مجلة الرسالة/العدد 655/ذكريات عن أستاذي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 655/ذكريات عن أستاذي:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1946



أمبرتو ريتشي 1879 - 1945

للأستاذ مصطفى القوني

(أمبرتو ريتشي الاقتصادي الإيطالي ذو الشهرة العالمية.

أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة روما، وأحد مؤسسي معهد

الزراعة الدولي. وأستاذ المالية العامة بجامعة فؤاد الأول، بين

سنتي 1928، 1940. وأستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة

اسطنبول بين سنتي 1942، 1945 كان ماراً بمصر، عائداً

من تركيا إلى بلاده، وكان مريضاً وبقى في سرير المرض

أسابيع ومات في القاهرة 30 يناير 1946 ودفن في أرضها).

أعود اليوم بالذاكرة إلى عشر سنين مضت، إلى يوم رأيت أستاذي (أمبرتو ريتشى) لأول مرة، في أول درس حضرته عليه. كنا في مقاعدنا ننتظر. وما هي إلا لحظات حتى أقبل وئيد الخطى، ممتلئ الجسم، قصير القامة، كبير الهامة. وجه أسمر فيه من سمات الشرق أكثر مما فيه من سمات الغرب، ولحية قصيرة فيها من البياض أكثر مما فيها من السواد، وعينان تطرفان وراء منظار سميك، وتنمان عما أضاع صاحبهما من نورهما في جريه وراء نور المعرفة، وكأنما كان عليه ألا يستبدل نوراً إلا بنور؛ ورجل لو رأيته، دون أن تعرفه، لما ترددت في أن تسائل من حولك: من يكون هذا (العالم)؟ هذا هو أستاذنا (أمبرتو ريتشي).

بدأ يعرض علينا موضوع العلم الذي جئنا نأخذه عنه عرضاً سريعاً، وانتهى درسه الأول. وبدا لي أن ليس في كلامه من جديد. وسرت إليه، ونحن خروج من قاعة الدرس، واندفعت أقول له: (لقد درست هذا العلم من قبل، ولست أدري ماذا علي أن أصنع في عامي هذا) قال متسائلاً: (درسته؟ وتعرفه كله؟) قلت: (حق المعرفة) فنظر إليَّ نظرة فيها كثير م العطف وفيها كثير من الإشفاق وقال: (اسمع يا بني! إن لي نحواً من ثلاثين عاماً، لا أكاد أذكر أن يوماً منها قد مر دون أن أفكر أو أقرأ أو أكتب شيئاً في هذا العلم الذي تقول إنك تحيط به. ومع ذلك. . . فإني لا أظن أني أستطيع أن أقول ما تقول).

ومرت الأيام، وتوالت دروس أستاذي ريتشى، وتوالت عنايته بي: فكان يختار لي ما أقرأ، ويسألني فيما قرأت، ويفتح لي آفاقاً جديدة للتفكير والتأمل. وبدأ نطاق العلم ينفرج أمامي، وبدأ طريقه يتشعب، هذا الطريق الذي كان يبدو لي، فيما مضى واضح المعالم بين الحدود. وتزداد صلتي بأستاذي، مع الأيام، ويرى ما أنا فيه من حيرة، ولكنه لا يقول لي عن ذلك شيئاً. ويقارب العام نهايته، ونحن نسير يوماً، وإذا هو يقف ويسألني باسماً: (هل تذكر ما قلت لي بعد درسي الأول؟ ألا تزال تظن أنك تعرف موضوع علمنا كله؟) فخجلت مما كان من اعتدادي بنفسي وقلت له: (لست أدري ماذا جرى. ولكن الذي أدريه هو أني أحس وكأني لم أعد أعرف شيئاً). فضحك وقال: (إني الآن سعيد. لقد أخذت بيدك إلى أول الطريق. لقد بدأت تعرف. إنه حق ذلك المثل الذي يقول، لو عرف الإنسان أنه جاهل لكان هذا قدراً غير قليل من المعرفة. ولكني لست أدري هل تحمد لي ذلك في مستقبل أيامك، أم سوف يساورك الشك أحياناً، وأنت تضرب في هذا الوادي، وادي المعرفة، الشبيه بوادي التيه، فتسأل نفسك: ما الفائدة؟ ما الفائدة من كل ما أضعت من أيام شبابي في الضرب في هذا الطريق الذي لا ينتهي؟).

وإنه ليعبر الطريق ذات يوم فتكاد سيارة تدهمه فيقص على الخبر. وكنت أعلم أنه لم يكن، في ذلك الحين، زوجاً ولا أبا، وأنه لا تربطه بدنياه هذه الروابط التي كنت أظن أنها هي كل ما يفرغ الناس من الموت فقلت له: (كنت أعتقد أنك لا تخاف الموت) ففكر قليلاً ثم قال: (ألا تدري أن بين يدي كتابين لما أتمهما. لو أني انتهيت منهما لكان سيان عندي أن أموت أو ألا أموت).

وتمر السنون وأزداد معرفة بأستاذي، فأرى كيف رفعه علمه إلى حيث لا حدود ولا قيود، إلى حيث يحس جوهر الأشياء الذي يستتر وراء مختلف الصور: صور المذاهب والأوطان والأجناس، التي لا ينفذ إلى ما وراءها إحساس عامة الناس. لقد كان (عالما). والعلم قبس من نور الله، لا شرقي ولا غربي.

لقد طالما تمنيت أن أعود فألقى أستاذي يوماً ما، بعد غيبته عن مصر خمس سنين طوال، فأحدثه عما أصنع بأيامي وعما تصنع بي الأيام. ولكنه يفد إلى القاهرة، فلا أراه على فرط ما كنت أتمنى أن أراه، ثم هو يمرض ويموت دون أن أعلم من الأمر كله شيئاً، ودون أن أستطيع، الآن، شيئاً سوى مثل هذه الكلمات.

مصطفى القوني