انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 663/السلاجقة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 663/السلاجقة

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1946



عنصر قوة في الإسلام

(بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)

(حديث شريف)

للأستاذ حسن حبشي

ليس من شك في أن ظهور السلاجقة على مسرح التاريخ يعد نقطة انتقال هامة في التاريخ الإسلامي، فقد نشأت عدة دويلات من هذه الزمرة الصغيرة التي خرجت من بخارى يقودها سلجوق ويدفعها حبها للمخاطرة. أما من الناحية الدينية فقد كانوا حماة الإسلام، يذبون عن بيضته، وينافحون عنه، ونبغ فيهم رجال نصروا الحنيفية السمحة، كما ظهر في أيامهم أئمة أدرجوا في عداد المجتهدين، وحسبنا أن نذكر من هؤلاء حجة الإسلام الغزالي. كتب الأستاذ هربرت لوي يقول: (إنه لا يعزي إليهم فحسب ما مني به الصليبيون من فشل ذريع، بل يرجع إليهم كذلك الأثر غير المباشر للشرق على الغرب، ذلك الأثر الناجم عن الاختلاط الذي كان بين الفرنجة والمسلمين في الحروب المقدسة، وقد كان ظهور شأو السلاجقة مقوياً للمذهب السني، كما يرجع إليهم الفضل في إعادة الوحدة إلى الإمارات الإسلامية الممزقة، كما أنهم وضعوا أسس الإمبراطورية العثمانية في القسطنطينية).

هاجر سلجوق من تركستان إلى بلاد ما وراء النهر، ويعزو الأستاذ هربرت ظهور سطوته إلى هذه الهجرة وإلى اعتناقه هو وقبيلته الإسلام. وأصبحوا من دعاة المذهب السني على عكس الفرس الذين سايروا المذهب الشيعي.

ظهر السلاجقة في وقت كانت عوامل الضعف والانحطاط تعمل في جسم الخلافة العباسية، فقد أحاط الخلفاء العباسيون أنفسهم بالحرس التركي، وذلك يرجع كما يذهب الأستاذ شفيق غربال بك إلى موازنة النفوذ الفارسي الذي كان قد تغلغل في جميع مصالح الدولة، وقصة البرامكة - وهم من أشراف الفرس - وما نكبوا به، أجلى برهان على ما وصلوا إليه من عليا المراتب في الدولة (حتى غدوا الحكام الحقيقين لها مما جعل الخليفة (هارون) يجمع العزم على التخلص من العائلة بأكملها).

لما تسلم بنو العباس أزمة الحكم، لم يكن معنا ذلك استتباب الأحوال لهم، فقد أنقلب عليهم بنو عمهم العلويون الذين لولاهم لكان نجاح العباسيين ضئيلاً، وكان بجانب هؤلاء الخوارج والمعتزلة والزيدية وغيرها من الفرق الإسلامية، وكان الشيعة أعداء أقوياء الشكيمة، وإن كان ينقصهم التنظيم. ودب الضعف في الدولة العباسية، فانسلخ منها كثير من الولايات الخاضعة لها (فكان قيام دولة الأدارسة في مراكش (788م) على يد إدريس بن عبد الله، والأغالبة في تونس (800م) على يد إبراهيم بن الأغلب، ودولتي الطولونيين والإخشيديين في مصر. كان قيام هذه الأمارات خسارات فادحة للخلافة منيت بها في نواحيها الغربية، ولم يكن الشرق أوطد مركزاً من ذلك، فقد كان من أثر السياسة التي سلكها الخليفة المأمون أن ظهرت في فارس وبلاد ما وراء النهر روح قومية عظيمة، كان من نتائجها قيام دويلات مثل الصفراوية (867 - 903م) والسامانية (874 - 999م) كما نشأ من الأخيرة الغزنويون، لأن البتجين مؤسس هذه الأسرة الأخيرة كان مملوكاً تركياً في البلاط الساماني، كما أن سلطان آل بويه قد شل قوة الخلفاء وألزمهم قصورهم) ومع أن هذه الدول اعترفت بالسلطان الديني للخليفة إلا أن هذا الاعتراف كان اسمياً. ويذكر السيد أمير علي أن هذا الاعتراف كان لإكساب هاتيك الدول قوة ظاهرة، وحتى تعتبر كل ثورة ضدها ثورة غير شرعية.

