مجلة الرسالة/العدد 656/الفكرة العربية وحاجتها لمذهب سياسي فلسفي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 656/الفكرة العربية وحاجتها لمذهب سياسي فلسفي

مجلة الرسالة - العدد 656
الفكرة العربية وحاجتها لمذهب سياسي فلسفي
ملاحظات: بتاريخ: 28 - 01 - 1946



تعليق على مقال

للأستاذ أحمد رمزي

أثار مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف بعدد (الرسالة) الماضي حول الجامعة العربية وضرورة قيام فلسفة خاصة بها الكثير من الشجون، وأحيا لي ذكرى فترات من الماضي القريب، فرجعت إلى صفحات مطوية من مذكرات يومية وتقارير سياسية، لألمس مرة أخرى المصاعب والمشاكل التي وقفت في طريق الفكرة العربية بمصر، وما لقيه أنصارها من عنتٍ ومصادمة، وما واجه كل مؤمن بها مجاهد لأجلها من صدٍ عنها وتحويل عن طريقها السوي.

ونعيد النظر اليوم إلى ما وصلت إليه وما حققت من أهداف، فنفرح مع الفرحين ونتهلل، وتمتلئ نفوسنا إيماناً من جديد وثقة وأملاً في المستقبل، ونحمد المولى جل وعلا أن ظهرت جامعة الأمم العربية كعامل مستقل من العوامل التي سيحسب لها في شؤون العالم وأموره حساب، وذلك ما أشرنا له ونادينا به وتحملنا الكثير من الأذى في سبيل الوصول إليه.

وكلما رجعت بالبصر إلى الوراء، وقست المراحل التي قطعت، والعقبات التي أزيلت، مع قصر الوقت وضعف الجهود، ازددت يقيناً على يقين بأن نجاح الفكرة العربية بمصر ونضوجها وإيمان الناس بها: هي نفحة من نفحات الله، وإن هذه الحركة المباركة ليست من عمل الإنسان، بل يد الله فوق الجميع، هي التي هيأت لها الأسباب وجمعت لها القلوب، ودفعت بالفكرة دفعاً إلى الأمام فآمن بها جماعات من الناس، واقتنعوا بها أفواجاً، بعد أن كان اللائذون بها يعدّون على الأصابع.

وكان من دلائل الساعة وإرادة الله أنه ما ارتفع صوت ضدها إلا وانضم في النهاية إليها، وما جُرّد قلم لمحاربتها والحط من قٍيمٍها ومبادئها إلا وانطوى تحت لوائها، وأصبح بوقاً من أبواقها، وسيفاً من سيوفها.

فلا فضل لأحد على العروبة بمصر، وإنما هي إرادة الله، ولا راد لحكمه، سبحانه إذا أراد شيئاً هيأ له الأسباب. هذا هو إيماني، وتلك هي عقيدتي.

ومن الناس من يقول: إن الدفعة المصرية نحو العروبة مفتعلة وغير دائمة ولا جذور لها.

ودليلهم على ذلك أنهم يردون أصولها إلى بعض عوامل السياسة الداخلية، فهي في نظرهم تسابق بين فريقين لنيل الحظوة واقتناص الظفر واحتكار الجهاد، وهناك آخرون ممن لا يؤمن بها قطعاً ويرى فيها شراً مستطيراً، فهو ينفر منها على أنها ليست من صنع العرب، وإنما هي من عمل الإنجليز تحمل طابع أيدين وختم وزارة الخارجية البريطانية، ولا سبيل لإقناع الطرفين، وإنك لن تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء.

