مجلة الرسالة/العدد 659/حمام الحرم
مجلة الرسالة/العدد 659/حمام الحرم
للأستاذ عباس محمود العقاد
أشرت في مقالي السابق عن الرحلة الحجازية إلى حمام الحرم فقلت عن أعجب ما سمعته ورأيته من شأنه (إنه يطوف حول الكعبة ولا يعلو عليها فرادى ولا جماعات).
(وقد سمعت بهذه الخاصة في حمام البيت قبل أن أراه، فلما رأيته في طواف العمرة وطواف الوداع تحريت أن أتعقبه في كل مذهب من مذاهب مطاره فإذا هو كما سمعت يطوف ولا يتعدى المطاف إلى العبور).
وهذه خاصة لا بد لها من سبب مفهوم، ولا بد من استقصائها في جميع أحوالها قبل التيقن منها وقبل تعليلها بالخوارق التي لا تقبل التعليل، فإن الذهن لا يقبل الخارقة إلا إذا ضاقت به علل الطبائع التي أودعها الله في خلقه وتواترت بها المشاهدة في جميع الأحوال، وبخاصة حين لا يكون هناك مقتضى من حكم الدين ولا حكم العادة لامتناع الطيران في فضاء الكعبة أو أي فضاء مقدس مصون، ولا معابة على فضاء السماء في كل مكان أن تحلق فيه الطيور أو تعبر به الطائرات.
وقد شغلني أن أتيقن أولا من تطابق الأقوال على اطراد هذه الظاهرة، وأن أجرب حماما غير حمام الحرم لأرى كيف يطير إذا أطلق في جوانب الكعبة وحده، وأن أجرب طيراً غير الحمام من القماري أو العصافير أو فصائل اليمام، لان الجوارح قد يصرفها النظر إلى فرائسها عن تحقيق التجربة بما يفيد الحرية في اختيار جو الطيران، وخطر لي قول الطائي:
يسقط الطيرُ حيث يلتقط الحب ... وتغشى منازل الكرماء
ولكن الطير يسقط حيث يلتقط الحب ولا يقصر طيرانه على مواضع التقاطه، فإذا كان حمام البيت قد تعود أن يلتقط غذاءه في المماشي التي حول الكعبة فليس ثمة ما يمنعه إذا صعد في الجو أن يتجاوز تلك المماشي إلى ما جاورها، وهو قريب من قريب.
وأوصيت بعض رفاقنا أن يرقبوا هذه الظاهرة في زياراتهم المتعددة، وهم يزورون البيت متفرقين حسب النوبة التي يفرغون فيها من العمل في اليخت أو في الطوافتين. فلما عادوا جميعاً كُفيت مؤنة التجربة أو التجارب الكثيرة التي كان لا بد لنا منها قبل التيقن من تلك الظاهرة وتعليلها بما يكشفها على جليتها، لأن ثلاثة منهم اتفقوا على أنهم شاهدوا الحمام يطير أحياناً فوق الكعبة وإن لم يكن ذلك مطرداً في جميع الأوقات، وممن شاهدوا ذلك إمام اليخت الملكي المحروسة وهو شاب مهذب أديب حسن المعرفة بالدين حسن التفسير لأحكامه وفروضه، فأنه قال إن الحمام يطير فوق الكعبة ولكنهم يلحظون فيما يطير منه عليها شيئاً من الضعف والانكسار، كأنه مريض يلتمس الشفاء ببركة العبور على ذلك المقام، وهذا وحده يبطل ما ذهبوا إليه من تلك الملاحظة. . . لان طالب البركة لا يلتمسها بما يخالف حرمة المكان فيما جرى عليه عرفه أو عرف بداهته الفطرية، فإن كان طير البيت يتجنب الطيران فوق الكعبة تقديساً لها كما يتخيلون فليس من شأنه أن يلتمس البركة بما يخالف التقديس.
وقد أصبحت الظاهرة معقولة بعد ما سمعته من تلك المشاهدات بغير خارقة أو التجاء إلى أغراب.
حتى ندرة الطيران فوق الكعبة لا تستعصي على التفسير الموافق للعادات والمشاهدات، فإن الحمام الأليف يجتمع إلى أسرابه في ملاقط الحب، ولكنه لا يطير أسراباً أسراباً كالفصائل البرية من نوعه حين تهاجر من مكان إلى مكان. فإذا جاوز الحمام الأليف مساقط أسرابه فإنما يطير زوجين زوجين أو فرداً فرداً في التماس أليفه الذي يغيب عن نظره وسط الأسراب، وهذه العادة خليقة بأن تفسر لنا ندرة الطيران على بعد من المماشي التي يتجمع فيها الحمام كما تفسر لنا بطئ حركة الطائر الذي يخرج على الطريق في بحثه واستطلاعه، لأنه لا ينوي الطيران إلى بعيد حيث يعبر فضاء الكعبة لينظر حواليها إلى أليفه المفقود.
على أن جمال المعنى الذي يتمثل في حمام الحرم لا ينقص ذرة بطيرانه هنا أو طيرانه هناك، لان معناه الجميل هو الأمن في حماية الإيمان لا في حماية الحراس أو حماية الأبراج والسدود. فهذا أضعف الطير يراه الجائع والطامع ولا يمسه بسوء، وهو يطمئن إلى هذا الأمن بطبعه وإن لم يفهمه بعقل فيه يفهم أمثال هذه الأمور، فلا يجفل من الإنسان ولا تراه يطير منه إلا طيران الدلال واللعب لا طيران الفزع والاضطراب.
