مجلة الرسالة/العدد 67/النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 67/النقد

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 10 - 1934



أصدقائي الشعراء!

بقلم معاوية محمد نور

ظهرت في الشهور الأخيرة عدة دواوين شعرية، فأثارت كثيراً من اللغط في الصحف، وكثرت عنها الكتابة الرديئة والحسنة، وشاع الحديث بمناسبتها عن الشعر والأدب.

ولقد كان في نيتى إلا أتعرض لهذه الدواوين بخير أو شر، لأن نفوس الأدباء بمصر تضيق ذرعاً بالملاحظة والنقد، ولا تتسع الصدور لكلمة الحق، ويقل التسامح، وتغلق أبواب النظر وسعة الفكر ورحابة العطف الفكري. ولأن معظم من يكتب أو ينظم الشعر يعتقد أن الأدب نوع من الملكية الفردية يسوء صاحبها إلا تقول كلمة الإطراء عن بضاعته.

غير أن الحديث قد تشعب في الآونة الأخيرة في الصحف والمجلات الأدبية عن هذه الدواوين. ويسوء الناقد المخلص أن يرى أن معظم ما كتب في هذا الموضوع لا يوجه القارئ الراغب في الفهم، ولا يصلح الأذواق الأدبية ويوجهها وجه الصدق وطريق الصلاح الأدبي.

وسبب آخر كان ينأى بها عن الكتابة في هذا الموضوع، وهو إن صاحب (وراء الغمام) صديق عزيز علينا، اهدى إلينا ديوانه ليلة ظهوره، وكذلك فعل صاحب (الملاح التائه). وهما ولا شك ينتظران المديح والثناء من صديق يجلس معهما ويأنس صحبتهما. غير أن الموضوع في رأينا قد تعدى أخيراً هذين الأدبيين إلى ما هو اخطر وابعد شأناً؛ تعداه إلى الحديث عن طبيعة الشعر والكتابة، وان الأقلام قد خطرت في هذا الطريق بكلام نعد معظمه خطرا على الحركة الأدبية في مصر، وفهم الفنون الأدبية على الوجه الذي يفهم منها في الجيل الحاضر.

ولهذا رغبها في كتابة هذه الكلمة لا لنمدح أو نذم، ولكن لندلي برأي في الشعر كما نقرؤه ونفهمه، وكما ننتظر من الكتاب والقراء أن يقرأوه ويفهموه.

وأول ما يلاحظ على هاتين المجموعتين أن ديوان (وراء الغمام) يكاد ينحصر في الحب ومطالبه، وأن موضوعات (الملاح التائه) تكاد تنحصر في النظم عن مظاهر الطبيعة الكبرى كالبحر والليل، وان أكثر أخيلته وألفاظه هي عن النسائم والأمواج والشواطئ العامرة أو المهجورة، وما إليها من (الشعريات) التي تواضع العرف الدارج على أنها (الطبيعة). فأولهما إذن يمكن تسميته (بشاعر الحب) والثاني (بشاعر الطبيعة). فكيف يفهم صحابنا الأول الحب، وكيف يعي الثاني الطبيعة، والى أي شيء منها يلتفت ذهنه؟

والمفروض بالبداهة أن مثل هذا الشعر يكتب ليقرأه الرجل المصري أو العربي المثقف، الملم بشيء من حضارة هذا العصر وثقافته، الشاعر (بوعي) هذا الزمن الذي يعيش فيه، والذي تشغله مناظر وآراء ومسائل تثير شكوكه أو تبعثه على التفكير والتأمل والإنتاج الفني.

فلنتكلم عن الحب كموضوع شعري يتناوله أي شاعر عصري، يود أن يقرأه أي مخلوق حي شاعر في القرن العشرين، فليس ثمة شك في أن الحب كحاجة (فسيولوجية) هو كحاجة أي مخلوق حي إلى الأكل والنوم. وهو مظهر عادي تشترك جميع الإحياء فيه (ويمكن ان يقال ان النبات والجماد يعرفان الحب أيضاً والسلب والإيجاب من قوانين الكون بأجمعه) فلم يختص إذن بنظم الشعر والنشيد والأغاني؟

فإذا حدثني صديق أو عشير بأنه يحب امرأة بذاتها، وانه لا يطيق الابتعاد عنها، وأنها تثير لواعج أشجانه وأمراض نفسه، فقد يسمع مثل هذا الحديث ويحمل حينما أجلس إلى أي صديق هادئ فيحدثني عن متاعبه، وما يسمن من الآكال وما يستهجن، وعما يحب أو يكره من ألوان الثياب، ولكني لا أطيق كقارئ حي أن استمع إلى شعر لا يتعدى نفسه نغمة مثل ذكر هذه الأشياء الأولية، وإلا لكان كل فرد منا شاعراً، لان لكل فرد حاجاته وأذواقه وشؤونه التي تتعلق بالحب والآكل والنوم والمجيء والذهاب. فإنما هذه (أبجدية) كل إنسان.

