انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 683/المخدرات. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 683/المخدرات. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1946



بين الأدباء والعلماء

للدكتور فضل أبو بكر

سأتناول من هذه المواد الغريبة أهمها وأكثرها استعمالاً، واعني بذلك الأفيون والحشيش. وسميت بالمخدرات لأن من أخص مميزاتها تخدير الآلام الجسمية والنفسية. كذلك يسمونها (المذهلات) لما تسببه من ذهول (وسطل)، وهو الاسم الذي تعرف به في علم الأدوية والعقاقير.

هي قديمة كالأزل عرفها الإنسان منذ أقدم العصور، وقد ذكر هوميروس نبات الأفيون في إلياذته. كذلك أبو قراط إله الطب عن قدماء الإغريق كان يستعملها في العلاج لبعض الأمراض مثل الهستريا التي كان يظن من مسبباتها عند النساء نزول الرحم والأمعاء وهبوطهما من المكان الخاص بهما في البطن. وقد حذا حذوه في استعمال الأفيون - بقصد العلاج - بعض أطباء الإغريق والرومان، ونذكر من الأخيرين (اندروماكلوس) طبيب نيرون الخاص كان يستعمله مع بعض العقاقير كمخدر وكنوع من الترياق. كذلك أطباء العرب وصيادلتهم مثل ابن البيطار الذي فند تعاليم جالينوس والذي يدين له علم الأدوية والعقاقير بالشيء الكثير. أما ابن سينا ومن انتمى إلى مدرسته من الفلاسفة والعلماء، فقد استعملوه بكثرة في الأدوية والعلاج.

أما في القرون الوسطى فقد قل نسبيا استخدام الأفيون في العلاج. واستمر الحال كذلك إلى أواخر القرن السابع عشر فقد هيئ له أن يبعث من جديد على يد الطبيب المعروف (سيدنهام) إذ خلط منقوع الأفيون - المنقوع في الكحول - بالزعفران والقرفة والقرنفل وركب منها خليطاً مشهوراً باسمه ولا يزال يستعمل ليومنا هذا ضد بعض الحالات الإسهال وآلام البطن. وقد قال في ذلك الطبيب سيد نهام إنه لولا الأفيون لصار الطب ناقصا أجدع.

أما الحشيش فقد عرف كذلك منذ آباد وأجيال سحيقة؛ فالهنود والصينيون كانوا يتعاطونه منذ أقدم العصور. وقد ادخله إلى بلاد الغرب بعض قبائل البدو والرحل الذين كانوا يقطنون شمال أسيا والجزء الواقع في الشمال الشرقي من أوربا. وقد روى (هيرودوت) المؤرخ أن تلك القبائل كانت تغلى بذور فاكهة الأفيون في الماء وتستنشق البخار المتصاع ثم تحتسى في نشوة عجيبة منقوعة هذه البذور.

وأول من عنى بدراسة الحشيش من الوجهة العلمية هما الطبيب الألماني (مارشال) والطبيب الفرنسي (مورم دي تور) الذي كان مديراً لمستشفى الأمراض العقلية والعصبية في باريس والذي كتب في سنة 1845 مؤلفاً نفيساً سماه (الحشيش والجنون) يصف فيه خواص الحشيش وأثرها في الجهاز العصبي، وقد تعاطى هذه المادة وجرب أثرها في نفسه. وقد قيل في المثل (سل المجرب ولا تسل الطبيب) فقد كان مجرباً وكان طبيباً فلا غرابة إن كان مؤلفه مصدراً موثوقاً به في هذا الصدد.

الأدباء والمخدرات:

كان بعض الأدباء يتعاطى هذه المواد ووجدوا فيها إلهاماً وإيحاءاً ووصفوا مفعولها وصفاً رائعاً يشوبه الخيال وما يميله من مبالغات تنافي بعض الشيء صرامة العلم ودقة العلماء. ومن هؤلاء الأدباء الأديب والشاعر الفرنسي (شارل بودلير) الذي عاش إلى سنة 1967 وهو من اعظم شعراء الغرب وأشبههم من حيث الرقة والظرف والمجون بأبي نواس؛ فقد ورد في بعض مؤلفاته - واسمه (الفردوس الاصطناعي) - وصف الحشيش؛ فتأمله إذ يقول: (إن في الإنسان رغبة مستأصلة لإدراك المثل العليا والوصول إلى الحقيقة؛ لذلك يحاول ما أمكنه أن يخلص الروح ويطلقها من سجنها المادي العائق لها عن الوصول لهذه الأهداف. كذلك السعادة هي الضالة المنشودة لبني الإنسان؛ وبما إنها ليست في متناول الجميع فهو يحاول ما أمكن أن يتوهمها ويصطنعها: فقدح من مدام وشهقة من تبغ ومضغة من عشب (الحشيش) بهذا فقط تجد الروح تخلصت وتبدلت).

