مجلة الرسالة/العدد 660/قصة الذرة:
مجلة الرسالة/العدد 660/قصة الذرة:
تلك الأشعة المحيرة!
للأستاذ فوزي الشتوي
- 1 -
وكذبه صدى صوته
وللذرة أيضا قصتها المثيرة المليئة بشتى أنواع المفاجآت. تقرأها مرة، فإذا أنت حيال قصة بوليسية شائقة لا يكاد متعقبو طلاسمها يوفقون إلى حل لغز حتى يتعثروا ويفاجئوة بألوان من العجائب والطرائف التي لم يفكروا فيها ولم تكن لهم على بال.
وفي وسعك أن تقسم قصتنا إلى ثلاث مراحل: أولاها في الاستنتاجات الفلسفية الكلامية، والثانية حين عثر رونتنجن على أشعة إكس المجهولة فانتقلت القصة من مجرد الفروض والتخمينات إلى الحقائق الثابتة على الحقائق الملموسة. والثالثة حين ألقيت القنبلة الذرية الأولى على هيروشيما اليابانية، فسجلت ختام الحرب العالمية الثانية. كما بدأت عصراً جديداً يسعى فيه العلماء إلى القبض على لجام الذرة، وتطبيق معلوماتها على الكون، وكشف غوامضه وأسراره.
ولا تعجب لأن عالماً كبيراً وقف في عام 1893 ليعلن على الملأ أجمع أن الاكتشافات والأبحاث الطبيعية وصلت إلى ذروتها، وأن العلماء في المستقبل لن يجدوا من المكتشفات الحديثة ما يستحق الذكر، وأن كل ما سيعلمونه مجرد تكرار وصقل للتجارب البارعة التي أجراها القرن التاسع عشر.
الأشعة الغريبة
لا تعجب لأن صدى صوته أرتد إليه يكذبه ويستنكر عبارته، فما كاد شهر ديسمبر عام 1895 ينتهي حتى أعلن البروفسور رونتنجن اكتشافه لأشعة إكس المجهولة وأرفق إعلانه بصور لعظام اليد، وبمفاتيح ونقود تظهر من خلال أكياسها الجلدية. فهذه الأشعة ذاتها هي التي نستخدمها الآن في الكشف عن العظام والأعضاء الداخلية للجسم.
ومحا الكشف العلمي الجديد الغريب صوت العالم. وأثبت أن العلماء ومكتشفاتهم لا تز ترسم الحرف الأول من حروف الهجاء ولم ينتقلوا بعد إلى الحرف التالي، فقد عثر رونتنجن على أشعة بالغة الغرابة تخترق الأجسام المعتمة كما تخترق أشعة الشمس لوح زجاج شفاف. فما هي؟ وكيف تحدث؟ ولماذا تحدث؟ ومن أين أتت؟ وما خواصها؟
أسئلة لم يجب عنها علم القرن التاسع عشر بحرف واحد، ولم يعرف لها علة ولا تعليلاً. فلقبوها بالأشعة المجهولة (إكس). ولو توفرت المصادفة لكثير من العلماء الذين كانوا يجرون نفس تجارب رونتنجن لاكتشفوها، فإن أنبوبة كروكس الكهربائية التي كان يسعى لمعرفة خواص أشعتها كانت من الأجهزة المشاعة بين العلماء.
أفادت الطب والصناعة
وقد تلقى الأطباء أبحاث رونتنجن وأشعته بكثير من العناية، فعلى هديها تسير لهم الكشف عن الكثير من الأمراض التي تصيب الإنسان، ولاسيما في حالات كسر العظام ووجود أجسام غريبة في الجسم. فإذا أطلق الرصاص على إنسان حددت أشعة إكس مكان القذيفة ليخرجها الجراح. وإذا تكونت داخل الجسم أجسام غير طبيعية أصابته بالمرض استطاع الطبيب بأشعة إكس أن يتأكد من وجودها أو ينفيه، وعلى هذه الصورة يعالج العلة.
