انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 656/من ذكريات بغداد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 656/من ذكريات بغداد



للأستاذ علي الطنطاوي

ما الذي هاج في نفسي هذه العشية ذكر بغداد، ونشر أمام عيني ما انطوى من ذكرياتها وما مات من أيامها؟ ما الذي أرجعني إلى تلك الليالي حتى كأني - لفرط ما تشوقت إليها، وأوغلت في أذكارها - أعيش فيها؟ أي سحر فيك يا بغداد جذب قلبي إليك، فلم أنْسَك إذ أنا في بلدي الحبيب، ولم أزل أحنّ إليك وأشتاق؟

بغداد. . . يا بغداد، عليك مني سلام الود والحب والوفاء، على المعظّم على الصُّلَيخ على الكرّادة على الكرخ سلام الفؤاد المشوق الولهان، على ليالينا (بين الرصافة والجسر). ما كان أحلى تلك الليالي! كنت أشكو فيها ألم الغربة وأحن إلى الوطن، فصرت في وطني أحن إلى تلك الغربة ولياليها، وما ظلمني موطني وما أنكرت، وما كنت لأذمّه صادقاً فكيف أذمه بما ليس فيه، ولكنها هي الدَعة، مللتها واجتويتها: إني أشكو ألم الراحة، فأعطوني به راحة الألم، ذلك الألم العبقري الذي يفتح القلوب بآيات الشعر، فإني منذ فقدته لم أعد أحسّ بأنني ذو قلب!

على الرستمية. . . ألا تزال الرستمية جنة من جنان الأرض، حافلة بالعاشقين وبالحور العين، أم طاف بها طائف من هذه الحرب فجفت خمائلها وهجرها قاصدوها؟ على الصالحية. . . بروحي صالحية دمشق وصالحية بغداد. على (قهوة المطار)، على ظبائها على جآذرها ألف سلام.

على الجسر. . . يا جسر بغداد، كم جمعت وفرقت، ماذا رأيت وسمعت، كم وصلت بين قلوب وقطعت، أنت الصلة بين ماض لنا كان أعز من النجم وأسمى، وآت لنا سيكون أسمى من النجم وأعز. يا جسر بغداد، يا مربع الحب والأدب والمجد، يا من كنت سرة الأرض، وكنت ليَ مسرّة القلب، عليك مني ألف سلام.

يا ربوعاً تركت فيها قطعاً من حياتي، وخلقت فيها بقايا من فؤادي، ماذا صنعت بفؤادي وحياتي يا ربوع؟!

ويا دارنا في (الأعظمية) من حلّ فيك بعدنا يا دار؟ وهل صوّح لبُعدنا زهرك أم ضحكت من بعدنا الأزهار؟ وهل حفظت آثارنا أم لقد طمست من بعدنا الآثار؟ لقد كنت أ مستقرّي ومثواي، وكان إليك مفرّي من دنياي؛ وكنت شاهدة أفراحي كلها وأتراحي، وكنت مستودع أسراري وأخباري، كتمتها عن الناس إلا عنك، فهل كتمت سرّي هذه الجدران؟ هل سترت ما رأت من نقائصي التي أخفيتها عن الأصدقاء والإخوان؟

ما هذه الدنيا يا ناس؟ هذه الدار التي كنت أفر إليها من رحب الحياة، وزحمة المجتمع، فأغلق بابها علي، وأخلو فيها إلى نفسي، فأحسّ أنها جزء مني، وأنها لي وحدي، صارت غريبة عني، تنكرني وتجهلني كأني لست منها وليست مني وصارت لغيري، فإذا ما جئت أطرق بابها، رددت عنها، أو قبلت فيها ضيفاً غريباً لا أرى إلا ما يراه الضيف، ولا ألبث إلا ما يلبث. . . لا يا سكانها؛ ما أنا بالضيف الغريب، إنها كانت داري، إن لي فيها حقاً، لي فيها ذكريات؛ فيها من حياتي، من أنفاسي، من روحي!

ودار العلوم؟ خبروني سألتكم بحق الإخاء عن ظلال أيامي فيها. سقى الله ظلالها صَوْب القلوب! خبروني، ألا رجل كريم، يحسن إلى هذا البعيد النائي، فيمر بالدار عند مسجد الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، فيصعد إلى الغرفة التي تطلّ من هنا على صحن المسجد المنوّر المبارك، ومن هناك على صحن المدرسة المزهر المشرق، فيحيي عني هذه الغرفة، فإني سكنتها عاماً، كان لي عام دنيا ودين، وفيها جددت طباعي وأفكاري وكونت نفسي.

