مجلة الرسالة/العدد 684/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 684/القصص

ملاحظات: الملاك أو ما يعيش به الناس Чем люди живы هي قصة قصيرة بقلم ليو تولستوي نشرت عام 1881. نشرت هذه الترجمة في العدد 684 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 12 أغسطس 1946



قصة من الأدب الروسي الرفيع:

الملاك. . .

للكاتب الروسي الكبير لوي تولستوي

بقلم الأستاذ مصطفى جميل مرسي

(ولد تولستوي - فيلسوف روسيا العظيم - في 28 أغسطس سنة 1028 من عائلة عريقة (أرستقراطية) وكان شغوفا بالعلم، مكبا على الأدب محبا للحكمة. . . فلما رأى ذلك البؤس الذي يحيط بالفلاحين. . وشاهد تلك التعاسة التي تكتنف العمال. . . انبثق في فؤاده نور الحق، وتفجرت في قلبه عيون الرحمة والعطف، فعقد في نفسه ألا يهدئ باله حتى يقوم على إسعادهم، ولا يسكن في فؤاده حتى يعمل على خيرهم.

وظل - طيلة حياته - يكافح في سبيلهم، فعاش في أملاكه يزرعها ويقسم ما تغله على الفلاحين، ثم لم يلبث أن تخلى عنها ووزعها بينهم. . . واتهم - آخر أيامه - بالإلحاد. . فاختفي ردحا من الزمن.

وبعد (تولستوي) القطب الأول والكاتب الأكبر في روسيا. . . وتعد كتبه (الأناجيل الأولي) للثورة البلشفية، التي بذر بذورها. . . غير أنه لم ير الغرس وهو يستوي على ساقه، فيهز الروسيا ويهز العالم أجمع. . . فقد قضى في 21 نوفمبر سنة 1910.

وما زالت كتبه - وقد شاعت في أرجاء العالم - تظفر بكل إعجاب وإجلال. ومنها (البعث) و (القيامة) و (الحرب والسلام) و (أين المخرج). . .

وهذه القصة - التي نبسطها اليوم على صفحات (الرسالة) الغراء - من أروع الأمثلة على ما كان يفيض به تولستوي من الحس العميق والوصف الدقيق لحياة عائلة من تلك الطبقة التي كرس حياته لرفعتها ونصرتها. .

وقد دعتنا الضرورة إلى تحوير العنوان التي عرفت به هذه القصة وهو أي (بماذا يعيش الناس)؟)

(م. جميل) كان الاسكاف (سيمون) يعيش مع زوجته، وأبنائه في شظف من العيش يسكنون كوخا صغيرا مغبرا، بأجر من المال يؤدونه لصاحبه الفلاح. . . وكان سيمون يكسب رزقه من عمله في جهد وجحد، وينفق كل ما تمسكه أنامله من دراهم على إطعام عائلته، وما أندر الخبر في ذلك الحين!

وكان للرجل وزوجته مدرعة من صوف يرتديها كل منهما حينا في الشتاء، حتى رثّت وبليت، وقد تقّضى عام وهو عازم على شراء مدرعة أخرى، فما أن أقبل الشتاء، حتى أمكنه أن يقتصد بعضا من المال: ثلاث (روبلات) وخمس (روبلات) وعشرين (كوبك) يدين بها بعضا من زبائنه!

وتهيأ ذات يوم ليؤم القرية، فارتدى (مطرف) زوجته على قميصه، ثم لبس ثيابه الأخرى فوق ذلك، ووضع الثلاث (روبلات) في جيبه، واقتطع لنفسه عصا يتوكأ عليها، واتخذ سبيله إلى القرية بعد أن أفطر. . .

وفي طريقه راح يحدث نفسه: (سوف أحصل على الخمس (روبلات) وأضيفها إلى الثلاث (روبلات) فيصير ما معي كافيا لشراء مقدار من الصوف لمدرعة الشتاء!)

ولما بلغ القرية بعد لأي طرق باب أحد الفلاحين فلم يجده بالدار، ووعدته زوجة الفلاح أن النقود سوف تصله في الأسبوع القادم! وطرق (سيمون) باب فلاح آخر، فأقسم له هذا أن يديه صفر من المال، وسيدفع له كل ما معه (عشرين كوبك) قيمة إصلاح حذاء قام سيمون برتقه!

