؤلاء!
هؤلاء هن جواري سوق الرقيق. . . هؤلاء هن معروضات تجول فيهن الأنظار، وتحملق فيهن العيون، وتتدسس الخطرات المريضة إلى أجسادهن الرخيصة في رقاعة وفضول.
هذه هي الضحكات الرخوة المائعة؛ وهذه هي الحركات الرقيعة الماجنة. . . ضحكات الجواري، لا تدل على فرح عميق ولا حتى على مرح أصيل. إنما هي ضحكات الرقيق لاجتذاب (الزبون)! ضحكات يحاسب عليها النخاس أو يثيب!
من ذا ينقذكن أيتها الجواري المسكينات من سوق الرقيق؟
من ذا يردكن إلى البيوت الكريمة المصونة، ويرد إليكن كرامتكن المهدرة، التي سلبت منكن باسم (المودرنزم) في هذه الأيام السود؟
كان الرجال يشتهون نظرة من بعيد، ويتشوقون إلى زواج كريم نظيف. فصرتن اليوم سلعة معروضة على الأنظار، سلعة في سوق الرقيق!
ونسيت أن أقول: إن تسعة أعشار هذا الهوان، إنما تبعثه الرغبة في أن تجد هذه الجواري أزواجا!
أزواج في الطريق. . . وفي (البلاج)!
لن تجدن هنا يا آنساتي أزواجا. إنما تجار أعراض وشراة أجساد. . .
ولن تكون إلا النخاسة يا عزيزاتي الأوانس: في هذه السوق. . . سوق الرقيق!
سيد قطب