مجلة الرسالة/العدد 655/فرنسيس بيكن لألفرد فيبر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 655/فرنسيس بيكن لألفرد فيبر

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1946



للأستاذ عبد الكريم الناصري

في إنجلترا يتلقى الإصلاح الفلسفي طابع الخلق الأنجلوسكسوني، ويتخذ وجهة تختلف كل الاختلاف عن وجهة الحركة الإيطالية. فالعقل الإنجليزي الوضعي الرصين عديم الثقة بتقاليد الفلسفة المدرسية، وبما تصل إليه الميتافيزيقا المستقلة من نتائج متسرعة. وهو يؤثر التصعيد المتدرج البطيء في طريق التجربة على النظر الإيطالي الذي يبلغ القمة بسرعة، ثم لا يلبث حتى يهن عزمه، ويفقد توازنه، فيهوى في حضيض الشك. ثم إن هذا العقل متوقف عند حقيقة واقعة، وهي أن المدرسيين لم يساهموا قط في تقدم العلوم، وأن هذه الفتوحات الفكرية إنما تحققت خارج المدرسة، بل على الرغم منها.

أجل، فإن العلوم مدينة بنجاحها لا إلى أرسطو ولا إلى أي مرجع تقليدي سواه، بل إلى التأمل المباشر في الطبيعة، والتأثير المباشر للواقع، والفهم الواقعي المشترك. صحيح أن بحاث العلم الجريئين لم يكونوا أقل مهارة في القياس والاستدلال من مناطقه المدرسة، بيد أن استدلالهم يقوم على ملاحظة الواقع.

وكانوا - من جهة أخرى - إذا بدءوا من فرض أو تصور قَبْلي، تحققوا منه بالتجربة، كما فعل كولومبس، ولم يعترفوا بصدقه حتى يظفر بهذا (التصديق) الذي لا مفر منه.

وهكذا نجدنا، من جهة، حيال فلسفة رسمية عاجزة عقيمة، ومن جهة أخرى حيال تقدم مدهش في العلوم. وكان الاستنتاج الذي فرض نفسه على العقلية الإنجليزية العملية، هو وجوب ترك التأمل القبلي والقياس المساء استعماله، والأخذ بالملاحظة والاستقراء.

وهذا الموقف الذي أعرب عنه روجر بيكن في القرن الثالث عشر هو الذي أعلنه من جديد وبشر به ودعا إليه سُّميه فرنسيس بيكن بارون فيرولام (1561 - 1626) في مؤلفاته المختلفة (شرف العلم وتقدمه) و (آلة العلوم الجديدة) وسواهما.

والمشكلة هنا هي أن نبدأ مسعى العقل كله من جديد - أن نبني العلم على أساس جديد كل الجد فإننا إذا رمنا التيقن من طبيعة الأشياء الخفية، فيجب ألا ننشدها في الصحائف والكتب، ولا في ثقات المدرسة، ولا في التصورات السابقة والأنظار القبلية. ويجب قبل كل شيء أن نقلع عن تقليد الأقدمين الذين عاق نفوذهم تقدم المعرفة. فقد كان فلاسفة اليونان - باستثناء ديمقريطس وبضعة وضعيين - قلما يلاحظون، وإذا لاحظوا لم يبعدوا عن السطح. وقد حذا المدرسيون حذو الأوائل فضربوا بالواقع عرض الحائط، حتى ليخيل إليك أنهم فقدوا الشعور به.

هذا، إلى أن معارفنا مليئة بسوابق الأحكام فإن لنا أوهامنا وأهواءنا و (أصنامنا) - أصنام الجنس، والكهف، والسوق، والمسرح - التي نفرضها على الطبيعة، والطبيعة منها براء. فبما أن الدائرة خط منتظم يعجبنا انتظامه، ترانا نستنتج أن أفلاك الكواكب دوائر كاملة. إنا لا نلاحظ أبداً، أو لا نلاحظ إلا أسوأ الملاحظة، فإذا نجا قوم من كارثة خمس مرات، استدللنا من ذلك على أن قوى غيبية قد تدخلت في الأمر، ولم نحسب حسابا لخمس حالات أخرى لم ينج فيها قوم آخرون، لخليق بنا أن نقول كما قال ذلك الحكيم الذي أروه في بعض المعابد ألواح نذور علقها ناس نجوا من الغرق: (ولكن أين صور الذين هلكوا من بعدما نذروا؟). إنا نفترض عللا غائية، ونفرضها على العلم، ونحمل بذلك إلى الطبيعة ما ليس يوجد إلا في الخيال.

إنا بدلا من أن نتفهم (الأشياء) نتنازع على (الألفاظ)، التي يفسرها كل امرئ كما يهوى. إنا على الدوام نخلط بين موضوعات العلم وموضوعات الدين، فلا نظفر إلا بفلسفة مشوبة بالخرافة، ولاهوت مشوب بالهرطقة: (إن الفلسفة الطبيعية لم تلف بعد خالصة غير مغشوشة؛ وإنما هي فاسدة مشوبة بالمنطق في مدرسة أرسطو، وباللاهوت الطبيعي في مدرسة أفلاطون، وبالرياضيات في مدرسة أفلاطون الثانية - مدرسة أبرقلس وأصحابه - مع أن شأن الرياضيات أن تحدد الفلسفة الطبيعية، لا أن تولدها أو تنشيءها).

