مجلة الرسالة/العدد 676/رباعيات عثمان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 676/رباعيات عثمان

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 06 - 1946



للأستاذ عثمان حلمي

يا أخي إن قرأت هذا الكتابا ... بعد أن صرت في التراب ترابا

لا ترع وابتسم فسخرك بالدن ... يا صواب إذا ضللت الصوابا

وتذكر أني حكيتك في الأر ... ض غروراً وبهجة وعذابا

صورة منك كان قلبي وقبلي ... من حكاني كهلا بها وشبابا

لا جديد بالليل أو بالنهار ... وقديم ما جدَّ في الأخبار

فوليد في مهده وفقيد ... صرعته مخالب الأقدار

والليالي هي الليالي كما كا ... نت قديما سلالة التكرار

قمرٌ جدَّ في المسير وشمسٌ ... لاحقتها النجوم في التسيار

فالعجيبُ العجيبُ غيرُ عجيبِ ... ومريب الأمورِ غيرُ مريب

والذي أنت فيه صورة فا ... تَ ولون القديم ولونُ القشيب

فابتسمْ ما استطعت واسخر إذا اسطع ... ت بما جدَّ من جديد الخطوب

إنَّ جدَّ الحياة أخلق بالسخ ... ر وأجدى لا بالأسى والنحيبِ

كلٌّ ما أنتَ مبصرٌ لك يٌغري ... لو تأملت بابتسامة سخرِ

ليت شعري أيٌّ النفوس وإن خ ... لّ خلا من ضعفٍ به ليت شعري

وزوايا النفوس فيها كثير ... من خفايا غرورها المستقرَّ

فابتسم يا أخي إذا خدّ أمرٌ ... ساخراً إن فطنتَ من كلّ أمر

ضائع ما أفاده كلّ حي ... من جميل محجبٍ ورديَّ

ما أفاد الذكيٌّ في الكدح إلاّ ... ما أفادت في الكدح نفس الغبيَّ

تعبٌ غيرٌ مثمر فوق ثرى الأر ... ض تساوي سعيدٌها بالشقىَّ

وعناءٌ لا ينقضي يتساوى ... جاحدٌ في عنائه بالتقيَّ

أيٌّ جهدٍ جازاهٌ أيٌّ رجاَء ... فوق هذا الثرى وتحت السماءِ

إن تساوت مصائر الناس يوما ... بمصير البهيمة الخرساء

من تراب إلى تراب ومن مح ... ض فناءٍ حق لمحض فناء يتلاقى الجهول فيه وذي الحك ... مة والأقوياء بالضعفاء

