مجلة الرسالة/العدد 63/شخصية ابن خلدون في كتاب الأستاذ محمد عبد الله

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 63/شخصية ابن خلدون في كتاب الأستاذ محمد عبد الله

مجلة الرسالة - العدد 63
شخصية ابن خلدون في كتاب الأستاذ محمد عبد الله
ملاحظات: بتاريخ: 17 - 09 - 1934


عنان

للأستاذ مصطفى عبد اللطيف السحرتي

هيأت لي فرصة حسنة قراءة كتاب الأستاذ عنان الأخير عن ابن خلدون وتصفح مقالات بعض كتابنا المصريين في التعليق عليه، وبخاصة مقال الدكتور هيكل والأستاذ العقاد. وقد لفت نظري في مقال هذا الأخير ملاحظة تتضمن أن عنانا لم يتناول شخصية ابن خلدون في كتابه! ولعل الذين درسوا الكتاب يذكرون أن كل فصل من فصوله حوى مادة غريزة عن هذه الشخصية، وإن لم تجمع هذه المادة في فصل مستقل.

فلقد أفاض المؤلف كثيراً في ذكر صفات ابن خلدون الخلقية والعقلية أي في العناصر المهمة التي تقوم عليها كل شخصية. ولعل كتابه وعى من هذه الصفات أكثر مما وعى عن تراثه الفكري الذي لازال الكثير منه مبثوثا في طي مجهول.

أبرز الأستاذ عنان صورة تقارب الحقيقة من صفات ابن خلدون المنيرة والمظلمة أبرزها كما هي بين النور والظلمة، كما يفعل النابهون في كتابة التراجم. ووقف من شخصيته موقفاً نزيهاً.

فلم يقف منه موقف المحامي الذي يدافع عن الحقيقة حيناً، ويستخدم فصاحته في الظفر أحياناً، بل وقف موقف القاضي النزيه الفطن الذي لا هم له إلا الوصول إلى الحقيقة، والحقيقة دون سواها. وهذا هو موقف المؤرخ العلمي.

فها نحن أولاء نراه لا يقطع برأي في خلال ابن خلدون حتى يرجع إلى الثقات الأذكياء من المؤرخين، ويتخذ مقاييسه في الحكم من أعماله وتصرفاته. ونراه أيضاً يربأ بضميره أن يطاوع بعض الكتاب في الزراية بابن خلدون ونسبة القبيح إليه، لئلا يكونوا قد اندفعوا في هذا السبيل جريا وراء الانفعال الأعمى أو العاطفة الهوجاء. وبخاصة إذا علمنا أن لابن خلدون اعداء حداداً أسرفوا في ذمه، وتدفقت أقلامهم في الطعن عليه غيره منه وحقداً.

وقد حفل الكتاب بذكر صفات ابن خلدون الخلقية والعقلية إلا أنه مَرَّ مَرَّ الكرام على صفاته الجثمانية ومظهره الخارجي. فقد نقل إلينا المؤلف عن السخاوي أن ابن خلدون كان فصيحاً مفوهاً جميل الصورة، ونقل عن ابن حجر أنه كان يتمسك بزيه المغربي، ولم نعثر الكتاب على شيء من ملامح وجهه وسمات جسمه، ولا أعلم ما إذا كانت هناك مادة في هذه الناحية تعمد المؤلف إغفالها لأن بحثها ليس من عمله، بل من عمل الفنان والأديب، أو أنه لم يجد هذه المادة في كتب القدماء كما هي مع الأسف عادتهم في إغفال صفات الجسم، ولعل هذا هو الأرجح.