أصدقائي!. . . إن هذا (الشيء) الذي نسميه شعرا والذي نود أن نقرأه نحن الأحياء العارفين لعالم الحبر والورق، هو خلاف (كلام الحسن) عن الأشياء العادية. إنه يتطلب وجود شاعر يأكل كبقية الناس ولا شك، ويحب مثلهم، ولكن نظره وأحاسيسه والتفاتات ذهنه وقفزات وعيه نحو هذه الأشياء العادية (غير عادي)؛ وهو شيء آخر خلاف ما يحس عامة الناس ويقفون عنده. ومن هنا كانت قيمة الشاعر الحق. أي انه (ولو أنني لا أود استعمال الكلمة ولكنها كبيرة الدلالة) فيلسوف. فالحب يصبح موضوعاً جديراً بالشعر كما تصبح أية حاجة إنسانية أخرى حينما يكشف لنا الشاعر معنى ونغماً وراء مظاهره المعروفة ومصاحباته العادية. وربما لا يقع من نفس القارئ هذا النغم وذلك المعنى، وقد يبدو سخيفا أو غير صادق، فالأمزجة تختلف، والثقافات تتباين وتفترق، ولكنه لا يخطئ في أن يبده أي قارئ محس بأن هنا شيئا جديراً بالالتفات والعناية.

أما الشاعر الذي يبدي ويعيد في الحديث عن ملذاته وآلامه وحسراته التي يثيرها شخص المحبوب أو ذكراه فحسب، (مهما اختلفت القافية وتعدد الإيقاع) لا يعد ان يكون إنسانا لم تتسع أنانيته إلى أكثر من حاجته البسيطة المتعارفة، وهو يشبه العليل الذي اكتشف لذة الخبر لأول مرة، أو الرجل الصحيح الذي حيل بينه وبين النوم، فيفرح الأول حينما يتناول وجبة فاخرة، ويتألم الثاني لذلك النوم الهنىء الذي طلقه الآن، وهذه ولا شك أشياء إنسانية عادية لا غبار عليها ولا نقد فيها، ولكن ليس فيها ما يبرر وضعها فناً يسترعي اهتمام القارئ الصحيح، وربما يصلح مثل هذا الشعر ويجمل عند أناس هم دون طبقة هذا (الكوكب الجديد) الذي اكتشف (قارة الأكل) أو (قارة المرأة) وثم وقف يسبح بحمدها.

والدكتور ناجي بعد كل هذا قد قرأ بعض قصائد (لورنس) (وت. س. ايليوث) واضربهما من الشعراء المحدثين والقدماء عن الحب، أولئك الشعراء الذين نراهم جاهدين يفتشون عن الله، ويبحثون في الجنس ونشوة العفاف الروحي، ثم يعود كل منهما (وحقيبة وعيه) ملأى بالأحاسيس المختلفة، والأفكار المريرة أو العذبة، ملاى بالثعأبين التي تبرق كاللؤلؤ، وبالسلام الذي تعقبه أشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي تعقبه اشد فترات الحرب تمزيقاً للأجسام والأرواح، وبالذهول الذي يسموه إلى طبقات السماء، وبالسخر الذي (يرى القمر في أمسية حب أشبه ببالون يلعب به صغار الأطفال)، ثم يذكر أن المساء ينام كرجل عليل ينتظر مبضع الجراح، وبالاختصار (بمعنى) أو (لا معنى) عظيم أو (بتيار وعي) ربما يرى في أنامل الحبيب أقطاراً متسعة ولو أنها بادية التناقض، أو بأحاسيس متناقضة بعيدة، حالكة الظلمة، أو شديدة الوهج.