لكن متى بدأ الضعف في الدولة؟

التاريخ سلسلة متصلة الحلقات، ومعنى لا نستطيع أن نحده. ولو فعلنا ذلك، كان اعتمادنا عادة على الظواهر العامة البارزة التي يمتاز بها عهد من عهد.

وقد ذهب الأستاذ نيكلسون إلى تقسيم الخلافة العباسية قسمين: أحدهما عهد القوة، ويبدأ باعتلائها العرش حتى حكم الواثق وهو قرن من الزمان. أما عهد التدهور، فيبدأ بالمتوكل (847 - 891م)، ويمتاز بأنه عهد انحطاط سريع أعقبه سقوط هائل خابت كل الوسائل في علاجه. أما أبو المحاسن فيذهب إلى أن تدهور الخلافة بدأ باعتلاء المستكفي عام 902م. وربما كانت علة هذا التدهور أيضاً سعة الأقطار التي كانت تحت إمرة الخلافة العباسية، إذ كانت دولاً كبيرة متعددة لا يربطها بها غير دفعها الجزية.

والملاحظ في الدولة العباسية أن السلطة - أيام قوتها - كانت في يد الخليفة، أما حيث بدأ الضعف يدب في أوصالها، فقد انتقلت هذه السلطة إلى أيدي الوزراء، فأين وزراء المنصور والسفاح، من هذه الوزارات الست في عهد المأمون؟

هذه مقدمة وجيزة لتبيان حال الضعف التي وصلت إليها الدولة العباسية وكاد يؤدي بها لولا أن قيض الله لها (السلاجقة)، فأنقذوا الإسلام (كما أن شخوصهم شطر الغرب أضاف عنصراً جديداً إلى الإسلام مكن المسلمين من الوقوف ضد الغزاة الأوربيين، ووحدوا الإقليم الممتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى حدود الهند تحت زعامة واحدة وإن كان لفترة محدودة، وردوا الصليبيين والبيزنطينيين ماذين في حياة الخلافة العباسية التي ظلت قائمة حتى تخريب المغول لبغداد عام 1258م، ويعزى إليهم قيام الدولة الأيوبية في مصر).

من هذه العبارة نستدل على ما كان للسلاجقة من شأن عظيم في تاريخ الإسلام والشرق عامة، وبخاصة أنهم ظهروا في وقت قد تمزقت فيه أوصال الخلافة أو كادت، (وما كان من قبل مملكة متحدة تحت إمرة حاكم مسلم أصبح الآن عدة دويلات مبعثرة لا رابط بينها) ومما زاد في تفرق بعضها عن بعض هذه المذاهب المختلفة، فكان قيام السلاجقة رجحاناً لكفة أهل السنة ولم يطل بهم الزمن حتى أسسوا ممالك سلجوقية خارج العراق في الهند وتركيا.

وحد السلاجقة دويلات كثيرة منها فارس والعراق والشام وآسيا الصغرى، فرفرف علم إسلامي واحد على آسيا من حدود أفغانستان الغربية حتى البحر الأبيض المتوسط.

عرف السلاجقة بالجرأة والقوة والحول، وتعاور الحكم كثيرون من أمرائهم، وحسبنا إشارة موجزة لبعضهم.

كان لسلجوق أربعة أبناء يدعى أحدهم إسرائيل، ألقى القبض عليه السلطان محمود وأسره وظل في أسره سبع سنوات ومات في أسره، فأثر ذلك غضب أهله. ورأى ابنه قتلمش الخير في الهرب، ومن ثم اتخذ طريقه إلى بخارى حتى يكون بمنجاة من نقمة السلطان، وهناك أثار حمية أقاربه للأخذ بثأر أبيه، والثأر عند القبائل - كما يقول نيكلسون - مرض من أمراض الشرف هو أقرب إلى الجنون، أورد الأستاذ براون (عن الراوندى) أن هجرة قتلمش وأهله، كانت في أيام السلطان محمود وبأمره.