وعلى هدى أشعة رونتنجن أيضا يستطيع بعض الصناع فحص الأدوات الدقيقة التي يشترط فيها النقاء ومعرفة ما بها من مواد غريبة. ومثال ذلك كرة البليارد وغيرها. وقد أصبحت أشعة إكس الآن من مستلزمات الطب الحديث، وكثير من العمليات الصناعية.
ولكن رونتنجن نفسه لم يدرك شيئاً من خواص الأشعة الجديدة سوى طريقة صنعها التي عثر عليها بمحض المصادفة فقد كان كسواه من أكثر علماء تلك الفترة يجري تجاربه على أنابيب كروكس الكهربية. وهي أنابيب تشبه في نورها أضواء النيون التي تشهدها كل ليلة في شتى أنحاء البلاد في تلك الإعلانات الضوئية الوهاجة.
ولكن الأشعة المنبعثة من الجانب السالب لأنبوبة كروكس كانت ضعيفة وذات خواص عجيبة إذ تسير في خط مستقيم مرسلة أشعة خضراء ذهبية تنحرف إذا سلطت عليها مغناطيساً. كما كانت مصدر قوة. فلو وضعت في مسارها عجلة دوارة فأنها تديرها. وكانت أيضا ترسل الحرارة في الأجسام التي تعترضها، وتضئ الماس وغيره من الأحجار الكريمة.
الحالة الرابعة
وكان السير وليام كروكس مكتشف هذا الأنبوب يعتقد أن هذه الأشعة فريدة من نوعها، واستنتج أن الأنبوبة تحوي حالة رابعة للمادة غير الحالات الثلاث المعروفة وهي الصلابة والسيولة والغازية، وتكهن بأن الحالة الرابعة هي تفوق الغازية أو الإشعاع. فكان من الطبيعي أن يدرس ظواهرها أكثر العلماء.
ولأنبوبة كروكس أم استنبطها هينريش جيسلر صانع الأدوات العلمية؛ وهي تتألف من أنبوبة زجاجية فرغ أكثر هوائها وفي كل من طرفيها قطعة من المعدن. وقد أثبت جيسلر أنه إذا وصل أحد طرفي هذه الأنبوبة بمورد كهربائي، فإن الأنبوبة كلها ترسل ضوءاً لماعاً. وقد كانت هذه الأنبوبة بالذات الأساس الذي صنعت منه أنابيب أضواء النيون.
وتختلف عنها أنبوبة السير وليام كروكس في أنها أكثر تفريغاً من الهواء نتيجة لاستنباطه لمضخة أقوى وأدق من طريقة جيسلر، ومن ثم خالفتها في خواص أشعتها وغرابة تطوراتها ودفعت بالعلماء إلى دراستها.
وكان رونتنجن كسواه من العلماء، فأجرى عليها التجارب العديدة. وفي أحد الأيام غطى الأنبوبة بمادة سوداء فكانت دهشته بالغة. فعلى مقربة منه اتفق وجود لوح مغطى بمادة مضيئة وجدها تلمع وتضئ في الظلام. وأدرك من فوره أن أشعة الأنبوبة اخترقت المادة وانعكست على اللوح، وعرض كيس نقوده فإذا هو يرى محتوياته أيضاً، وواصل تجاربه حتى أدرك أن أشعة كر وكس ترسل أشعة غريبة لا تراها العين، ولكنها تضئ الأجسام اللامعة. كما وجد أنها تخترق المواد الصلبة وتسجل صورتها على ورق التصوير الحساس. فاستمر في تجاربه حتى قدمها للعالم في ديسمبر عام 1895.
وكان من السهل على أكثر العلماء أن يتحققوا بأنفسهم من اكتشاف رونتنجن، فما لبثوا أن وجدوا أن أنابيب كر وكس التي لديهم كانت دائماً ترسل تلك الأشعة الغريبة فحسنوا أنبوبة كر وكس وأضافوا إليها مهبطاً من البلاتينيوم وسموها (أنبوبة أشعة إكس).
(البقية في العدد القادم)
فوزي الشتوي