ومن حسن الحظ أن المؤلف أمدنا بمادة وافرة عن خلال ابن خلدون وخلقه، فنقل إلينا طائفة من أقوال الكتاب الأذكياء أمثال المقريزي والسخاوي وابن تغري بردى، والجمال البشبيشي، والعنتابي، وابن الخطيب، وابن حجر. فذكر أن المقريزي وكان تلميذاً له وسمه بسمات حميدة وذكره بالخير، ولسان الدين بن الخطيب، وكان من معاصريه، نعته بحسن الخلق والطموح وعلو الهمة، وأبو المحاسن بن تغري بردى أشاد بمقدرته ونزاهته في ولاية القضاء بقوله: (إنه باشر القضاء بحرمة وافرة وعظمة زائدة وحمدت سيرته) وأبو المحاسن من ثقات المؤرخين المصريين.

إلى جانب هذه الصورة النبيلة لابن خلدون نجد أقلاما ضئيلة مسمومة تشوه صورته وتبهت عليه، وتزري بخلقه، وترميه بالتهمة المؤذية الجارحة. فالعنتابي مثلاً ذكر أن ابن خلدون كان يتهم بأمور قبيحة (ص94) - والجمال البشبيشي اجترأ بقوله إن ابن خلدون كان في أعوامه الأخيرة يشغف بسماع المطربات ومباشرة الأحداث، وأنه تزوج امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط! (ص94).

جمع الأستاذ عنان هذه الأقوال وعلق عليها بقوله: (إنها أقوال تنم عن خصومة مضطرمة، ومبالغة في الانتقاص تنحدر إلى معترك السباب والقذف) وقد يكون الأستاذ محقاً في هذا التعليق لأن نسبة أمثال هذه التهم إلى هذا العبقري بلا سند، مما لا يقبله الضمير النزيه، وقد تكون هذه التهم أراجيف أذاعها الكاشحون عن قصد وتعمد ولا ظل للحقيقة فيها، فليس على الأستاذ المؤلف من غبار إذا حكم حكمه الحاسم، واحتقر هذه التهم كي لا يجري الوهم إلى تصديقها، وتصير في الأذهان اعتقاداً وهي مجرد إرجاف ومراء.

ومع هذا فقد أورد المؤلف كثيراً من صفات ابن خلدون غير المحمودة، واعتمد في إيرادها على أقوال ابن خلدون نفسه وأعماله، فلقد نعى عليه خلتين: أولاهما تلونه ووصوليته، وثانيتهما كبرياؤه وصلفه. أبرز هاتين الخلتين إبرازاً جلياً، فانه ليقول في القسم الأول من كتابه أن ابن خلدون كان من عباد الحوادث، وكان ينتهز الفرص ويسعى لها بأي الوسائل (ص 28) مهما نافت الوفاء والولاء والعرفان (ص 48) وجلا هذه الخلة في مكان آخر من الكتاب قال: (وكان ابن خلدون يصدر في خططه وأعماله عن احتقار عميق للعاطفة والأخلاق المرعية، وكان يسيره مثل ذلك الروح القوي الذي أعجب به مكيافللي فيما بعد.) وأشار في كثير من المواضع إلى خلته الثانية من خلاله البارزة وهي خلة الكبرياء، وهذه الخلة قد تدل على عزة النفس وعظمتها فتكون خلة محمودة، وقد تكون متغالية فتصير كريهة مذمومة، ولقد أيد المؤلف تخلق ابن خلدون بها في بعض الأوقات وأنها كانت سبباً من الأسباب التي جعلت كثيراً من المصريين يناصبون الرجل العداء.

ومن دلائل هذه الخلة ما يقوله البشبيشي من أن ابن خلدون كان يكثر الازدراء بالناس (ص 95) وما يقوله ابن حجر في كتابه رفع الأصر من أن ابن خلدون كان معروفاً بخلق الكبر والازدراء بمقام غيره، وروي أن القضاة دخلوا للسلام عليه حين تولى منصب القضاء فلم يقم لأحد منهم، واعتذر لمن عاتبه على ذلك.