وأول من يهمنا أمرهم طغرل بك، دخل هذا الزعيم السلجوقي بغداد في ديسمبر عام 1055م، (وأجلس على عرش وألبسوه لباس التشريف). ومما زاد في توثيق العلاقات بين طغرل وبين الخليفة القائم زواج الأخير من ابنة أخي الأول وتدعى خاتون خديجة، وتذكر الأقاصيص أن هاتفاً جاء لطغرل في المنام يدعوه للخروج لغزو بلاد الموصل وديار بكر وسنجار، فلبى الهاتف ثم عاد إلى بغداد فشكره الخليفة لنصرته الدين، وسماه ملك المشرق والمغرب.

لم يقنع طغرل بك بما نال من سلطة واسعة، وما هو فيه من نعمة يتقلب في مطارفها، بل تاقت نفسه لتوثيق صلاته أكثر بالخليفة، فهداه تفكيره إلى الزواج من ابنة السلطان، وتدعى سيدة النساء، ويظهر أن الخليفة لم يكن راضياً عن هذا الزواج ولعله كان يرى في ذلك طمع طغرل في أن يكون خليفة من بعده. ومن يدري؟ فلربما كان يريد الاستئثار بالحكم من دونه، ذكر ابن الأثير أن الخليفة انزعج من ذلك وأرسل في الجوب أبا محمد التميمي، وأمره أن يستعفى فإن أعفى وإلا تمم الأمر. وعقد له عليها، لكن عاجله الأجل إذ توفي في العام التالي في مدينة طغرشت، فرجعت ثانية إلى بغداد، وقد وصفه ابن الأثير بقوله: (إنه كان حليماً عاقلاً من أشد الناس احتمالاً، وأكثرهم كتماناً لسره، ظفر بملطفات كتبها بعض خواصه إلى الملك أبي كاليجار فلم يطلعه على ذلك، ولا تغير عليه، حتى أظهرها بعد مدة طويلة لغيره).

جاء بعده ابن أخيه جغري داود، ويدعى ألب أرسلان، وقد حدث قبل توليته أن مال عميد الملك الكندري لتولية أخيه سليمان بدلاً منه، غير أنه أخفق في مسعاه مما أثار ضغينة ألب أرسلان، فما كاد يتبوأ العرش حتى نفي الكندي إلى مرو، ولم يطل عليه الزمن في السجن فقد لقي مصرعه وقتل بأمر ألب نفسه، وهذا ما ذهب إليه الأستاذ براون، وكان مقتله كما يذكر أبن الأثير بعد سنة في الاعتقال، وفي ذلك يقول أحد الشعراء مخاطباً السلطان:

وعمك أدناه وأعلى محله ... وبوأه من ملكه كنفاً رحبا

قضى كل مولى منكما حق عبده ... فخوله الدنيا وخولته العقبى

واختير مكانه الأديب العالم (نظام الملك). وأهم ما يذكر به عهد ألب أرسلان انتصاره على ملك الروم أرمانوس كما انتصر على قتلمش، وامتدت رقعة مملكته حتى ليقول ابن الأثير إن ملكه امتد من أقصى بلاد ما وراء النهر إلى أبعد أطراف الشام. ولقد أجمل الأستاذ براون في كتابه تاريخ الفرس الأدبي (ص 177) كل أعماله، وهي جديرة بأن تجعله في مصاف أعظم السلاطين. أما مصرعه فكان على يد مستحفظ قلعة يدعى يوسف الخوارزمي إذ ضربه بسكين في خاصرته. وكان قد أخذ البيعة في حياته لابنه السلطان ملك شاه، وهو آخر السلاطين السلاجقة الذين ظلت أزمة الحكم في يدهم، ولم تتوزع الأهواء بينهم.

حسن حبشي