فعلامَ الأسى على غير مجدٍ ... بين ماضٍ ومقبلٍ مستجدَّ

واقعٌ ما أُعدَّ في الغيب لا تست ... طيع نفسٌ تبديل حتم المعَدِّ

ومحالٌ عليكَ ردُّ الذي فا ... تَ محالٌ إرجاءُ ساعةِ فقد

عاجز أنتَ يا أخي عجزَ أهل الأ ... رض عن ردِّ فائتٍ مسترد

كلُّ غادٍ أو رائحٍ غيرُ غادِ ... يتولى بغصةٍ في الفؤادِ

والذي لم ير الحياة وإن كا ... ن جماداً أسعدْ به من جماد

ساعة الموت لو تأملت في السا ... عات خَيرٌ من ساعةِ الميلاد

منتهى هذه الحياة فسادٌ ... مبتد في نشوئه من فساد

هذه سنة الحياة ولولا ... جهلنا لم نقم على الأرض نسلا

راحة جهلنا الحقيقة بالخل ... ق فزدنا بالحق والخلق جهلا

فمن الجهل راحة ورضاءٌ ... ورضاءُ النفوس بالعجز أولى

إنّ عقل الإنسان لم يك يوماً ... بخفايا الوجود للفهم أهلا

إن عجزي عن فهم أسرار روحي ... ثم بخلي بالنفس بخل الشحيح

من مُلحٍّ من الغرائز فيها ... تتجلى قناعتي وطموحي

في حياة منها الصحيح تساوى ... في احتكام النهي بغير الصحيح

لم يدع لي من مطلب في وجودي ... غير سعيي وراء كل مريح

ولقد جزتُ من حياتي عُمرا ... ذقت فيه الحياة خيراً وشرا

وبلوت الأمور في هذه الأي ... ام فيما عرفتُ طياً ونشرا

كلما زدت في المقادير خبرا ... زادت النفسُ بالمقادير سُخرا

وانتهى بي المطاف أني رأيت ال ... يأس في الناس راحة لي كبرى

بين يأسي أحيا وبين رجائي ... لا أُبالي بشقوةٍ أو هناء

لا أبالي أسارَ زيدٌ أمامي ... دون حقٍّ أو سار زيد ورائي

علمتني الأشياء كيف أرى الشئ ... بعين لم تُعنَ بالأشياء

وسواءٌ لو تغرب الشمسُ في المش ... رق أو لا تنير جوف السماء لا أُبالي إن مر ركب الوزير ... بيَ بين التهليل والتكبير

أو هوى صاعق على الأرض لا يخ ... شى فؤادي ماذا يكون مصيري

وضميري أرحته وكفاني ... أنني لم يثر علىَّ ضميري

لي وحدي تقدير من هو أولى ... باهتمامي في الخلق أو تقديري

كل كسبي من التجارب أني ... عشت في الأرض عيشة المطمئن

وكفاني من كل ما أتمنى ... أنني لا أُطيل فيه التمني

إن تجّنى علىّ من يتجنى ... دون حق بسمتُ للمتجني

وكفاني أن نلت منه بسخري ... ضعفَ ما نال بالحماقة منّي

أنا في موكب الحياة أسير ... في زحامٍ على الرغام يمورُ

موكبٌ دائبُ المسير فما يع ... روه كلُّ أو يعتريه فتور

صاخبُ في غروره لم يفارق ... هـ طوال الزمان هذا الغرور

لا يبالي بمن تخلف أو يع ... ني بمن كَلَّ أو دهاه قصور

ولقد حار في وجوديَ فكري ... وتبرمتُ فاستعنتُ بصبري

وأخذت الحياة باليسر حتى ... لم يضق بالحياة والناس صدري

لا أرى أن أكون غِرّاً ولا أر ... ضى لنفسي في الناس تفكير غرِّ

كيفما كانت الأمورْ فإني ... لم تفارقنيَ ابتسامة سخري

فوجودي ما لي يد في وجودي ... لا ولا في النحوس أو في السعود

غفر الّله للجدود فلما أر ... غب في أن أُعيد حمق الجدود

لا أرى الأرض بعد ما ملأ النا ... س فضاها تواقة لمزيد

خلني خلني فنفسيَ أولى ... باهتمامي من كلِّ وجهٍ جديد

ما كفى ما أحاطني من قيود ... فأزيد القيود في التعقيد

علم الله ما يخبئه الغي ... ب لنفس السعيد والمجدود

هكذا تسخرُ الطبيعةُ بالخل ... ق وتغري نفوسهم بالخلود

ويصيب العمى القلوب فما تب ... صر ما في الثرى وما في اللحود

جاء من جاء في الوجود ومرَّا ... كخيال على الثرى ما استقرا ضاقت الأرض بالجميع فألفوا ... جوفها للجميع أوسع صدرا

أكلتهم من بعد ما أكلوها ... فاسأل الأرض فهي بالناس أدرى

ما لها أنبتت من الرّم أثم ... اراً طعاماً للآكلين وبذرا

ربَّ تفاحةٍ كخدٍ صقيل ... نبتتْ من صميم خدٍّ صقيل

مضغتها الأضراس ثم طواها ... في ظلام الأحشاء جوفُ ثقيل

والليالي بالهمس تضحك من ك ... لِّ قبيحٍ وكلِّ زاهٍ جميل

كالرحى ما تني عن الطحن أو تس ... كن في سعيها سكون ملول

(الإسكندرية)

عثمان حلمي