مجلة الرسالة/العدد 663/قصص فرعونية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 663/قصص فرعونية:

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1946



قصة سينوحيت

لأديب مصري قديم

بقلم الأستاذ محمد خليفة التونسي

الأدب المغبون:

أما قبل أن نضع القصة بين يديك فلنقف وقفة قصيرة لننظر ما حل بأدب مصر التي تدين لحضارتها بالفضل العميم كل الحضارات التي أعقبتها منذ فجر التاريخ حتى حضارتنا الراهنة في جميع بقاع الأرض.

نعرف لكل أمة أدبها: فلكل من الإغريق والرومان والعرب والأتراك والفرس والإنجليز والفرنسيين والإيطاليين والألمانيين والروس أدبهم، ولأدب كل أمة قراء يقبلون على قراءته ودرسه للتمتع والانتفاع، وله في ثقافتنا نصيب كثير أو قليل، ولكن أدب مصر القديمة لم يقدر له حتى اليوم في اللغة العربية أنصار يقدمونه إلى أبنائها - ولا سيما المصريون - كمل قدر له أنصار مقتدرون في سائر اللغات الأجنبية الحية، ولا يعدو ما كتب باللغة العربية حتى اليوم أن يكون محاولات فردية ضئيلة لا تجد معيناً ولا موالياً، وهوشيء قليل لا خطر له، فهو لا يعرفنا بحقيقة هذا الأدب الرائع وآفاقه التي امتد إليها، ولم يقدر له أن يكون ذا أثر في ثقافتنا الراهنة التي لأدب كل أمة فيها نصيب.

ومحاولتي هذه لا غنى بها عن قراءة ما كتب في هذا الباب في المؤلفات الأجنبية المطولة والمختصرة، فهي محاولة ضئيلة لتعريف القارئ العادي ببعض آثار الأدباء الأقدمين في بعض نواحي الأدب؛ فليعلم أنها جهد المقل إن شاء قنع به في غير مقنع، وإن شاء المزيد اتخذ سبيله إلى التواليف الأجنبية الحافلة بكل ما يشتهيه، وكل ما يقنعه بخطر هذا الأدب الرائع. ولعل هذا يصادف قارئاً أوسع مني فراغاً وأغزر ثقافة وأوفر صبراً فيكون أقدر مني على النهوض بإنصاف هذا الأدب المغبون، وإعطائه ما له في اللغات الأجنبية الحية، فيصحح نظرتنا إلى أولئك الأجداد الكرام حتى نعرف لهم فضلهم ونقدر أدبهم قدره، وذلك في نظري مظهر للوطنية لا يقل جمالاً وفضلاً عن سائر مظاهرها الأخرى.

عصر القصة:

أما بعد فربما كنت أيها القارئ محتاجاً إلى أن يتهيأ لك جو القصة لتكون أكثر فهماً لها وإحساساً بها، فقليل ما وقفنا عليه في تعليمنا المدرسي والجامعي من تاريخ المصريين الأقدمين، وهأنذا أقدمه على قدر المستطاع.

أمر ملك مصر بطليموس فيلادلفوس كاهناً مصرياً كان يعيش في مدينة سمنود ويسمى ما نيثون أن يكتب تاريخ الفراعنة قبله، فصدع بما أمر وابتكر تقسيمهم إلى طبقات أو أسرات.

ومنذئذ حتى الآن وكثير من المؤرخين الذين أعقبوه يتابعونه في ابتكاره فيسلسلون الفراعنة في ثلاثين أسرة، ويقسمون هذه الأسر إلى ثلاث دول: الدولة القديمة وتبدأ بالأسرة الأولى ومؤسسها مينا أو نارمر على خلاف وتنتهي بالعاشرة. والدولة الوسطى وتنتهي بالسابعة عشرة. ثم الدولة الحديثة وتمتد إلى الثلاثين حين أحتل الفرس مصر حتى أجلاهم عنها الإسكندر الأكبر.

قبل أن تأفل شمس الدولة القديمة، وانشيءت الدقة فقل في عهد الأسرة السادسة الذي أعقب عهد بناة الأهرام بدأت مصر تضعف بضعف ملوكها، وظهرت في كل إقليم أسرة قوية على رأسها أمير أغتصب من الملك وظائف الدولة كالإدارة والقضاء وصار له فيه شبه استقلال، وبذلك ظهرت الإمارات أو ما يسمى العهد الإقطاعي.

وكان لكل من هذه الإمارات عاصمة، فكانت تلك العواصم كأرمنت وطيبة وأسيوط تتنازع السلطان وتحترب فيما بينها طمعاً في توسيع رقعتها بالاستيلاء على أملاك جاراتها، وامتدت تلك الفوضى حتى نهاية الأسرة العاشرة.

كان اظهر أسرتين إذ ذاك أسرة هركليوبوليس (أهناسية) وأسرة طيبة (الأقصر) وقد ظلتا تحتربان زمناً وتم الغلب أخيراً لأمراء طيبة فبدأ شأنها يعظم وسلطانها يمتد حتى شمل مصر، وكان ذلك بدء نشوئها وارتقائها حتى نالت شهرتها التاريخية الخالدة. وكما انتصرت طيبة على سائر العواصم انتصر إلهها أمون على سائر الآلهة المصرية فصار أبرزها، وعمت عبادته أرجاء مصر وصار لكهنته السلطان على سائر الكهنة والمصريين.