ولم يزل للحمام نصيب من القداسة أو الطهارة منذ آمن الناس بالدين على سنة الوثنية أو سنة التوحيد، وكان هذا النصيب ينفعه حيناً ويجني عليه في أحايين، فكان قربان الحمام مفضلا في شريعة موسى على القرابين من سائر الطيور، وكان الإغريق يتقربون إلى الزهرة ربة الحب عندهم بالحمام الأبيض أو باليمام وما إليه، ولا يزال السحرة في أيامنا يخدعون السذج بالحمامة البيضاء أو الحمامة السوداء، ويتوسلون بالأولى في استعطاف الملائكة والأرواح الكريمة، وبالأخرى في استعطاف الشياطين والأرواح الخبيثة، بل لا يزال أناس من المعاصرين يعتقدون في الحمام اعتقاد الأقدمين الذين زعموا أنه أقدر الطير على استجابة داعي العشق والغرام، وأنه من ثم طعام صالح للأزواج وهدية صالحة في الأعراس.
والشعراء يضربون به المثل في الوفاء والغناء، وبعضهم يسمي هديله بالبكاء لفرط الحنين إلى الألفاء والأحباء، ويجاري الشعراء في هذا الرأي بعض من كتب عنه من الطبيعيين والمشغولين بتسجيل عادات الطيور.
أما الصواب فهو ما قاله المعري حيث قال:
أبكت تلكم الحمامة أم غنت ... على فرع غصنها المياد
وهو أيضاً ما قاله حيث قال:
ظلم الحمامة في الدنيا وإن حُسبت ... في الصالحات كظلم الصقر والبازي
ويؤيد المعري في هذه الملاحظة هواة الحمام من العرب، وأشهرهم مثّنى بن زهير حيث يقول فيما رواه عنه الجاحظ في كتاب الحيوان: (. . . لم أر شيئاً قط في رجل وامرأة إلا وقد رأيت مثله في الذكر والأنثى من الحمام: رأيت حمامة لا تريد إلا ذكرها كالمرأة لا تريد إلا زوجها وسيدها، ورأيت حمامة لا تمنع شيئاً من الذكورة كالمرأة لا تمنع يد لامس، ورأيت الحمامة لا تزيف إلا بعد طرد شديد وكثرة طلب، ورأيتها تزيف لأول ذكر يريدها ساعة يقصد إليها. . . ورأيت حمامة لها زوج وهي تمكن ذكراً آخر لا تعدوه. . . ورأيتها تزيف لغير ذكرها وذكرها يراها، ورأيت الحمامة تقمط الحمام الذكور ورأيت الحمامة تقمط الحمامة. . .).
إلى آخر ما قال وهو صواب:
ولا ندري هل ذم الحمام أو أثنى عليه حين قال إنه يشبه الناس في أطواره ذكوره وإناثه.
فقد يكون ذلك غاية الذم في عرف قوم وغاية الثناء في عرف آخرين!
ولسنا نختم هذا المقال قبل أن نستوفي سيرة الحمام كما عرضت خلال الزيارة الحجازية إما بمكة أو خلال الطريق.
فقد كان الحمام ذات عشاء بعض صحاف المائدة على اليخت (المحروسة) أثناء عودته الأولى من جدة إلى السويس، فعلمنا أن جلالة الملك عبد العزيز لا يأكل منه ولا من السمك على اختلافه إلا في النادر القليل.
وأراد صاحب السعادة مراد محسن باشا أن يوفق بين رغبة الملك عنه ورأي بعض الفقهاء في تحريمه، فقال: أن أناساً من المتشددين يحرمون أكل الحمام الذي يربى في بروج الحقول والغيطان فصمت جلالة الملك وتردد ثم سأله: ولم يحرمونه؟
قال مراد باشا: لأنهم يتركونه يأكل من مال غيرهم ولا يطعمونه من عندهم، فحرمه أولئك الفقهاء كما يحرمون مال (الغير) المأخوذ بغير علم من أصحابه.
وكنا نحسب أن هذا التشدد مما يرتاح إليه فقهاء نجد لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب منسوب إلى التشدد فيما يترخص فيه عامة الفقهاء.
ولكن جلالة الملك ظل على تردده والتفت إلى أخيه صاحب السمو عبد الله بن عبد الرحمن كمن يستفسر رأيه في هذا التحريم.
فقال سمو الأمير: لا حرج في أكله وما أرى وجهاً لتحريمه ولا قولا يعتد به في ذلك، وإنما حكمه حكم العصافير التي تأوي إلى أشجار الناس وتأكل من حيث أصابت الطعام.
فعرفنا شيئاً جديداً من مذاهب أهل نجد في التحريم والتحليل، فهم لا يأخذون بكل تشديد ولا يعزفون عن كل ترخيص، وأن كانت لهم أقوال يخالفون بها جمهرة المتشددين والمرخصين.
وأطراف من هذا أن رئيساً من رؤساء الحكومة السعودية سأل الباشا: أهم يحرمون من الحمام الـ أو الـ لان الأول يأوي إلى البيوت والثاني قلما يأوي إليها وأن عرفت الأمم القديمة استئناسه في بعض البلدان.
فكان هذا السؤال مما لم يخطر على البال، قبل الاستدلال على الحرام والحلال.
عباس محمود العقاد