مجلة الرسالة/العدد 676/البريد الأدبي
مجلة الرسالة/العدد 676/البَريد الأدَبي
توفيق الحكيم وقواعد الفن:
لا يزال في كتابنا النابهين من يكتب بالسليقة فلا يكلف نفسه عناء
الرجوع إلى معاجم اللغة، أو النظر في قواعد الأعراب، أو البحث في
أصول الكتابة. وقد ساعدهم على الإخلاد إلى هذا الكسل الأدبي
إغضاء النقد وغفلة القراء. وعاقبة هذا الكسل وخيمة على الفن في
ذاته، وعلى الفنان في مستقبله.
ومن أقرب الأمثلة على الخروج عن قواعد الفن الأولية أن صديقنا الأستاذ توفيق الحكيم قد سمح لحماره أن يتدخل في فنه، فنشر في عدد السبت الماضي من (أخبار اليوم) أقصوصة جعل عنوانها (وكانت الدنيا)، ومن حول هذا العنوان كتب بخط ظاهر: قصة العدد خيالية. ثم بدأها بقوله: (لماذا تمرد إبليس؟ قصة ذلك مدونة جاءت بها الكتب السماوية ولا سبيل للشك فيما روت؛ ولكن خيال الروائي يجنح أحياناً إلى اختلاق صور أخرى للحادث الواحد، ولا بأس من عرض إحدى هذه الصور على سبيل التفكهة لا الاعتقاد). ثم نقل عن (أبى الفداء) كلاما في إبليس، ثم قال بعد ذلك: (وتبدأ قصتنا هذه المخترعة بعد أن تم خلق آدم. . . الخ).
فهل يجوز للقصصي أو الروائي أن يفضح سر فنه للناس فيقول لهم أول ما يقول: إن هذا الحادث الذي ستقرءونه أو ستسمعونه أو ستشاهدونه اختلاق محض وكذب صريح؟ وهل يسمح لنفسه كاذب أو فياش من عامة الناس أن يبدأ حديثه الذي احتشد له وأفتن فيه بأنه تلفيق أو إغراب أو مبالغة؟ إن المحدث متى اعترف بكذب حديثه أول الأمر جرده من اللذة والفائدة فلا يهتم له السامع أو القارئ مهما كان موضوعه طليا وعرضه فنيا؛ ولذلك شرطوا في القصة أو الرواية الصدق أو قابلية الصدق وأوجبوا على القصاص أو الروائي أن يستعين على تمثيل الحقيقة بالخداع الشعري أو المسرحي , محافظة على التأثير والتشويق، وحرصاً على التوفيق بين الفن والحقيقة. ويظهر أن الذي دفع الأستاذ الحكيم إلى هذه المخالفة الفنية، مخالفة الأقصوصة للنصوص الدينية، ولكنه كان حقيقاً بأن يحت بفنه على أن يمكن القارئ من فهم ذلك بنفسه، أو بأن يختار من الموضوعات ما يستطيع التوفيق فيه بين فنه واعتقاده.
هيج أو هاج لا أهاج:
جاء في (رسالة لم تنشر للجاحظ) الجزء الأخير في مجلة (الكاتب المصري) الغراء:
(وأهاج المتبلد).
واليقين كل اليقين أن هذا من تحريف الناسخين، فبعيد بل محال أن يقول أبو عثمان (أهاج) وإنما يقول (هيج أوهاج) (وهاجه غيره يتعدى ويلزم).
السهمي
جامعة هارفرد تهتم بالشرق العربي:
تبدي حكومة الولايات المتحدة اهتماماً شديداً بالشرق الأدنى والأوسط كما يستدل عليه من خطاب الرئيس ترومان الأخير في شيكاغو في احتفال (يوم الجيش). وقد رددت صدى هذا الاهتمام الصحف والمجلات والراديو والأندية السياسية وغيرها من المعاهد التي تهتم بشؤون الشرق.