فحاول (سيمون) أن يشتري (صوف المدرعة) بما معه، وبقرض يؤديه بعد حين، فرفض البائع قائلا في صوت ساخر؛ (إيتني بالمال، وسوف يكون لك ما توده من الصوف، فإنا نعلم كيف يحصل المرء على دينه!)

فأحس سيمون بالخور يسري في جسده، والقنوط يتسرب إلى فؤاده، فقام إلى حانة حيث نهل كأسا من الخمر بعشرين (كوبك)، وقفل راجعا إلى داره!

كان للخمر أثرها في سيمون، فسرى الدفء في عروقه، وزادت من قوته ونشاطه. فراح يفكر: (إني أحس بجوانحي تختلج دفئا وحرارة، مع أني لست مرتديا مدرعة من الصوف، لقد تناولت قطرة من الخمر فكان لها أثر النار تسري حرارتها في عروقي، فلست بحاجة لمدرعة من الصوف أقي بها زمهرير الشتاء!!)

ليت زوجتي ترتشف قليلا من الخمر. فتحس ما أحس!! صه. . . ويلك. . . أتود أيها الرجل أن تقضي عليك زوجتك إن خبرتها أنك تناولت بعضا من الخمر. . . إنها سوف تحطم الآنية على رأسك الفاضل. .! يا له من سائل عجيب يدفع النشوة إلى الروح والحرارة إلى الجسم!!. لست أبالي شيئا. . . ولكن زوجتي سوف تكتئب ويؤلمها أني عدت دون صوف المدرعة!. ليس علي من جناح!!. . . فقد طلبت حقي فأنكره واحد. وأعطاني الآخر عشرين (كوب). . . هه. . . وماذا أنا فاعل بها.؟! لست أدري غير أن أشرب بها. . . إن الواحد من هؤلاء يملك الأرض والدور والحيوان. . . ثم يبخل علي بحقي حقي الذي أعمل سحابة يومي وجنحا من ليلي كي أظفر به. . . فإذا ما انتهيت أنكروه علي يا للعار. إن الواحد منهم لينعم بالدقيق والطعام أما أنا فأنفق ثلاث (روبلات) كل أسبوع للخبز وحده. . . فإذا ما عدت إلى الدار وجدت الخبز قد أكل فأبيت على الطوى!. وهل أملك غير ذلك؟! ومن أين آتي بالنقود؟! أمن (هؤلاء) الناس الذين لا يقيمون عن الطعام إلا وقد أصيبوا باللظة.!!)

كانت تلك الأفكار والخواطر تضطرب بين جوانحه. حين أدرك - في سيره - الكنيسة في منعطف الطريق. فرأى جسدا كالثلج في نصاعته!. فراح ينعم النظر دون أن يتحققه أيكون ثورا!. لا ليس شبيها بالثور.! إن له رأسا يشبه رأس لإنسان! بيد أنه ناصع البياض!. . .)

واقترب منه حتى أمكنه أن يجتلي الأمر!. وكم كانت دهشته حين أدرك أنه إنسان عار. . . يجلس إزاء الكنيسة في سكون يدفع الرهبة إلى القلب. . . فطار فؤاده هلعا، وتلبسه الخوف فزعا: (لا بد أن أحدا قد قتله. . وخلفه هنا. . سوف أمسك عليّ فضولي أو أصاب بأذى. . .)

وأنطلق في سبيله ولكن التفت إلى ما وراءه فرأى الرجل الجالس ينظر إليه. . . فراع ذلك سيمون وزاد من جزعه. (أأعود إليه أم أنطلق؟! إن أنا عدت إليه فسوف يحدث مالا يرضيني. بل يجلب الضر إلى نفسي فما وجدت ثمت إلا لسوء. . . ولعله يثب علي ويخنقني. وحينئذ لا تنفعك رحمتك ولا تشفع لك شفقتك. . . وماذا أنا فاعل بإنسان عار؟! لست بمستطيع أن أخلع عليه ما لا أملكه. دعه فللسماء شأن معه!) وأسرع سيمون في خطاه لا يلوي على شيء. بيد أن ضميره أخذ يؤنبه. فتوقفت خطاه. وأخذ يهس في حيرة ويهمهم في وجل: (ماذا أنت فاعل يا سيمون؟! هب أن الرجل يلفظ آخر نفسه!. ألا تتقي الله في فرارك منه ورغبتك عن عونه!! أأنت في وفر من المال حتى تخشى أن تسرق؟! يا للعار يا سيمون.!) فانقلب آيبا إلى الرجل ونفسه مضطربة وقلبه يخفق. . .

