مجلة الرسالة/العدد 677/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 677/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 06 - 1946



مْلتُن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 17 -

حربه على القساوسة:

اعتزل ملتن الشعر إلى حين لعله ظنه قريبا، فلم يدر بخلده أن هجران احب شيء إلى نفسه سوف يمتد عشرين عاماً. والحق أن اعتزال ملتن الشعر والأدب على ما كان من فرط تحمسه له وانكبابه على الأخذ باسبابه، امر يحمل المرء على العجب الشديد بادئ الراى، ولكن دواعي العجب لا تلبث أن تزول إذا عدنا إلى خلق ملتن ونزعات وجدانه

خلق ملتن محاربا يحب النضال ويعشق بفطرته الحرية، فلن يستطيع إن يغمض العين عما يرى من خلل أو فساد، ولن يستطيع أن يظل جامداً تلقاء ما يراه ظلماً أو استبداداً بالرأي في غير حق ولو كان في ذلك هلاكه؛ كذلك رأيناه وهو بعد طالب بالجامعة، وكذلك رأيناه وهو يفصح عن عقيدته الدينية في إيطاليا، وكذلك نراه اليوم يوقد نار الحب على القساوسة أو خلق ملتن ديناً تقياً مخلصاً لعقيدته تواقاً إلى الإصلاح، لذلك ركن إلى البيوريتانز في كثير مما ذهبوا أليه، وإن خالفهم في إسرافهم في التزمت ومغالاتهم في النفور من الفنون ومن طيبات الحياة وكانت روح البيوريتانية يومئذ، أو ما يهجس في نفوس أشياعها من الرغبات هو إصلاح الكنيسة كما أصلحت الكنائس في القارة وتقرير مبدا الحرية الفكرية والسياسية، وقد استقرت هذه الرغبة في نفس ملتن وآمن بها أيمانا قوياً واعتقد ملتن كما اعتقد جمهرة البيوريتانز ان القساوسة في انجلترة بتعصبهم لنظام الكنيسة وبمظاهرتهم الملك في عناده وطغيانه هم العقبة الكؤود في سبيل الإصلاح وفي سبيل الحرية؛ لذلك أيقن طالبو الإصلاح أن لا أمل لهم في عمل مجد ألا أن يقضوا أولا على الأساقفة وسلطانهم، ولهذا اقدم ملتن فيمن اقدموا لمحاربة الأسقفية؛ ولهذا اعتزل الارثريادا أو الفردوس المفقود، أو سواها مما كان يملا خيالة من الشعر، وآثر أن يجيب داعي الله بالدفاع عن دين الله

بيد انه على الرغم من حماسته إذ يقدم على مناضلة القساوسة كان يحس في أعماق نفسه عظم تضحيته بهجرانه الشعر، فلقد انقطع له منذ حداثته، وتوفر على الاستعداد والدرس، وأمتلات نفسه طموحا إلى شيء يسلكه في الخالدين؛ وكان هذا الطموح عزاء قلبه وبهجة نفسه وأنس روحه في عزلته القاسية، وفي دراسته الطويلة الشاقة!

ولكن لم يك من هذا الهجران بد، فلم يك يسعه في مثل ذلك الوقت كما قال أن يقف بمعزل (وكنيسة الله تحت أقدام من يهينها من أعدائها)، ولم يك لينجو من عذاب ضميره لو لم يجعل ما اكتسب من ثقافة ومعرفة وقفاً على الدفاع عنها، وفي رأيه انه إذا لزم الصمت، فان الله يؤاخذ بصمته، فلن يغفر الله له أن يقبل الفراغ والقدرة على الدرس، وقد تهيأ له بعروق قوم آخرين، ولا ينفقهما ألا في أن يزين بهما موضوعات هي من فخر الحياة وغرورها، ولكن (إذا كانت قضية الله، وحقت إجابة داعي الله بنصرة كنيسته، فان الله سميع إليك إذ تطلق صوتك. .