وقد ساعد على نشوء طيبة وتفوقها موقعها الجغرافي. فهي تتوسط سهلاً خصيباً واسعاً أمامه أرض قاحلة ذات أخاديد ووهاد مما يساعد على حمايتها وسد وادي النيل عندها في وجوه غزاتها، كما ساعد على ذلك قوة حكامها، وبسالة رجالها الذين يؤلفون جيشها، وتلك طبيعة رجال الجنوب الأقصى حتى الآن بحكم ذلك الموقع الجغرافي. . .

وقد استطاع أميرها أن يوحد مصر، ويخضع سائر أمرائها لسلطانه، وذلك بدء الأسرة الحادية عشرة (الدولة الوسطى) ولعقبتها الأسرة الثانية عشرة التي يعد عصرها أزهر عصر في الدولة الوسطى، وأول ملوكها أمنمحعت الأول (سحتب آب رع) الذي شق طريقه إلى عرش مصر واستوى عليه فرعوناً جباراً برغم كل الاضطرابات التي كانت تسود مصر، واستطاع ضم مصر في وحدة قوية ضماً تاماً بأن استمال بعض الأمراء بتوسيع إقطاعاتهم وتأديب العصاة منهم، وأهتم بمصالح الفلاحين، ووضع الحجارة لتكون حدوداً بين الأراضي، وبين لكل منهم أرضه، وأمده بالمياه التي تكفيها، وجيش جيوش ورمى بها من كانوا يهددون حدود مصر ولا سيما في الجنوب لإخضاع بلاد النوية (كما ورد في القصة عن خليفته) وملأ جو مصر رغداً وأمناً، حتى قال بحق: لا جائع ولا ظمآن تحت حكمي.)

ومما يدل على حصافة الرجل وبعد نظره أنه ربى ولي عهده أسرتسن أفضل تربية، وأسند إليه قيادة كثير من حملاته التي وجهها لدفع الغزاة عن مصر أو لتوسيع أملاكها، وقبل أن يقضي نحبه بعشر سنوات شعر بضعف الشيخوخة فأعتزل الملك وأقام أسرتسن خلفاً له، وظل إلى جانبه يرعاه ويسدد خطاه في السياسة والإدارة والحرب، ويشرف على أعماله أثناء غيابه عن العاصمة في غزواته، إذ أنه كان يقود جيوشه بنفسه.

وحوادث هذه القصة تبدأ في هذه الفترة أثناء عودة أسرتسن من إحدى حملاته في غرب (ليبيا) قافلاً إلى عاصمته طيبة في الجنوب، ففي طريقه جاءه رسول من القصر ينعى إليه أباه، وكان من رجال حملته الأمير سينوحيت الذي أورد الكاتب القصة على لسانه - واقفاً بجانبه والرسول ينبئه بالنعى، ففر بحياته المهددة مجتازاً وادياً شرقي إدهى (الدلتا) ثم الصحراء الشرقية ثم شمال سينا حتى بلغ فلسطين التي كان يسكنها العامو، وبهذا الاسم ورد ذكرهم في القصة.

ويذهب بعض المؤرخين إلى أن سينوحيت الذي أجرى الأديب القصة على لسانه كان ابناً لامنمحعت، وقد يزيد بعضهم انه ابن غير شرعي بدليل ما ورد في القصة من اتصاله المكين بالملكة والأميرات، وهذه الألقاب الضافية التي أسبغها عليه الأديب مما يدل على قوة قرابته من الملك.

ويذهب البعض أيضاً إلى أنه لم يهرب من مصر إلى خوفاً على حياته من أسرتسن أن يقتله حتى لا ينازعه بعد موت أبيه العرش الذي استولى عليه قبلئذ بعشر سنوات في حياة أبيه.

وهذه القصة تصف كثيراً من أحوال مصر وأمنمحعت وأسرتسن والبدو من قبائل الصحراء الشرقية وسينا وسكان فلسطين وعلاقة مصر بجاراتها في ذلك العهد البعيد (نحو 2000 سنة ق. م) وكل اولئك ينطبق على ما هو معروف في التاريخ عن ذلك العهد حتى أن أثريا ثقة هو العالم الإنكليزي السير فلندرز بترى يذهب إلى أنها قصة دونها صاحبها لإثبات حوادث تاريخية كما كان الملوك قبل ذلك يدونون وقائعهم على جدران قبورهم وآثارهم. ويرى أنه لا يبعد أن يعثر المنقبون يوماً على قبر هذا الأمير سينوحيت، وأن يجدوا هذه القصة منقوشة في قبره.

القصة

حدّث الأمير سينوحيت حافظ أختام الملك ونديمه الوفي، والفيصل في المشكلات، والقيّم على أحوال الغرباء. قال: كنت في حاشية سيدي الأمير وقرينته العزيزة عنخت أسرتسن سليلة الملوك وشريكة حياة ولي العهد.