ونحن لا نريد من هذا الحديث أن يقلد أي أديب أحاسيس غريبة عن نفسه بعيدة عن مطارح فكره، ولكن كقراء مخلصين نطلب منه إذا لم يكن لديه ما يؤلم ويحير، ويسعد ويشقي الشاعر والمفكر والقارئ المعاصر، أن يريحنا ولا يكلف نفسه هذا الجهد. ففي الحياة من التفاهات اليومية، وفي اطراد هذه الحاجات التي نشعر بها في صباحنا ومسائنا ما يجعلها عسيرة الاحتمال، ويضاعف مشقة العيش، فليس بنا ثمة حاجة إلى أن نقرأها في عالم الحبر والورق.

والشاعر العصري - سواء في مصر أو في الصين - الذي لا تثيره تيارات الفكر المعاصر، واكتشافاته ومتاعبه، والذي ليس له وجدان يتغير ويتفاعل بما يسمع ويقرأ ويفكر ويشاهد من عيوب نظام حياتنا الحاضرة، أو نشوز في أنغام فكرنا المعاصر، أو ألوان تسترعي الاهتمام في نسيح الثوب الذي يلفنا، أو فراغ في إنسان بادي الامتلاء، أو أغنية في زاوية من زوايا بيتنا المعنوي، ليس له، بل لنا الحق في إلا نعده في عدد الشعراء المخلصين.

والظاهر أن شعراءنا يعيشون في أجسام محدودة الفكر والإحساس بحدود جسدها وغرفتها التي تسكن، وأن الأشياء منه أو هو لم يعرفها قط. إن نظرة واحدة حيث يتقاطع شارع عماد الدين بشارع فؤاد الأول مثلاً في أي مساء لحرية بأن تبعث في الفنان أحاسيس وأفكاراً تصلح لأن تكون قصيدة جيدة إذا كان له من الشعر نصيب.

والذي يبدو لي من قراءة هؤلاء الشعراء والحديث معهم أيضاً ان ليس في حياتهم الفكرية والشعورية أي شيء يشبه الصحاري العارية الجرداء، أو الظلمات الحالكة، أو البريق الخاطف، أو الحيرة الشاعرة، أو أي اشتغال جدي بناحية من نواحي حياتنا الراهنة، وان الشكوك والمذاهب والقيم الفكرية التي تحرك الفنان العصري في أوروبا إلى الثورة حيناً، والى السام حيناً آخر. أو إلى أي فلسفة أو (عدم فلسفة) يكتشفها الفنان المرهف الإحساس، الواسع العطف، القدير الفهم، وراء مظاهر الحياة اليومية من عمل ونوم، وأكل وحب، ومال وجنس، ما يجعله يقف وقفة قصيرة أو طويلة يحاسب نفسه ويحاسب العالم باجمعه، أو يجرؤ على حوار مع الطبيعة أو الأحياء أو ما رواءها، لم تدن منه أو هو لم يعرفها أبداً.

ليس الشعر أيها الأصدقاء بالمادة الكاملة الصنع التي يمكن أن نشتريها جميعاً من الحانوت. أو يمكن صنعها كما تصنع الثياب على هذا الطراز أو ذاك. إنما الشعر هو (تجربة حية) يحسها شخص حي، ويبصرها وجدان نير، وهي تجربة فردة لم تحصل ولم تر إلا كما حصلت وكما رآها ذلك الشخص الحي، ثم يحاول نقلها وإيصالها عن طريق الكلم والإيقاع - عل قدر مهارته - إلى أمثاله من الأحياء الشاعرين.

وشعر صديقنا ناجي ما زال نغماً واحداً بسيطاً لا يتعدى - بعد زخرفة النظم - إحساس رجل عادي حينما يرى وجهاً مشرقاً، أو جسماً جميلاً أو عملاً عظيماً. فيقف مشدوهاً ويقول: (ما احلى ذلك الوجه، وأي ألم أحس به لحرماني من ذلك الشكل البديع) إلى آخر الأحاسيس التي تحسها أي مادة تحس، وإنها لتبدو لي في بداءتها وطفولتها بما يسمى (رد الفعل) وليصدقني القارئ أن هذا هو كل ما يخرج به الإنسان من شعر ناجي بعد تجريده من صناعة (الكلم) ورنين القافية. أما الرنين (والكلام العالي) كما يسمونه، فقد افضل ان اسمع الأول من (الجازبند) والثاني من الخطابة، ولا اهرع للشعر لا سمع شيئاً من ذلك!

بقية المقال في العدد القادم