كل هذا لا يعنينا بقدر حماس الجماهير للفكرة وتشبثهم بها، وبقاء هذا الحماس حياً ملموساً واضحاً لا يعتريه هبوط أو فتور، وإنا لنأخذ على الجماهير أنها سريعة الحماس لأخذ الفكرة والتمسك حيناً من الدهر بها، ولكنها سريعة التسليم بخطأ هذه الفكرة إذا تأخرت عن تحقيق الأهداف العاجلة، وأن آفة الجماهير هو سرعة الانتقال من الغضب إلى الرضا، ومن الحماس إلى الفتور، ثم من الفتور إلى النسيان، فما الذي أعددناه لكل ذلك؟

الجواب على ذلك أننا لم نعمل شيئاً، إذ لا تزال الفكرة العربية في حاجة إلى حشد جميع القوى العليا في العقل والروح، لتكون عنصراً ثابتاً من عناصر الشخصية المصرية المنبثقة من روح الشعب وإيمانه وتاريخه.

ولقد أحسن الأستاذ عبد المنعم خلاف صنعاً حين أثار موضوع فلسفة العروبة لمّا قال: (إن السياسة ليست دائماً ذات إيمان)! إني أسلم بأن دعوته جاءت في وقتها، فله عظيم الشكر والأجر على إثارتها، وأدعو الله أن يوفق العاملين لتلبية هذه الدعوة، وأن تلقى دعوة العروبة من ناحية رجال الفكر ما تستحق من عناية، حتى تخرج لنا فلسفتها الحية التي سوف تملك النفوس والعقول معاً. وأعتقد أنه يسر إن وجد من يشاركه إحساسه، ومن يشعر بشعوره، فقد ورد شيء من ذلك في تقرير بعثتُ به إلى الحكومة المصرية قلت فيه: (إن مبادئ الحركة العربية ودوافعها لم تتبلور بعد التبلور الكافي في شكل مذهب سياسي وفلسفي، كما أن نشاطها وأهدافها واتجاهاتها لم تأخذ بعد القالب الذي يجعل منها عاملاً قائماً بذاته فيحسب له حساب في الشؤون الدولية مستقلاً عن العوامل الأخرى. ولكن القضية العربية عامة - برغم هذا - قد أصبحت حقيقة تاريخية لها وزنها وأهميتها بدليل تقدم الدول المحاربة وغير المحاربة لخطب ود العرب واستمالتهم والمناداة بصداقتهم، فليس من مصلحة مصر تجاهل هذه القضية والإعراض عنها أو الوقوف إزاءها موقفاً محايداً، خصوصاً وأن وراء مصر ثلاثة عشر قرناً من التاريخ العربي لها في حقبتها وأدوارها المختلفة مواقف تاريخية خالدة.

كان ذلك في 12 مارس سنة 1941، حينما أتاحت لي الظروف المساهمة بقسط ضئيل في خدمة قضية العرب، وقد مرت الأيام سراعاً، وحققت الفكرة بعض أهدافها السياسية وأخذت طابع العامل المستقل عن العوامل الأخرى في شئون العالم، ولكن لم تتحقق الناحية الأولى، وهي ظهور الفكرة كمذهب سياسي فلسفي.

فهل نؤمل أن تتبنى مصر هذه الفكرة وتخرجها كما تبنت الناحية السياسية؟

إن أشد الناس تفاؤلاً لم يكن يؤمّل نجاح الفكرة العربية هذا النجاح المشاهد اليوم، خصوصاً في مصر دون سائر البلاد العربية، حيث استمرت عوامل الهدم والتفرقة تعمل بنشاط وحماس ضد كل ما هو عربي لسنوات عديدة بغير أن تلقى أي مقاومة، حتى همدت الروح المصرية العربية المستمدة من عناصر الفتح وجهاد القرون الماضية. ولما كانت سنوات الحرب العالمية الثانية بمثابة فترة لا تقل في أهميتها عن نصف قرن من الزمن، جاء تطور الأهداف السياسية وتقارب الشعوب العربية سريعاً جارفاً لدرجة لم تتمكن العقول من استيعاب وتقدير ما مر حولها من الأحداث والتغييرات المفاجئة.