أما الكاتب الفرنسي (تيوفيل جوتيبه) الذي عاش إلى سنة 1843 فقد ألف كتاباً سماه (نادي الحشاشين) يصف فيه مفعول الحشيش وأثره في نفسه فيقول: (ما هي إلا بضع دقائق حتى استولى على جسمي التخدير، وخيل لي إن جسدي قد ذاب وانحلت مادته وصار شفافاً، فأبصرت قطعة الحشيش التي مضغها تنزل هابطة في أحشائي كأنها زمردة تشع منها الملايين من أجسام ذرية لامعة؛ وتراءى لي أن هدب عيني يطول ويمتد إلى اللانهاية ثم يطوى كأنه أسلاك رفيعة من الذهب ويلتف حول عجلات صغيرة من العاج تدور حول نفسها بسرعة مدهشة، وقد اكتنفتني نهيرات من لجين تكدست على شواطئها أكوام من الحجارة الكريمة من مختلف الأشكال والألوان. وبعد فترة قصيرة تبددت عني هذه الأحلام وعدت إلى صوابي من غير ما خمول أو صداع كما يعقب عادة شرب الخمر. وقد هالني كثيراً ما رأيت. وما كادت تمضي نحو نصف ساعة حتى عاودتني النشوة وتهت في ملكوت الحشيش. غير أن أحلامي في هذه المرة كانت اشد غرابة وأكثر تعقيداً. فقد أحاطت بي هالة من نور يأخذ وميضه بالأبصار، وتطير حول هذه الهالة ملايين من الفراش لها أجنحة ذات ألوان مختلفة تسر الناظرين، وسمعت لأول مرة صوت الألوان المختلفة. فهنالك صوت اصفر وازرق واخضر واحمر؛ وهذه الأصوات اللونية تصل موجاتها إلى أذني في وضوح تام. كذلك رأيت أكثر من خمسمائة ساعة دقاقة تنبئ عن الوقت بدقات أشبه بأهازيج العود والمزمار وقد ذابت نفسي في اللانهاية، وخيل إلي أن هذا الحلم إنما دام نحو ثلاثمائة عام، وان كل من المستحيل تقدير الزمن على وجه التحقيق إذ كانت المناظر تتتابع وتتنوع بسرعة، وما أن عدت إلى رشدي حتى رأيت أن هذا الحلم لم يدم أكثر من ربع ساعة).

ومن أدباء الإنجليز اذكر (توماس دي كنسي) وكان يعني كثيراً بدراسة (الكلاسيك) من الأدب الإغريقي والروماني القديم، وقد ألف كتاباً بعنوان (اعترافات مدمن في الأفيون) فتأمل حين يناجي المدمن مخدره العزيز:

(أيها الأفيون أنت الحق والحقيقة! أنت حياة المحتضر ومال المعوز وسعادة الشقي والخالق من الشجي خلياً! أنت ملهم البيان! أنت الذي تذكر المجرم والقاتل أيام الطفولة الغريرة حيث لا جريمة ولا جريرة! أنت الذي تشتد في غسق الظلام قصوراً وبنياناً أكثر سحراً من بنيان بابل وطيبة).

كذلك الشاعر الإنجليزي (كولردج) وقد كان ممن يتعاطونه من وقت لآخر بقصد التنبيه ونشاط القريحة، وقد كتب قصيدته (كبلخان) بعد أن تعاطى ما تيسر من الأفيون وهي تعد من ارق أنواع الشعر وأرقاه معنى.

أما أثر هذه المواد من الوجهة الطبية والفسيولوجية فهاكها باختصار كما يلي:

1 - تخدر الأعصاب، لذا كان لها تفوق كبير في تسكين الآلام الناشئة من الأمراض. كذلك من خواصها التنويم، ولكنه نوع خاص من النوم يمتاز بانحلال عام وتراخ في العضلات تتخلله أحلام هنيئة ومتنوعة. أما من الوجهة النفسية فهي تساعد على حضور البديهية وسرعة الخاطر، ويلي ذلك شيء من التهيج واضطراب الأفكار يطرأ تدريجياً وحسب كمية المخدر. أما أثره على الجزء الخاص بالتحرك من الجهاز العصبي فهو اقل بكثير من أثره على الجزء الموكل بالحس والشعور.

2 - تنقص جميع الإفرازات الخاصة بالجهاز الهضمي فيعيق الهضم ويعطله كما يقل من حدة الشهية، ويساعد على الإمساك. كذلك له مفعول سيئ على الكبد الذي يعد أهم عضو لمكافحة السموم الطارئة على الجسم من الداخل ومن الخارج.

3 - تساعد المخدرات على التنفس لذلك تستعمل في بعض أمراض الصدر والقلب التي تسبب حصراً وضيقاً في التنفس مثل الربو والنزلات الشعبية والأزمات القلبية والرئوية.

4 - تنقص المخدرات من كمية البول لأنها - كما أسلفنا تقل من جميع الإفرازات ما عدا الإفراز العرقي فهي على النقيض تكثره وتنشطه. أما الجهاز التناسلي فقد تسبب تهيجاً جنسياً، ولكن إلى حين وفي بادئ الأمر فقط، ولكن هذا التهيج وتلك الإثارة يعقبها خمول وضعف في الرغبة الجنسية.

هذه نبذة موجزة عن بعض المخدرات عالجت موضوعها باختصار من الوجهة التاريخية والأدبية والعلمية.

فضل أبو بكر