دنا سيمون من الرجل الغريب، وراح يجيل الطرف فيه. . فرآه شابا على جمال وحسن! وليس على جسده أثر لجرح أو شج وقد جلس ثم معتمدا ظهره إلى جدار الكنيسة لا يرفع طرفه إلى سيمون من الوهن والضعف. فلما أحس بسيمون رفع رأسه إليه، وألقى إليه بنظرة. كانت كافية لأن تستدر كل ما يختلج بين جوانح سيمون من عطف ورفق وحب. فخلع حذاءه. وألقى عن نفسه رداءه. وقال في صوت خفيض فيه حنان وفيه رأفة: (ليس ثمة مجال للحديث!!. هيا ارتد هذا الثوب.) وأمسك سيمون بمنكبي الرجل، وأعانه على النهوض. . .

فلما نظر إليه - حينما انتصبت قامته - ألفاه. . . مديد العود. . . جميل الوجه. . . فألقى على كتفيه رداءه وأعانه على لبسه وهم (سيمون) يخلع قبعته ليضعها على رأس الغريب. فأحس برأسه يقشعر من البرد فقال في نفسه: (أني أصلع!. أما هو فله غدائر معقوصة فلا خوف عليه!. بل يحسن أن ألبسه حذائي. . .) فأقر قبعته على (صلعته) وأجلس الرجل. وجعل حذائه في قدميه. . . وهو يقول في جرس طيب عطوف (هيا. أيها الصديق. استشعر الدفاء ودع باقي الأمور تجري وفق مرادها أفي قدرتك أن تسير؟!)

فنهض الرجل ونظر في امتنان إلى سيمون دون أن ينبس ببنت شفه فقال سيمون: (لماذا لا تتكلم؟! أن البرد لقارص فلا بد من العودة إلى المنزل توكأ على عصاي وإلا أحسست بوهن وخوار. فاعتمد على ساعدي. . .)

وخطا الرجل في تعب وجهد. وفي خلال السير رفع سيمون صوته قائلا:

(من أين أنت؟!.)

- لست من هذه البقاع!)

(كذلك حدست. فأني أعرف القوم هنا.! ولكن كيف قدر لك أن تصير هكذا جوار الكنيسة!؟)

(لست أدري!)

- أساء أحد معاملتك؟!

- لم يتعرض لي أحد بسوء؟ لقد عاقبني الله. . .

دون ريب. . . هذا هو حكم الله. سوف تجد عيشا ومأوى أينما ذهبت! فأين تروم!)

- لست أدري!.)

فتولى سيمون الدهش. فما كان الرجل صاحب سوء أو خبث وتجلى من لهجته أنه خالص القلب. ولكنه لا يعلم عنه شيئا. (من يدري ما سوف يحدث!!) والتفت إلى صاحبه وقال: (حسنا!. تعال إلى داري على الرحب والسعة.!)

هبت الريح عاتية، فياضة بالصقيع. فسرت القشعريرة في جسد سيمون بعد أن أفاق من نشوة الخمر وذهبت عنه حرارته فأخذ يدثر نفسه برداء زوجته بعد أن خلع رداءه. . . وراح يتحدث إلى نفسه: -

(ولآن، وقد ذهبت الخمر، أعوزنا صوف المدرعة، لقد انطلقت اليوم كي أعود بالصوف، فما عدت بالصوف ولا بردائي أنا، وفوق ذلك أتيت معي برجل عار! سوف تستاء (مترونا) من ذلك!)

وحينما جالت بفكره (مترونا) زوجته أحس بالانقباض والألم يتغلغل في جوانحه، بيد أنه عندما ذكر صديقه الغريب ونظرته إليه في امتنان وحمد رقص قلبه بهجة ومراحا. . .