ولذلك لا تستغرب أن تجد الكثير من شباب مصر يتساءلون: ما هي العروبة؟ وما هي أهدافها؟ كيف تكون عربياً ومصرياً في نفس الوقت؟!

وهي أسئلة ليس من السهل الإجابة عليها، ويصعب إقناع ذويها بالقيم العربية إذا لم تكن إفهامهم وعقولهم وآذانهم مستعدة لقبولها، خصوصاً إذا كان بعضهم يجهل التأريخ العربي جهلً تاماً ولا تستهويه حلقات التاريخ المصري في العهود العربية، أو يكون قد تلقى دروس الماضي على طريقة تجعله يأنف منها كلما اتصلت بالعرب وفتوحاتهم ومدنيتهم وثقافتهم وأثرهم في قيادة العالم وشعوبه، فهو مضطر: إما أن يجدد معلوماته، وإما أن يترك الفكرة لغير سبب يبديه!

ونجد أن الجامعة العربية، وقد اختارت القاهرة مركزاً لها، من أول واجباتها أن تحضّر الرأي العام المصري لذلك، وأن تجعل لهذا النشاط قسماً خاصاً به، ولن تهتم بالناحية الفكرية التي تحدثنا عنها لتبنى بناء ثابت الأركان.

وسوف تسمع أن فريقاً من الناس يستكثر ما تصرفه مصر على الجامعة، أو على بعثاتنا الثقافية في البلاد الشقيقة، وأن فريقاً لا يفهم معنى لحفلات التعارف والتفاهم بين العرب، وذلك كله نتيجة لسياسة التفكك التي فُرضت على المصريين، والتي عملت على قطع الصلات بين حاضرهم وماضيهم، وحصرت آمالهم في دائرة ضيقة، مما يجعل العناصر الإنشائية في البلاد محتاجة إلى بذل مجهود طويل لإزالة آثارها.

ونحن نؤمن بأن عناصر العروبة الكامنة في الشعب المصري لن تفنى بعد اليوم، بل ستخرج وهي أكثر مضاء وقوة وعزيمة، وستحطم هذا الغشاء الصناعي الواهي الذي أحاطتها به سنوات الخمود وسياستها الغاشمة التي أفهمته أنه أمضى آلاف السنين يرزح تحت أغلال العبودية، حتى لا يتعرف على صفحات المجد التي كتبتها العروبة في بلاده، ولكي يعمى عن شخصيته ومجد الآباء والأجداد.

لقد أوحى إلينا مقال الأستاذ عبد المنعم خلاف بهذه الكلمة العابرة عن هذه الحركة التاريخية، ونحن إذ نختتمها نؤمل أن يوالي هو وغيره من كتاب العرب في مصر وبقية البلدان العربية أبحاثهم، ذلك لأن أسس الفكرة العربية وفلسفتها ستأخذ مجهود عدد كبير من المفكرين والباحثين، ولكن أثرها سيكون عميقاً في مصر، إذ ستعيد حتماً للشعب المصري إرادته وشخصيته وتلقنه تاريخه الحي. وسنرى كيف أن الكثير من مشاكلنا الخلقية والقومية والتي تبدو لنا مستعصية الحل، سيسهل علينا مواجهتها على ضوء الأسس الاجتماعية التي تخاطب الوجدان والفكر، وتحرّك القلوب والمشاعر.

إن الفلسفة التي تنير طريق الفرد منا إلى غايته، وتجعل إيماننا بالفكرة العربية وحركتها السياسية وأهدافها إيماناً بصيراً مستنيراً ستقود الشعوب العربية من الظلمات إلى النور، ومن الجمود إلى الحركة، ومن الاستكانة إلى الرفعة، وتعلم الفرد والجماعات معنى الآية الكريمة: (كنتم خير أمة أخرجت للناس). ولمثل هذا فليعمل العاملون!

أحمد رمزي

القنصل العام السابق بسوريا ولبنان