وحدث في السابع من بابة من العام الثلاثين أن تسلل الإله القصر، وقبض روح الملك الطيب سحتب آب رع (امنمحعت الأول) التي صعدت إلى السماء راجعة إلى مصدرها، وهكذا قدر للقصر الزاهر أن تطبق عليه الكآبة، فتوصد أبوابه، ويخر خدمه على وجوههم حداداً على مولاهم العظيم.

حدث ذلك بينما كان جيش مصري جرار يخوض غمار معارك طاحنة في الغرب، إذ كان الملك قد بعث قبل موته بهذا الجيش إلى تمهو (لوبية) وزوده بطائفة من خير قواده، وكانت قيادته العليا للإله الباسل الملك أسرتسن ابنه وخليفته في ملكه، وما انتهى الجيش من حروبه حتى قفل راجعاً وقد غنم كثيراً من الأسرى، وقطعاناً لا حصر لها من الأنعام.

قرّ رأي رجال البلاط أن ينهوا إليه خبر الفاجعة، فبعثوا إليه برسول يحمل النعي إليه أثناء رجوعه من الغرب قبل أن يصل، ولما جاءه الرسول كان الظلام قد أطبق على الأرض فأفضى إليه برسالته قائلاً: (لقد طار الصقر).

كان غرض الرسول بهذه التعمية ألا يقف أحد من رجال الجيش على جلية ما حدث، غير أني لم أكن بعيداً حين أفضى إليه الرسول برسالته، فسمعتها، وما كدت أسمعها حتى وعيتها فزلزلت لها زلزالاً شديداً.

استحوذ الخوف عليّ، واشتدت خفقات قلبي، وسرت في أوصالي هزة هائلة، وإذا بساقيّ تنطلقان بي بعيداً عن الجيش، وكانت عيناي أثناء عدوي لا تنفكَّان تنقبان ذات اليمين وذات الشمال عن مأوى إليه من مخاوفي، فما ظفرت بعد لأي إلا بنباتات قليلة انطرحت خلالها مختفياً عن أعين الجيش، متربصاً أن يمر علىّ فلا يراني.

وعَبر بي الجيش فلم يرني أحد، ولم أكد آمن نظراته حتى انطلقت أعدو إلى الجنوب، ولكن لا لأعود إلى العاصمة بل لأهرب بحياتي؛ فقد رسخ عندي أن لا حياة لي بعد أن مات الملك.

وطفقت أغذ خطاي حتى انتهيت إلى الجميزة فجعلتها خلفي، وواصلت سراي حتى بلغت سنفرو فبت ليلتي تلك فيما حولها من المزارع.

وعندما أشرقت الشمس شرعت أسير، وفي أثناء الطريق لقيني رجل فخاف مني، وطلب مني الأمان، فتركته وتابعت رحلتي، وقبل حلول الليل رأيتني عند كرأهاو، وهنا وجدت طوفاً على شاطئ النهر لا سكان له، فامتطيته تاركاً نفسي تحت رحمة التيار الذي دفع طوفي إلى شرق آكو، وهي للرّبة حربت ربة الجبل الأحمر، وكان بها كثير من المحاجر، وهناك بلغت الضفة الشرقية فهبطت من الطوف وتركته.

ولم أتمهل هناك بل انطلقت إلى الشمال حتى بلغت مسلحة أقامها الملك في ذلك الثغر لمدافعة جموع الساتي، فأعتراني الخوف من أن يراني رجال الحامية الذين كانوا يتناوبون حراسة الحدود من فوق الأسوار، فاختبأت وراء شجرة هناك حتى لا تقع أنظارهم عليّ.

وقد أفلحت فيما أردت، وبقيت في مخبئي حتى إذا عسعس الليل برزت أحْدس في مناكب الأرض إلى ان تنفس الصبح، وإذا أنا عند بتن، فتركتها وانحدرت في وادي كيمور.

وفي هذا الوادي مرت عليّ تجربة قاسية شعرت معها بأني هالك لا محالة، فقد عراني ظمأ ملح، جفف حلقي، وحشرج أنفاسي، وجعل صدري ضيقاً حرجاً. ولكني لم أيأس ولم أهن، بل اعتصمت بالصبر، وأجمعت أمري، وإذا أنا بأصوات تطرق أذني، وغناء عذب يهبط علىّ بالسكينة والأمل، ثم إذا رجال من الساتي كانوا يتجولون هناك، وكان فيهم رجل رحل إلى مصر فعرفها وأحبها، وقد عرفني الرجل فأكرم وفادتي، وسقاني ماء ولبناً فرويت وشبعت، وقادني إلى خيمته، وأضافني هو ومن معه فأحسنوا ضيافتي، ثم دعتني قبيلة أخرى إلى الإقامة بينهم فلبيت دعوتهم، ونزلت فيهم أياماً، ثم رحلت شرقاً حتى بلغت بي الرحلة أدوم فنزلتها.

(البقية في العدد القادم)

محمد خليفة التونسي