فان بقيت ابكم كالدابة، حق عليك منذ ذلك الوقت ما تصير أليه من أثم بصمتك الذي يشبه صمت البهائم!) ولئن كان همه أن يكتب موضوعاً يكسب به الفخر، فليس هذا وقته والجيل كله يشترك في صراع من اجل الحرية تتلظى ناره، إن يشهد على الأقل ذلك الصراع، وينتظر الناس وأنفاسهم عالقة ما إذ يكون من أمر هذه المعركة، أو كما قال ملتن (انه لمن الحمق أن تلقى بشيء كتبته جاهداً في نسق عال إلى قوم هم عنه ساهون، إذ يقطع إصغاءهم أليه ما يزخر به عصرهم من ضجيج وصخب). أضف إلى ذلك انه لم يكن يعتقد انه اخذ اهبته لذلك الشيء بعد، فانه يشير إلى ذلك حتى بعد بدء الحرب على القساوسة بنحو عام قائلا: (أني لم استكمل بعد في عقلي دائرة دراساتي الشخصية)!

لذلك يدع قيثارته إلى اجل لعله يكون قريبا يوم يرى وطنه على حد تعبيره: (وقد خلص نفسه من ذلك الطغيان الذي لم يكن مثل هذا الزمن أوانه، ذلك الطغيان المستند إلى مقام كبار القساوسة، والذي لا يرجى لأي فكر حر أو ذكاء المعي أن ينمو ما دام له تجسسه واستبداده) وتمت دافع آخر لا يقل خطرا على هاتيك الدوافع يسوق ملتن إلى تلك الحرب، وذلك هو عظيم ثقته في نفسه وفي الشعب الإنجليزي، فهو منذ صغره - كما رأينا - يعتقد انه كفء لعظائم الأمور، - مهما كان خطره - أل ابلغ منه ما يريد: واليوم يخالجه شعور أن نفسه تنطوي على قوة كامنة فيها أن هي أثيرت كانت ذات اثر عظيم في مستقبل الكنيسة وفي مستقبل وطنه. والحق أن وراء طموح ملتن أن وراء طموح ملتن نحو العظمة الأدبية طموحا آخر نحو العظمة في ذاتها في آية صورة من صورها، فلا ضير أن تواتيه في صورة الدفاع عن الحرية أو عن الكنيسة، أما ثقته في الشعب الإنجليزي فكان مردها إلى انه يرى بني قومه الشعب الذي اصطفاه الله على العالمين، وانه تجلى لخلقه من الإنجليز أول ما تجلى، وانهم سوف يقيمون على هذه الأرض مملكه الله التي ترى رأى العين ومع شدة حماسه لما هو مقبل عليه نراه ينطبق قبيل دخوله المعركة بما يشعرنا بتردده وإشفاقه، نجد شاهدا على ذلك في قوله بعد أن أشار إلى ما كان فيه من استغراق في الأدب والشعر: (ما اقل ما يحفزني من ميل إلى أن اقطع ما أن اقطع ما أنا بسبيله من مثل هاتيك الآمال، وان اترك عزله هادئة ممتعة تكتنفها تأملات سارة وثيقة لا قلع بسفينتي في بحر مضطرب تملاه والضوضاء والجدل الصاخب). وهو فضلا عن ذلك يحس انه ترك ما يحسن إلى ما لا يحسن مما يزيده شعورا بتضحيته، وانه نسي نفسه وما كان يتحرق أليه من مجد أدبي ليجيب داعي الله، تجد ذلك في قوله: (ما كانت لاختيار لنفسي أن هذا النهج من الكتابة، وأنا على علم باتي هنا على باني هنا دون حقيقتي، فقد أعدتني قوة طبيعية صادقة لعمل آخر: ولذلك فإني في هذا المتجهة الجديد أحس كأنما استعمل يدي اليسرى) ولكنه يسلم إلى الله، انظر إلى قوله: (إذا جاء آمر الله بان نشرع البوق وان ننفخ فيه نفخه شاكية صاخبة، فلن يدخل في إرادة الإنسان بعد ذلك ماذا يقول ولا ماذا يخفي في نفسه). وكلن يؤمن ملتن بان الله سيثبه على فعله وسيهبه القوة والأقدام، ويمد له في حياته ليكون بوق النصر كما كان بوق المعركة، ولقد ظل أثناء المعركة يفكر فيما هو عائد آلية بعد أن تنهى الحرب. والحق أن ملتن قد أفاد من المعركة ما لم يخطر بباله عند دخولها، ففي أثناء تلك المعركة ما لم يخطر بباله عند دخولها، ففي أثناء تلك المعركة الطويلة تكونت في نفسه ملحمته الكبرى الفردوس المفقود، فكانت كملحمة دانتي عملا ليس قوامه الفصاحة والخيال والمقدرة الفنية فحسب، بل أضيف إلي ذلك تجربة الحياة ومعاناة خصومتها والوقوف من كثب على عوامل الشر والخير في النفس البشرية وفي المجتمع، وتذوق طعم الأمل مرة والأخبية مرة، والنفاذ إلى أعماق العواطف والانفعالات ثم معرفة كيف يكون اليأس القاتم فلا عجب أن يتغنى الشاعر بعد ذلك بالفردوس المفقود، وقد شهد فقدان بني وطنه ما كان يرجوه لهم ويرجو معه المصلحون من حياة في الدين والسياسة على الأرض كحياة الفردوس. وفي هذه المعركة تهيأت في نفسه الملحمة فلم يبق إلا أن يغنيها وان يلبسها لباس الشعر: والحق أن المعركة أجدت علية اكثر مما أجدت قراءاته ودراساته، إذ استطاع أن يضيف خبرة الحياة إلى هبة الفن وان يترك أهذه الدنيا آثرا فذا من هاتيك الآثار الخوالد التي يغنيها كل عصر وتأنس أليها كل بيئة. ومن الخطأ أن نعد ملتن تلك المعركة انتصارا منه لأصدقائه البيوريتا فحسب فان حبة الحرية وميله إلى نصرتها أبدا هو الشعور الحقيقي الذي دفع به إلى الحرب، وكانت غايته التي يصبو أليها أن يعيش الناس طلقاء في أفكارهم وأعمالهم بعد أن يذهب سلطان القساوسة القائم على التعصب والاستبداد بالرأي والاضطهاد، وكان ملتن بحميته وثورة نفسه يمثل في الواقع روح العصر، ففي العصر كله ثورة على الطغيانفي أي صورة وما كانت فلسفة دينية ووثبة سياسية معا. ومهما يكن عنة من عبارات تشعرنا بتردده وإشفاقه فانه اقبل في حماسة عظيمة وشجاعة فذة بعد أن أبتدأ النضال ورأى نفسه في غمار المعركة، وإنما كان ما خيل آلية أنة تردد أسفاً منه على هجرانه الشعر والتهيؤ له. . .

