مجلة الرسالة/العدد 634/السراب الثاني
مجلة الرسالة/العدد 634/السراب الثاني
للدكتور إبراهيم ناجي
لا القوم راحوا بأخبار ولا جاءوا ... ولا لِقلبك عن ليلاكَ أنباء
جفا الربيع ليالينا وغادرها ... وأقفر الروض لا ظل ولا ماء
يا شافيَ الداء قد أوْدى بيَ الداءُ ... أما لذا الظمأِ القتال إرواءُ
ولا لطائر قلب أن يقر ولا ... لمركب فزع في الشط إرساء!
عندي سماء شتاء غيرُ ممطرة ... سوداء في جنبات النفس جرداء
هوجاء آونةً خرساء آونةً ... وليس تخدع ظني وهي خرساء
فكم سجا الليل إلا هامس قلق ... كأنه نفسٌ في الليل مشّاء
أأنت ناديتِ أم صوتٌ يخيل لي؟ ... فلى إليكِ بأذْنِ الوهم إصغاء
لبيكِ لو عند روحي ما تطير به ... وكيف ينهض بالمجروح إعياء
لمنْ قِيامي وبعثي هذه صورٌ ... لا تصطبي وتماثيلٌ وأزياء
ومعرضٌ أجوف المعنى وأسماء ... مذ آذَنتْنا بهذا البين أسماء
يا ليل! كل نهار ميّت فإذا ... ناديتِ قام كما للبعث إحياء
وليس يبلى نهار في هواك مضى ... هيهات ينسيه إصباح وإمساء
طاب اللقاء به لاثنين فانفردا ... فتى به سقم بادٍ وحسناء
جمالها توبة الدنيا وغُرتها ... كفارة عن ذنوب الدهر بيضاء
وشعرها الفاحم انسابت جداوله ... تكاد تسطع حسناً وهي سوداء
نامت به خٌصلٌ واسترسلت خصل ... لها وللعاج خلف الليل إغراء
توهجتْ شمس ذاك اليوم واتقدت ... كأنها شعلة في الأفق حمراء
تفرق الناس حول الشط واجتمعوا ... لهم به صخبٌ عالٍ وضوضاء
وآخرون كسالى في أماكنهم ... كأنهم في رمال الشط أنضاء
تحَّللوا من قيود العيش وانطلقوا ... لاُ همْ أسارى ولا فيهم أرقّاء
تنزّل الدهر يوماً عن مشيئته ... وحكمه فلهم في الدهر ما شاءوا
هُمُ الورى قبل إفساد الزمان لهم ... وقبل أن تتحدى الحب بغضاء لم يُخلقوا وبهم من نفسهم عِلَلٌ=لكن حضارة هذا العالم الداء
ضاقت نفوس بأحقاد وقد سلمت ... لو أنها كسماء البحر روحاء
ما لي بهم أنتِ لي الدنيا بأجمعها ... وما وعتُ ولقلبي منكِ إغناء
لو كان لي أبدٌ ما زاد عن سنةٍ ... ومُدّة الحلم بالجفنين إغفاء
أرنو إليك وبي خوفٌ يساورني ... وأنثنى ولطرفي عنكِ إغضاء
إذا نطقتُ فما بالقول منَتفَع ... وإن سكت فإن الصمت إمشاء
أحبك القلب حباً ما هتكت له ... سرّا ولا مستطاعٌ فيه إخفاء
وأّيما خطرة فالريح ناقلةٌ ... والروض حاكٍ لها والأيك أصداء
يا ليل! مَنْ علْم الأطيار قصتنا ... وكيف تدري الصَّبا أنا أحباء
لما أفقْنا رأينا الشمس ماثلة ... إلى الوداع وما للبين إرجاء
شابت ذوائب وانحلت غدائرها ... شهباء في ساعة التوديع صفراء
مشى لها شفقٌ دام فخضبها ... كأنه في حواشي الشعر حناء
يا من تنفس حرّ الوجد في عنقي ... كما تَنّفسُ في الأقداح صهباء
ومن تنفستُ جر الوجد في فمه ... فما ارتويتُ وهذا الريّ إظماء
ما أنتَ عن خاطري بالبعد مبتعد ... ولن تُواريك عن عينيّ ظلماء
ناجي