ومن أدلة هذا الاهتمام أن جامعة هارفرد - كبرى جامعات أمريكا - عقدت مؤتمرا للبحث في شؤون الشرق الأدنى والأوسط برعاية دائرة الدروس الحكومية لتلك الجامعة، وذلك في اليومين الثالث عشر والرابع عشر من شهر نيسان - أبريل - وقد كان المشتركين في البحث بهذا المؤتمر الأستاذ جيمس لاندس - عميد مدرسة الشريعة في جامعة هارفرد والمستشار الاقتصادي لحكومة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أثناء الحرب الأخيرة - والأستاذ كارل فريد ريخ أحد أساتذة الجامعة المذكورة - والأستاذ وليم رابارد - أحد أساتذة جامعة جنيفا ورئيس لجنة الوصايا سابقا في جمعية الأمم المنحلة.
وقد طلب القائمون بالمؤتمر من معهد الشؤون العربية الأميركية إرسال ممثل عنه للاشتراك في أبحاث المؤتمر، فلبى المعهد الطلب وندب عنه الدكتور خليل طوطح الذي اشترك في جميع أبحاث المؤتمر وخطب مظهرا أهمية معرفة الشرق العربي عن كثب، وبالاختبار لا بالمطالعة، ومن الوثائق الرسمية فقط. ولفت الأستاذ طوطح أنظار المحاضرين إلى أهمية البعث العربي الأدبي والسياسي والاجتماعي الذي شمل جميع أقطار الشرق العربي، ولا يزال من أهم عوامل تقدمه في جميع مرافق الحياة ومظاهرها. وأشار بوجه خاص إلى التقدم في طبقات الشعب المتوسطة وبين الفلاحين والعمال. فقال إن كلمة (أفندي) لا تعني طبقة خاصة من الناس تمتاز بشيء عن غيرها، واستشهد على ذلك بنفسه، وبالعصامي المعروف السيد عبد الحميد شومان. فقال أنا أدعى أفندي مع أنني ابن فلاح وكذلك السيد شومان الذي هاجر إلى الولايات المتحدة وأحرز ثروة لا بأس بها في شارع واشنطون - نيويورك - قبل أن عاد إلى فلسطين وأسس مصرفا عربيا في القدس له فروع مختلفة في مدن فلسطينية عديدة، وفي غير فلسطين من الأقطار العربية المجاورة.
يوم ولا كالأيام!
هكذا كان عنوان إحدى المقالات الرائعة في الرسالة. وفي تركيب هذا العنوان ما إلى عكس ما قصد إليه الأستاذ الكاتب؛ إذ أن المعنى الحقيقي لهذا التركيب: إنه يوم لم يبلغ أن يكون في أوصافه شبيها بالأيام، والأستاذ إنما يريد أنه يوم لم تبلغ الأيام أن تكون في أوصافه مثله. وقد شاع هذا النوع من الخطأ في كلام كثير من الكتاب فيقولون مثلا: شاب ولا كالشباب، فيضعون منه من حيث لم يريدوا الإطراء. وأما بالأمثال المشهورة: مرعى ولا كالسعدون، فتى ولا كالشباب، فيضعفون منه من حيث لم يريدوا إلا إطراءه. وأما بالأمثال المشهورة: مرعى ولا كالسعدان، فتى ولا كمالك، ماء ولا كأصداء، فهي تضرب للشيء الذي فيه وغيره أفضل منه كما يقول أبو الحسن الأخفش في تعليق على الأمل للمبرد.
عبد الغني الدفر
مدرس الأدب العربي في المعهد العلوم الشرعية في دمشق
كتاب أنساب الخيل:
قد أتمت دار الكتب المصرية طبع كتاب انساب الخيل لابن الكلبي، وهو معروض للبيع يوميا وثمن النسخة للجمهور 250 مليما، ولباعة الكتب 200 مليم، ولمن يشتري عشر نسخ فأكثر
خطأ أم عمد؟ رويت في مقالتي في العدد (674) من الرسالة، أبيات: أعناقها والنفس بعد مشوقة الخ. . . ونسبتها لابن الرومي، فلما جاءت المقالة منشورة وجدت اسم العباس ابن الأحنف مكان اسم ابن الرومي، فإذا كان خطأ فأرجو تصحيحه وإن كان عمداً فأرجو بيان دليله.