وكيف بدأت المعركة؟ لم يكن ملتن البادئ بها وإنما بدأت في البرلمان الطويل سنة 1640 إذ تقدم البيوريتانز من النواب بمقترح الأصل والفرع فعندئذ نشر أحد القساوسة وكان يدعى هول كتيباً سماه (الإعلان المتواضع) ورد فيه على ما اسماه يم وزملاؤه الإعلان الأعظم كما ورد على مقترح الأصل والفرع؛ وأجاب خمسة من البيوريتانز سموا أنفسهم سمكتمنس يدحضون فيه ما ذهب إليه هول؛ وكان توماس ينج أستاذ ملتن القديم أحد أفراد الجماعة، ولذلك ظن أن ملتن اشترك في وضع هذا الكتيب؛ ثم توالت الكتيبات كالسهام من جانب البيوريتانز ومن جانب خصومهم. وشد ملتن قوسه فيمن شد وأطلق أول سهم من سهامه سنة 1641 في صورة كتيب له أول كتيباته جعل له عنواناً طويلاً هو (حول الإصلاح الديني فيما يتصل بنظام الكنيسة في انجلترة والأسباب التي عاقته حتى اليوم).

كان هذا الكتيب الأول أقل كتيبات ملتن صرامة في القول وعرامة في الخصومة، وإن كان ليبعد كل البعد عن أن يوصف بالهدوء إلا أن يقاس إلى ما سيأتي بعده، وحسب القارئ أن يقع على خاتمته التي يدعو الله فيها أن يجعل العار خاتمة حياة القسيسين على هذه الأرض، وأن يلقي بهم في الدرك الأسفل من النار ليخلدوا فيها وليكونوا في مواطئ غيرهم من أصحاب الجحيم، وفي صفحات الكتيب غير هذا من صارم القول وقاذع الوصف ما يدل على غل الخصومة واحتدم السخيمة.

