مجلة الرسالة/العدد 669/عن الفرنسية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 669/عن الفرنسية:

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 04 - 1946



يوسف الثاني والضابط

للأستاذ عبد العزيز الكرداني

خرج الإمبراطور يوسف الثاني - عصر يوم - يرتاض بالقرب من مدينة فيينا - قصبة النمسا - في عربة مقفلة ذات مقعدين كان يقودها بنفسه.

وكان الإمبراطور يرتدي لباساً عادياً بسيطاً، وفي صحبته رجل من حاشيته متجرد من زيه الرسمي.

فلما استهل الإمبراطور الإدلاج في طريق المدينة بغتة وابل من هطل غزير. . . ورأى - على مسافة قريبة منه - رجلاً يصطنع الزي العسكري من رتبة الملازم الثاني يشير إليه علامة الاستيقاف. وكان بينا من اتجاه الرجل أنه يتخذ الطريق إلى المدينة. . . كالإمبراطور تماماً؛ فجذب الإمبراطور مقود الخيل وتريث ينتظر مقدم الضابط!

قال الضابط:

- هل يتفضل سيدي بمنحي المقعد الخالي إلى جواره. أظن سيدي لن يضيق بهذا الطلب كثيراً! وأكون شاكراً لسيدي تجنيبه الثوب الذي أرتديه اليوم - لأول مره - معابثة ماء المطر!

فقال الإمبراطور في بشاشة:

- لا عليك! ق ثوبك وهيا معي! من أين أنت قافل؟

فأجاب الضابط:

- آه! لقد كنت في زيارة واحد من أصدقائي. . . يشتغل حارس صيد وقد بالغ في إكرامي. . . وقدم إلي وجبة مختارة!

- وما هذا الذي قدم إليك؟

- خمن.!

- حسن. . . أيكون قدم إليك الثريد الفاخر مع نبيذ الشعير؟!

- آه! حسن! لقد قدم خيراً من هذا!

-. . . طبقاً من الكوكروت - أفضل من هذا!

- ماذا؟! لسان العجل!

-. . . أطيب من هذا أيضاً!

- أوه. . . صدقني. . . لقد أفرغت كل جعبتي، ولا إخالني مستطيعاً - بعد - أن أذهب في التخمين إلى أبعد من هذا!

-. . . لقد قدم إليّ أيها السيد ديكا برياً. . . ديكاً قنص في حقول صيد جلالة الملك!

- أولاً توجد أراض أكثر جودة من أراضي جلالته؟

- هذا أمر مفروغ منه يا سيدي!

وخيم الصمت برهة؛ وكانا قد قاربا المدينة وقطعا الطريق إلى نهايته. ولكن المطر ظل على تدفقه وانهماره؛ فاستوضح الإمبراطور رفيقه أي حي يقطن؟ ولكن الضابط أبدى رغبته في النزول متأدباً.

- سيدي. . . هذا إفراط منك في الأريحية، أخشى أن أكون قد. . .

فقطع عليه الإمبراطور:

- لا. . . لا تقل هذا، دلني على متجهك؟

فلم يسع الضابط إلا أن يعين مسكنه، ثم بدا له أن يتم تعرفه بالرجل الذي أفاض عليه من كرمه وظرفه. فتوجه إلى الإمبراطور مستفسراً أي مهنة يشغل؟ ولكن يوسف قال متخابثاً:

- حسن. . . أظن أنها الآن نوبتك في الحدس والتخمين!

- ربما كان سيدي من رجال الجيش؟

- تماماً. . .

- سيدي من رتبة (الملازم الأول).

- آه! تقول: ملازم أول؟! أوه. . . لا! أرفع من هذا.

- أيكون سيدي من رتبة (اليوزباشي)؟!

- أعلى من هذا أيضاً!

- أيكون سيدي من رتبة (الأميرالي)؟!

- يمكن تخطئة هذا الحدس أيضاً.

- كيف؟! ماذا يكون سيدي إذن! أيكون (مارشالا)

- لا. . . ما زلت بعد مجانباً التوفيق!

- آه! يا إلهي!! إنه الإمبراطور!!

فقال الإمبراطور وهو يفك عرى معطفه ليظهر أوسمة الشرف التي تزين صدره:

- هو كذلك.!

وفقد الضابط إتزانه، وأرتج عليه حين أراد أن يلتمس المعاذير؛ ولكنه استطاع - بعد لآي - أن يفصح للإمبراطور ضارعاً عن رغبته في الإذن له بالنزول من العربة؛ فأجاب يوسف الثاني متلطفاً:

- ليس الآن! إنني لن أفارقك إلا عندما تقف العربة ببابك!. . .

وهنالك أذن له في النزول.

عبد العزيز الكرداني