(دمشق)
علي الطنطاوي
(الرسالة): الأبيات لابن الرومي والتغيير قد حدث خطأ.
في الكتب
عبد الله فكري:
تأليف الأستاذ محمد عبد الغني حسن
هذه ولا ريب نهضة مباركة أن يقوم شبابنا المثقف بتعريف الجيل الحديث بأعلام القرن الماضي، حتى تتم حلقات التاريخ، ويعتمد الحاضر على دعائم وثيقة من الزمن. وحياة الأمم تقاس برجالها وتاريخها وماضيها.
وليس الأستاذ محمد عبد الغني حسن غريباٌ عن قراء العربية، فهم يعرفونه أديباً شاعراً كاتباً، وقد أحسن الكتابة عن عبد الله باشا فكري، لأنه كان أديباً وكاتباً وشاعراً كذلك. فهذه المماثلة بين صاحب الترجمة وبين المؤلف هي في نظرنا السر في ظهور هذا الكتاب في هذه القوة وهذا الإشراق.
بيّن المؤلف نشأته ومولده، وتعليمه في الكتّاب، ودراسته في الأزهر، وصور حياة الأزهر في ذلك الوقت أحسن تصوير، ولقد كانت حياة العلم في الأزهر في القرن الماضي أفضل منها في العصر الحاضر بعد أن تقيد الطلبة بالمناهج، وتقيد الأساتذة بطائفة من الحصص. لقد كانت الحرية الواسعة التي يلقاها الأساتذة والطلاب في الأزهر القديم سر نجاحه ومصدر بروز بعض المتخرجين فيه. لقد كانوا يطلبون العلم للعلم وهو أفضل الغايات. تقلب عبد الله فكري في وظائف الحكومة حتى بلغ نظارة المعارف وهو مثال الموظف الأمين على وظيفته، الناظر في مصلحة الشعب، المخلص لعمله، فليتدبر من يقرأ هذا الكتاب من الموظفين في الحكومة ماذا تكون نتيجة الإخلاص للوطن
ولم تمنعه الوظيفة الحكومية على ما فيها من أعباء ثقال، وعلى الأخص في ذلك العهد العصيب من الناحية السياسية، الذي ظهرت فيه حركة عرابي وانتهت بالاحتلال، لم تمنعه هذه الأمور كلها من التأليف وقرض الشعر.
وبعد، فهذه دراسة جدية بذل فيها المؤلف جهداً واضحا، ورجع إلى نحو ثلاثين مرجعاً أثبتها في صدر الكتاب مما يدل على التحقيق وسعة الاطلاع.
ونرجو إن يستمر الأستاذ عبد الغني حسن على هذا النمط، فيترجم لنا عن بعض الشخصيات الأخرى من أعلام الماضي، ليكون ذلك نبراساً يهتدي به شبان هذا الجيل.
أحمد فؤاد الأهواني
ليلة النهر:
(للأستاذ علي أحمد باكثير)
لا عجب ومصر بلاد فيها نهر النيل، فيهب الحياة لقطانها وحيوانها وزرعها، أن يتغنى المرء بفضل ذلك المنهل الخصيب على كل مرفق من مرافق الحياة. ولكن الأستاذ على أحمد باكثير - هو الأديب المطبوع - يرى أن لهذا النهر وحياً آخر أسمي من الماديات، فهو بالحب يوحي، وناره يزكي , ويلهم للشاعر أغاريده فتصدح بها نفسه دون وعي.
(ليلة النهر) قصة حب رعته الطفولة البريئة الباكرة، ونماه الشباب الطموح الوثاب، وألهب أدواره ليلة أمضاها العاشق مع معشوقته في زورق حمله النيل الرؤوم كما تحمل الأم رضيعها، فتفجرت من العاشق عاطفته فإذا بها شعر وجداني رقيق يصاحبه نغم موسيقي رائع، وإذا بالأيام تقبل على الشاب فيصبح من أعلام الشعراء والموسيقيين والمطربين وهنا تنهض التقاليد في وجهه، فلا يستطيع الظفر بمحبوبته والزواج منها لأن خالها القيم على شؤونها، رأى أن يعقد عليها لشاب متعطل مفتون ليس له من مؤهلات سوى أنه نجل أحد الأثرياء من حملة الألقاب.