نهضت (مترونا) زوجة سيمون. . . ذلك اليوم بعبء واجبها المنزلي خير نهوض وانتهت من عملها مبكرة. . . قطعت الأخشاب. . . وحملت الماء. . . وأطعمت الصغار. . . وتناولت هي وجبتها. . . وجلست ترقب أوبة زوجها. . . وراحت تسال نفسها:

(أيكفي الخبز. . . أم عليها أن تعمل بعضا منه الآن. . . لو أن (سيمون) تناول طعامه في المدينة. . . ولم يكن في حاجة للخبز في العشاء. . . فسوف يمتد أجل الخبز يوما آخر. . . لست بقادرة اليوم على أن أصنع خبزا. . . وسوف أدبر كل شيء حتى يكفينا إلى يوم الجمعة القادم. . .). . ووضعت مترونا قطعة الخبز الباقية في مكان حريز. . . وجلست ترتق ثياب زوجها. . . وفي غضون ذلك راحت تفكر كيف يشتري زوجها صوف المدرعة كي تقيهما برد الشتاء. . .

(آه. . . لو أن البائع لا يخدعه. . . أن زوجي لغرّ. . .! سهل على من يقوده. . . انه لا يخدع أحدا. . . ولكن الطفل يستطيع أن يعبث به. . . ثماني روبلات مقدار كاف لشراء أجود الأصواف وأمتنها. . .! كم كنا نرتعد بردا ونرتجف من الصقيع في الشتاء الماضي. . . وما كنت أستطيع أن أهبط النهر أو أذهب إلى مكان آخر ولكن لقد بكر سيمون في الذهاب!! وما عاد إلى الآن. . . آمل أنه لم يذهب إلى الحانة!!.

ما كادت (مترونا) تردد هذه الخواطر في ذهنها. . . حتى طرقت أذنها أصوات وأحست أن بعضهم دلف إلى الدار فقامت تجتلى الأمر. . . فأبصرت رجليه: سيمون زوجها، وشخصا آخرا. عاري الرأس ينتعل حذاء زوجها!! لم تره من قبل!.)

وحينما لاحظت أن زوجها تفوح منه رائحة الخمر. . . وليس عليه رداءه. . . ولا يمسك بيده حزمة من الصوف. . . أخذ مرجل غضبها يفور. . .

وأفسحت لهما حتى دلفا أمامها، ثم تبعتهما. . . ووقع بصرها على ذلك الرجل الغريب وقد لبس رداء زوجها. . . فلما دخلا الغرفة وقف الرجل الغريب لا يتحرك ولا يرفع بصره إليها. . . فقالت في نفسها (لعل السكر أخرسه وذهب بعقله. . .)

وعبست بوجهها وقطبت جبينها. . . ووقفت جوار (التنور) ترقب ما سوف يعملان. . .!

وخلع (سيمون) قبعته. . . وجلس على أحد المقاعد. . . وكأن الحال يجري على ما يرام.

- (هيا مترونا!! أن كان العشاء معدا؟! فأتبنا به.!) فزمجرت (مترونا) كاللبؤة الغاضبة. . . ولم تتحرك من مكانها جوار التنور - فرأى سيمون بوادر الشر تلوح في وجه زوجته. . . فأراد أن يهدئ من روعها ويظهر أنه لم ير شيئا. . . وقدم لصاحبه كرسيا وقال له في مرح (اجلس ودعنا نصيب شيئا من الطعام. . .! هيا (مترونا) أما أعددت لنا شيئا؟!)

كانت نفس مترونا تلتهب غضبا وتغلي حنقا فانفجرت قائلة:

- (بلى. . . لقد أعددت الطعام. . . ولكن ليس لكما. . .! يخيل لي أنك أنفقت نقودك في الشراب. . . لقد ذهبت كي تحضر صوف المدرعة. . . فما عدت إلا ومعك شريد عار عربيد. . . ليس لدي طعام للسكارى. . .!)

- (كفى مترونا. . . أمسكي عليك لسانك. . .! يحسن بك أن تسألي أي إنسان هذا؟) - بل يحسن بك أن تخبرني ماذا فعلت بالنقود؟!)