أتى ملتن في كتيبه هذا بموجز لتاريخ الكنيسة منذ القدم فلم تعجبه في قديمها ولا في حديثها، وما قساوستها الحديثون إلا مقلدون يسيرون على نهج أسلافهم في مظاهر الصوم والصلاة والتظاهر بالزهد، وما كان أسلافهم إلا ضالين غاوين، فالقسيسون أنفسهم خطأ في ذاتهم؛ وهؤلاء الحديثون منهم ليسوا قسيسين في شيء، ثم يشير إلى النهضة الإصلاحية في انجلترة ويذكر كيف تعثرت ووقفت بسبب تعصب القساوسة والملوك واستبدادهم بآرائهم، ويذكر الناس بهؤلاء الأحرار الذين هاجروا بعقيدتهم عن أوطانهم الحبيبة والذين (لم يكن لهم عاصم من غضب القساوسة إلا المحيط الفسيح وصحاري أمريكا الوحشية)، والرأي عنده أن يقضي على الأسقفية فتذهب إلى غير عودة وتحل البرسبتيرية محلها؛ ولئن تم ذلك أصبحت انجلترة (مدينة الله) وانتشرت الحياة الطيبة في أنحائها طولا وعرضاً، فأن هؤلاء القساوسة منذ حلوا بكنتربري قبل اليوم بنحو أثنى عشر قرناً وهم في جملتهم لم يكونوا في انجلترة لأرواحنا واسفاه إلا سلسلة من أئمة الهداية العميان الجهلاء، ولأموالنا وتجارتنا إلا عصبة متلفة من اللصوص ولدولتنا وحكومتنا إلا هيدرا الإساءة والعدوان).

ويتضمن هذا الكتيب ناحية من نواحي ملتن الدينية وهي ما تصوره عن ذات الله سبحانه، فعنده أن الله لا يحد ولا يوصف بصورة معينة ولا تدركه الأبصار، ولا يفوته هنا أن يتهم الكنيسة بأنها تحاول تحديد ذات الله وتصويره وذلك في رأيه أصل الخرافات جمعيا، يقول عن رجال الكنيسة (كما استطاعوا أن يجعلوا الله ينتمي إلى الأرض وأن يكون له مثل جسدنا، وذلك لأنهم لم يستطيعوا أن ينتموا إلى السماء ولا إلى عالم الروح).

وجاء في هذا الكتيب رأيه لأول مرة عن الشعب الإنجليزي، فهو الشعب الذي اصطفاه الله على العالمين، وخليق بهذا الشعب أن يبرهن على أنه جدير بهذا الاصطفاء، ويعلن ملتن رضاءه عن النظام الدستوري الإنجليزي في ذاته بل إنه ليغلو في امتداحه كل الغلو فيقول: (ليس فيما سلف من الحكومات المدنية نظام كنظام حكومتنا الإنجليزية، لا عند الإسبرطيين ولا عند أهل روما. . . حيث تجد أعظم الناس نبلا وأكثرهم جداً وأبعدهم نظراً ولهم بمحض إرادة الناس واختيارهم تحت سيادة ملك جر لا قيم عليه الكلمة العليا والرأي الفاضل في أعظم المسائل).

وينتهي الكتيب بابتهال إلى الله طويل حار ملؤه العاطفة الصادقة أن يخلص كنيسته من هؤلاء القسيسين وأن ينزل عليهم لعناته، ثم يتنبأ بنبوءة فحواها أن فجراً بهيجاً يوشك أن ينهل نوره على انجلترة، ولن يعدم ذلك الفجر طائرة الصداح، فلسوف يتمنى من بين هؤلاء القديسين الذين ينافحون عن دين الله شاعر يأتي بلحن علوي جديد يشكر به أنهم الله ويسجل نصر الله في مملكة تنعم بنعمة الحرية وقد تخلصت من القساوسة ومجدت شاعرها المختار. .

(يتبع)

الخفيف