وتزداد الدنيا على الفنان إقبالا، فيصيب من المال والنجاح والشهرة ما لم يسبقه إليه مفتن سواه، لأنه ينظم الشعر جيدا، ويكسوه رداء غير فضفاض من الموسيقى ذات النغم الخالد، ثم ينشده بصوت يشيع الطرب في النفوس، ويدفع السأم عن القلوب، ولا يسع المرء إزاء إلا أن يستزيده ويقبل على الإصغاء إليه.
وتمعن الدنيا في التنكر لذلك الشاب العاطل زوج الفتاة، فتكبل بالحديد يداه، ويزج به بين غياهب السجون لإثم اقترفه ويختلف وراءه زوجة وطفلا يعانيان من نكد الدنيا أمره.
ولكن الأيام بالأحداث حبالي، فإن الشاعر الموسيقار وإن سخت عليه المقادير بالمال والجاه، لم تسخ عليه بغذاء قلبه؛ وإن واتته الشهرة والمجد، لم تواته عاطفة الحب بأكلها، فأنسى ظامئاً يتلهف على ري نفسه فلا يستطيع، وسرعان ما تذيل زهرة العمر وتنزل المنية به وهو في شرخ الشباب وأوج المجد، فينعاه الناعي من المذياع الذي طالما تردد صوته منه فأطرب وأشجى، وتستمتع إليه محبوبته التي فرقت الأيام بينهما، فينزل عليها النبأ نزول الصاعقة، وتصبح في اليوم التالي نزيلة صومعة من صوامع مستشفى الأمراض العقلية.
هذا موجز قصة (ليلة النهر) التي وضعها الأستاذ باكثير، وصاغ لها قصائد ثلاثاً من جيد الشعر، ولم يقنع المؤلف بسرد أحداث تتكرر في روايات أخر، بل رأى أن يضيف إلى ذلك عنصراً جديداً يمكن تسميته (عنصر الخفاء) وذلك لأنه جعل الشاعر بطل الرواية يتصل - في هيام روحه - بروح شاعر مات بعدما حرقت جميع لأشعاره، فاخذ يملي عليه ما ضاعت آثاره من شعره. فالشاعر العاشق في الواقع ليس سوى رواية لشعر غيره، ورجع لصداه، يقبل الشعر عليه من غير جهد فيسجله وتتوارد إليه عند تسجيله النغمات الموسيقية الملائمة، فتكتمل لها ناحيتان تضاف إليهما ناحية الغناء فيتم الثالوث الغني المطلوب.
وهذه الرواية ضرب من ضروب الحب العذري العفيف الذي يحرص الأستاذ على أحمد باكثير على أن لا يتجاوز في ما يكتب من الروايات كروايتي (سلامة القس) و (وا إسلاماه) اللتين أصدرهما من قبل وعلى الرغم من أن المؤلف (خلق) في رواية (ليلة النهر) رجلا من رجال الفن وأدار أحداثها حول بطولته، أبى أن يسمح لهذا البطل بالاستهتار والتبذل واحتساء الخمر، والإقبال على مشهيات الحياة. وقد يحسب البعض أن في هذا (الاعتدال) الذي أتصف به بطل الرواية تكلفا وخروجا عن المألوف، واكن الناقد المنصف لا يسعه إلا أن يحمد للمؤلف هذا الاتجاه. والمؤلف بعد ذلك وقبله، خلاق يخلق أبطال روايته كما يشتهي، ويجيد الخلق متى أخرج لنا شيئاً جديدا ليس لنا به من قبل عهد.
وبعد، إنها قصة جيدة متماسكة الجوانب تقف بين أترابها شامخة مرفوعة الرأس.
وديع فلسطين