فأخرج (سيمون) الثلاث (روبلات) من جيبه وقال: (ها هي ذي النقود. . لم يؤد (تريفنوف) ما عليه. .! ووعدت زوجته بأنه سوف يدفع. . .) فلم يهدئ هذا من غضب مترونا. . . فهو لم يحضر الصوف. . . بل أنه ألبس وأحدا عاريا ثوبه وأتى به إلى بيته. . . فاختطفت النقود من يده لتضعها في مكان أمين وقالت لزوجها. . . (ليس عندي طعام. . . وما بمقدورنا أن نطعم كل سكير عار في العالم. . .!)

- قلت كفى مترونا خير لك أن تسمعي أي إنسان هذا -!)

- (أمن الحكمة أن أنصت إلى سكير؟! لقد كنت اعرض عن الزواج بك لهذا. .!)

حاول سيمون أن يخبر زوجته أنه لم يشرب إلا بالعشرين (كوبك). . . وحاول أن يبصّرها بالحالة التي وجد عليها صاحبه الغريب. . . بيد أن مترونا كانت تنطق بسرعة هائلة. . . وتذكره بأشياء مضت منذ عشرين عاما. . . وراحت تتحدث وتتحدث، وأخيرا أمسكت بسيمون وراحت تصيح:

(أعطني ثوبي. . . إنه الوحيد الذي أملكه. . .! وقد أعرته لك كي تحضر صوف المدرعة. . . ناولنيه أيها الكلب الأجرب. . . وليعبث بك الشيطان!!.)

فأخذ سيمون يخلعه. . . ثم ناوله إياها. . . فألقته على رأسها عمت بالخروج إلا أنها توقفت. . .! وقد جال في نفسها أن تعرف سر ذلك الرجل الغريب فقالت لسيمون:

لو أنه رجل مهذب لما أعجزه أن يستر نفسه بثوب يشتريه! أيمكنك أن تخبرني أين عثرت (عليه)؟!)

- هذا ما كنت على وشك أن أخبرك إياه. . . حينما أدركت الكنيسة وأنا في طريق العودة - أبصرته جالسا عاريا يكاد أن يتجمد من البرد والصقيع، فقد بعثني الله إليه قبل أن يقضى عليه الجوع والعرى، فماذا كان علي أن أفعله سوى أن أخلع ثوبي وألبسه إياه وآتي به معي؟ فما كان له من مأوى!! ما الذي يدرينا كم كان يلاقي من العذاب الشديد؟ لا تغضبي يا مترونا، أن هذا ذنب غير مغتفر، واذكري أننا سوف نموت جميعا يوما ما!)

وارتفعت ألفاظ الغضب إلى شفتي (مترونا)، ولكنها ما لبثت أن ماتت قبل أن تلفظها، فقد نظرت إلى الرجل الغريب وهو جالس في سكون ووداعة على مقعده، يداه معقودتان على فخذيه، ورأسه ساقط على صدره، وعيناه مغمضتان، وجبينه مقطب، كان الألم ينهش فؤاده فينعكس على صفحة وجهه!

فصمتت (مترونا) على مضض. . . وقالت سيمون في صوت شاع فيه الرجاء والأمل: ألا تحبين الله يا مترونا؟!.)

فما سمعت (مترونا) هذه الكلمات، وألقت طرفها ثانية إلى (الصاحب الغريب) حتى فاض قلبها إيمانا. . . وراحت الرحمة تدب في نفسها. . . وأخذ الحنان والعطف يهز فؤادها. . .!

فذهبت إلى (التنور) وأتت بالطعام. . . ووضعت قدحا على المائدة وصبت فيه بعض الشراب الساخن ثم أحضرت قطعة الخبز من مخبئها ومعها سكينان وملعقتان. . . وقالت في صوت يفيض عطفا. تفضل فتناول بعض الطعام. . .!

وأدنى سيمون المائدة من صاحبه. وفتت الخبز ووضعه في المرق وراحا يأكلان. . وجلست مترونا في جانب من المائدة! ترقب الضيف في نظرات فاحصة. فزاد عطفها عليه ورأفتها به.

وحينئذ أشرق وجه (الغريب) وأضاء. فكأنه البدر يرفل في هالة بالسماء. . ورفع عينيه النجلاوين إلى (مترونا) ونظر أليها نظرة وديعة. وافتر ثغره عن ابتسامة حلوة عذبة. . .

(يتبع)

مصطفى جميل مرسى