ثم ليجل عني في هذه المدرسة في حدائقها، وفي صحونها، في ممراتها ودهاليزها، ثم ليصعد سطوحها الواسعة التي تمتد حتى تتصل بقبة المسجد، وتشرف على تلك الحديقة العتيقة، وتلك المقبرة المهجورة، وعلى طريق الكاظمية، فإن لي على هذا السطح ذكريات. . . وإنني إن أنس لا أنس يوم العيد، وقد خلت المدرسة من ساكنيها، فلم يبق فيها غيري، فأوغلت في هذه السطوح، وصعدت حتى انتهيت إلى أصل القبة، ونظرت فإذا أنا على بحر من النخيل، تهتز قممه من تحتي كأنها الأمواج في اللجة الساكنة، وتظهر في فُرَج النخيل طرق الفلاحين، وقد خرجوا مع أطفالهم وأولادهم بثياب لها مثل لون الزهر، ثم تختفي خلال الأشجار، كشاعر سادر أو محب متغزل، ذهب يناجي ذكريات الوصال، ودجلة عند منعطف الصليخ تلوح بعظمتها وجلالها، كأنها سماء من نور ركبت في الأرض؛ وبغداد، بلد الأساطير والأحلام؛ يبدو طيفها على حاشية الأفق البعيدة بقبابها ومآذنها، كأنه (هو أيضاً) أسطورة ساحرة، يقصها الأفق المشرق على الدنيا، وإلى اليمين قباب الذهب من الكاظمية، والقبة الخضراء التي ثوى تحتها رمس مُلك شابّ، وشباب مليك، حين ثوى غازي بن فيصل بن الحسين بن عليّ!

لقد لبثت مكاني حتى شملت الظلمة السكون، وضأت المصابيح في شبابيك المنازل فنظرت. . . إليها، أنا الغريب المنفرد، الذي يمضي عيده وحيداً على سطح المسجد، لا رفيق له إلا ذكريات سعادة ولت تؤلمه وتحزّ في قلبه ذكراها، وحبّ مات وليداً، وفكرت في أمري لو أصابني مرض فلبثت هنا شهراً، فمن ذا يصل إلى؟ من يسأل عني؟ وأي فؤاد يخفق من أجلي بعد أن سكت ذلك الفؤاد الذي كان خفاقاً بحبي، فؤاد أمي، إلى الأبد؟ فنظرت إليها فغبطت أهلها إذ يغلقون أبوابهم على الشمل الجميع، والأهل الحضور، والأنس والسعادة.

ونزلت في طريق الحديقة العتيقة، وإذا أنا أتعثر بحجز فنظرت إليه على شعاع ينحدر إليه من مصباح الشارع، فإذا هو قبر متخلف من المقبرة التي كانت هناك في غابر الأزمان، فامتلأت نفسي بصورة الموت، ولم أعد ألمس في هذه الغصون المخضرة إلا الربيع الماضي الذي مات، ولا أرى من الناس إلا قلوباً ميتة دفنت في صدور أصحابها؛ ولا أجد تراب الأرض إلا ناساً كانوا مثلنا وماتوا. . . فأكلت هذه الأشجار أجسامهم، وشربت دماءهم، فمنه كان زهرها الذي نشم عطره، وغصنها الذي نأكل ثمره. . . ولم أر الدنيا إلا موتاً في موت.

وأممت غرفتي وأنا غارق في بحر من الأفكار السود، فسمعت العٍشاء يرنّ في صفا الليل قوياً عذباً يومض ضياؤه في طيات الظلام، إذ يحمل اسم الله منيراً مشرقاً، فقمت إلى الصلاة، فلما قضيت وخرج الناس، رأيت المؤذن ينادي على عادته بذلك الصوت الممدود: الفاتحة! ثم يغلق المسجد وينصرف، وأبقى وحدي، ليس في المسجد ولا في المدرسة غيري، وبينهما باب من داخل، فأعود إلى غرفتي. . .

وما يكاد يكتهل الليل، حتى سمعت الصوت في المسجد كرة أخرى، ولكنه خرج هذه المرة ضعيفاً وانياً، في نغم حزين، من لحن الصبا، فنظرت من شباكي، فإذا في أرض المسجد الذي اشتمل عليه الظلام ثلاثة مصابيح بترولية خافتة النور، تكشف عن نفر من الناس، ولا يبدو منهم إلا أرجلهم وظلال لهم ممتدة فكأنهم الجنّ، أو كأنه فلم مخيف من أفلام ألف ليلة. . . ثم سمعت تكبيرات الجنازة، فنزلت فرأيتهم يصلون على ميت في نعش.

فسألت: من هذا؟ قالوا: مؤذن المسجد!

فانصرفت لأدوّن في دفتري ما عرض لي ذلك اليوم من صور وخواطر، ثم أضعت الدفتر ونسيت الخواطر والصور. . . وأن في الدنيا موتاً. . .

كذلك أمضيت يوم العيد في دار العلوم، وإني على هذا أشتاقها وأشتهي أن ترجع لي أيامي التي مرت فيها. فيا رحمة الله على أيامي في دار العلوم وعلى من بقي من أهلها السلام!