ورجاء الفلسفة الوحيد في هذه الفوضى من الآراء، ومن الأنظمة القبلية يستقر في الخروج على التقاليد اليونانية والمدرسية، وفي تقبل المنهج الاستقرائي. إن ما تدعوه الفلسفة التقليدية (استقراء) يسير بالتعداد البسيط ويؤدي إلى نتائج غير يقينية، وهو معرض للخطر يأتيه من مثال واحد يناقض تلك النتائج، لأنه يبث فيها استناداً إلى عدد قليل غير كاف من الوقائع. أما الاستقراء الصحيح، منهج العلم الحديث، فإنه لا يسرع من بضع ظواهر متفرقة غير محققة إلى أعم البديهيات، بل يدرس الوقائع والجزئيات في عناية وصبر، ويرتقي إلى القوانين بالتدريج وبغير توقف. وينبغي لنا عند وضع القانون من القوانين العامة: أن نفحص وننظر أنه هل صيغ وفصل بحيث يتسع للأمثلة الجزئية التي استنبط منها فحسب، أم هل هو أوسع وأعم؟ فإن كانت الثانية، فينبغي أن نلاحظ أنه هل يؤيد سعته وعموميته، ويضمن لنا ذلك، بأن يشير إلى جزئيات جديدة؛ فلا نقف عند معروفاتنا السابقة، أو نقبض على ظلال وأشكال مجردة.

من الغلو في تقدير بيكن أن نعتبره خالق المنهج الاختياري والعلم الحديث؛ بل عكس ذلك هو الصحيح، فقد كان بيكن نتاجاً للأحياء العلمي في القرن السادس عشر، وليست دعوته إلا النتيجة، أو قل المغزى الذي استنبطه العقل الإنجليزي من الحركة العلمية. ولكن إذا لم يجز لنا أن نعده منشيءنا لمنهج التجريب والاختبار، فلا أقل من أن نرد إليه فضل انتشال هذا المنهج من الحضيض الذي ألقاه فيه تحامل المدرسيين وإعطائه كياناً قانونياً، إن صح التعبير، بأبلغ دفاع قيل فيه فليس بالأمر اليسير أن نجهر بما يفكر فيه الكثيرون، ولا يجرؤ أحد على أن يعترف به حتى لنفسه.

بل وأكثر من ذلك. فإن (العلم) الاختياري وطرائقه وإن كانت أنشيءت قبل عهد بيكن بزمن طويل، فأنه مع ذلك مؤسس (الفلسفة) الاختيارية، وأبو الفلسفة الوضعية الحديثة، من حيث أنه أول من أثبت، بأفصح القول وأبلغه، أن الفلسفة الحق والعلم الحق مشتركا المصالح، وأن الميتافيزيقا المستقلة عبث لا طائل وراءه. انه، وهو العدو المجاهر بعداوته للروح (الميتافيزيقية)، ليرجو قراءه بصراحة: (ألا يحسبوا أنا نطمع في إنشاء فرقة فلسفية، كاليونان القدامى أو بعض المحدثين، فما نقصد إلى ذلك، وليس من رأينا، بعد، أن الآراء المخصوصة المجردة في الطبيعة ومبادئ الأشياء ذات أهمية تذكر في حظوظ الناس). ومن هنا فهو لا يعارض أرسطو فقط، بل (كل رأي مجرد في الطبيعة)، أي كل مذهب ميتافيزيقي لا يقوم على العلم.

وأيضاً فإنه يميز بين (الفلسفة الأولى) و (الميتافيزيقا). فالفلسفة الأولى تعالج التصورات والقضايا العامة المشتركة بين العلوم الخاصة، وهي (بحسب قسمة بيكن الغريبة (المشتقة من قوى النفس الثلاث): الذاكرة والخيال والعقل) ثلاثة علوم رئيسية: (التاريخ) الذي ينتظم التاريخ المدني والتاريخ الطبيعي، و (الشعر) و (الفلسفة) التي تنقسم عنده إلى اللاهوت الطبيعي والفلسفة الطبيعية، والفلسفة الطبيعية، والفلسفة الإنسانية. أما (الميتافيزيقا)؛ فهي القسم النظري من الفلسفة الطبيعية، وهي تنظر في الصور (بالمعنى المدرسي) والعلل الغائية؛ بينا القسم العملي من الفلسفة الطبيعية - وهو (الفيزياء) بالمعنى اللائق - ينظر في الجواهر والعلل الفاعلية. على أن بيكن لا يعطي (الميتافيزيقا) كبير قيمة؛ ويبدو كأنه يتهكم حين يسمى العلل الغائية (عذارى عواقر)، ثم يخص بها هذه الصناعة. أما اللاهوت الطبيعي فهدفه الوحيد (تفنيد الإلحاد): فإن العقائد موضوعات للإيمان دون المعرفة.

إن هذا الأسلوب، أسلوب التمييز بين العلم واللاهوت، وبين الفلسفة والدين، وبين العقل والوحي؛ يضاد أساليب المدرسة على خط مستقيم. لقد وحدت المدرسية الواقعية القديمة بين الفلسفة واللاهوت. أما بيكن فإنه كالإسميين، يطلب فصلهما إلى أقصى حد ممكن. وهو يبرر كونه طبيعياً في العلم وغيبياً في اللاهوت على أساس هذا التميز المطلق. وقد حذا حذوه في تلك عدد من مفكري الإنجليز.

بيد أن المسافة ليست كبيرة بين إقصاء المغيب عن ميدان العلم، وبين إنكاره وإبطاله: فإن توماس هوبز - من أصدقاء بيكن - يقول بضرب من المادية لا تكاد (محافظته) السياسية تفلح في تغطيته وإخفائه.

(بغداد)

عبد الكريم الناصري