وإن أنس لا أنس (ليلة البلاط)، يا ليت ليلة البلاط تعود! لقد رجعت أنا وأنور العشية من الأعظمية إلى بغداد، فتركنا السيارات وجفونا الطريق الأعظم، وسلكنا محجّة على رصيف دجلة فسرنا فيها، وكانت تنكشف لنا تارة فنسلكها، وتعتل (طريقها. . .) تارات، فتتيه بين النخيل، وكان النهر أبداً عن أيماننا، يبدو حيناً بصفحته البيضاء المشرقة التي تشبه وعد الوصال، يشرق للمحبّ في ليل الهجران، والأمل البسام يلوح لليائس في غمرة القنوط، ثم يحجبه عنا النخيل ويستره الظلام، كما يخلف المحبوب بدلاله الوعد، وتمحو الحياة بواقعها الأحلام، وتطمس صور الأماني. وكان أنور يحدثني حديث ماضيه فيثير في نفسي عالماً من الذكر الأليمة، كلما نزلت به في أعماق قلبي، ودفنته في هوة النسيان، وحسبته مات. انبعث فجأة، كأنما ولد الساعة، عالم فيه صور أبي وأمي وآمالي وحبي، واستغرقنا في خواطرنا، وغبنا عن حاضرنا، فما نبهنا إلا جندي بحربته المسددة إلى بطوننا وبندقيته الموجهة إلينا، وصاح بنا؛ أن ارفعا أيديكما؛ ففعلنا.

قال: ما أدخلكما حمى (بلاط الملك)، وفي ما أنذركما فلا تقفان؟ لقد هممت أن أرميكما بالنار! وكانت تلم هي الأوامر، ما بعد الإنذار إلا النار، فقلنا: نحن أدبيان، أرأيت أدبياً نفع معه إنذار؛ أو أفاد معه تخويف، ثم إننا برمنا بالحياة لا نرى فيها إلا ماضياً لا سبيل إلى إرجاعه، وأملاً لا وصول إليه، ولو أنت رميتنا لمننت علينا بميتة سهلة، نرجو من بعدها ثواب الشهداء، وإن الموت عسكري درجات، وألوان بعضها أطيب من بعض، وما نظنك سمعت بدعاء الأعرابي الذي سأل الله ميتة كميتة أبي خارجة، لأن هذه الجفوة منك دلتنا على أنك لا تقرأ كتب الأدب. أتحب أن تعرف كيف مات أبو خارجة حتى صار موته أمنيّة؟ أكل حنيذاً، وشرب نبيذاً، ونام في الشمس، فمات شبعان دفأن ريّان!

قال الجندي، ولم يفهم منا شيئاً:

- شنوا أنتو يابه؟

قلنا: نحن معلمون!

فضحك وأرخى سنان بندقيته، وقال: معلمون صحيح، أما غير مخبّلين، (وغير هنا للتأكيد ومخبلين، أي مجانين)! وتركنا نمضي لأن المجنون لا يسأل. . .

تلك هي ليلة البلاط، وإني لا أذكرها إلا أسفت على هذه الميتة الحلوة التي فاتتني، وخشيت ألا أتمكن من مثلها، وأظن أنور آسفاً مثلي، إلا إذا استطاب حياته بعد الزواج وتعليم البنات الأدب. . . أما حياتي أنا فليس فيها لذة تستطاب، وليس فيها ألم يستكره. أعني أنني لست إنساناً يحيا ولكن (شيئاً) يعيش!

مالي كلَّ هذه الليلة ذهني، ولم يسعفني شيطاني؟ مالي أكتب عن بغداد، فلا أذكر من أيامها إلا هذا الحديث التافه، وأيام بغداد، مواسم للمجد وأعياد، ولياليها فرحة الفؤاد، وأسرّة للحب ومهاد، وماضيها مآثر ومفاخر وأمجاد؟

مالي لا أتحدث عن دجلة، ويا طول شوقي إليها، وإلى زوارق المحبين وهي تمضي فيها حالمة سكرى، والأغاني تتراقص على أمواجها ضاحكة مرحى، والسمك المسقوف. خبروني، ألا تزال مرفوعة سقوفه. مشتعلة ناره، أم هوت من هول الحرب الدعائم وانطفأت النار؟

مالي لا أناجي إخواني وتلاميذي الذين عشت دهراً من عمري بهم ولهم، وأسألهم أيذكرون هذا المعلم. . . أم قد مرّ في حياتهم مرور شخص (السينما) ثم تنقضي الرواية، ويسدل الستار، فكأنما لا شخص مرّ بهم، ولا (فِلْم) عرض عليهم؟

أما أنا فاشهدوا يا تلاميذي ويا إخواني أني نسيتكم. أأنسى نجدة وعلياً ونزارَ بن البطل الشهيد، إلا إذا نسى الأدب أولاده؟ أأنسى الأخ الأكبر (بهجة) العراق، وقد طالما قبست الجزْل من فضله، ورأيت الفذَّ من نبله؟ ما نسيت، ولئن كبا بي القلم الليلة، فسأعود إلى الحديث عن بغداد، وما كل مرة يكبو الجواد.

وعلى إخواني وتلاميذي وبغداد وأهلها سلام الله ورحمته وبركاته.

علي الطنطاوي

المدرس (سابقاً) في ثانويات بغداد والبصرة وكركوك