وأورد المؤلف غير هاتين الخلتين البارزتين خلالاً أخرى عول في إيرادها على طائفة من الكتاب أثنت على ابن خلدون وأخذت عليه بعض المآخذ، فمن هؤلاء نذكر ابن تغري بردي وما قاله في المنهل الصافي من أن ابن خلدون كان محباً للمنصب، وما قاله ابن الخطيب الذي وسمه بالفضائل الجمة يأخذ عليه الخفة فيقول: (إنه كان بعيداً عن التأني)، وعلل تحامل رجال الدولة عليه إلى هذه الخلة. وابن حجر نقم عليه سوء الأدب أيام كان قاضياً فقال: (كان فظاً جافي الطبع، وكان يعزر الخصوم بالصفع).

ولم يقتصر المؤلف في سوق هذه الحقائق على أقوال الكتاب السالفين، ولكنه اعتمد في ذكرها على أقوال ابن خلدون نفسه في كتاب - التعريف - وهذا الكتاب هو ترجمة ابن خلدون لنفسه. وهذا التعريف الذي يتركه لنا ابن خلدون عن نفسه وحوادث حياته قطعة فريدة في الأدب العربي، فهو صورة حقيقية ممتعة لتلك الشخصية الممتازة الجريئة، رسمت في كثير من الحرية والصراحة، حتى إنها لتفصح في كثير من المواطن عن خلال صاحبها، وليست هذه الخلال دائماً مما يحمد أو مما تقر الأخلاق الفاضلة، فهناك الكبرياء والزهو والأثرة، وهنالك الطمع وحب التقلب وشغف الدس، وانتهاز الفرص بأي الوسائل، ثم هنالك الجحود ونكران الصنيعة، هذه الخلال كلها أو بعضها نلمحها من آن لآخر ماثلة في أعمال المؤرخ ومواقفه حسبما يقصها علينا بنفسه (ص 140).

وبعد هذا الدرس الطويل الحر لخلق ابن خلدون كشف الأستاذ عنان في الجزء الثاني من كتابه ركناً من أركان شخصية ابن خلدون المضيئة، وهذا الجزء يلقي ضوءاً قوياً على عبقرية ابن خلدون، تلك العبقرية التي صيرته موضع إجلال السلاطين والملوك وذوي النفوذ والجاه، فهاهم سلاطين المغرب والأندلس يخطبون وده، وهاهم بنو عريف يكرمون مثواه وينزلونه ضيفاً عزيزاً مع أسرته بأحد قصورهم أربع سنين، وها هو شعاع العبقرية يسبقه إلى مصر المتحضرة، فيلقاه أهلها بالحفاوة والتعظيم، ويولونه الدرس في الأزهر النابه في ذاك الحين، ثم يتولى بعد ذلك قضاء المالكية عدة مرات، وهاهم الكتاب يجمعون على قوة عقله وحدة ذكائه وعلو تفكيره، حتى أنصفه الحاقدون عليه، فجمال الدين البشبيشي وهو من ألد خصومه اعترف له بالفصاحة والتفوه، وابن حجر الذي زرى عليه خلقه، يظهرنا على ناحية من نواحي عقله يقول: (كان لسناً فصيحاً حسن الترسل وسط النظم، وكان جيد النقد للشعر، وإن لم يكن بارعاً فيه) (ص93).

ولقد كشف لنا الأستاذ عنان عن عبقرية هذا الرجل الفذ وعن شاعريته أيضاً، وأتى بقليل من قصائده، وأبان أن هذه القصائد كان يطبعها طابع المرح الصوفي، وهذه الأبيات تجري بين دفتي الكتاب كالنهر العذب في الأرض المثمرة، ولقد أضاف المؤلف في القسم الثاني من كتابه أراء كتاب الإفرنج في عبقرية ابن خلدون وتراثه الفكري فذكر ما قاله جمبلوفتش من أن ابن خلدون درس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأنه أتى في هذا الموضوع بآراء عميقة (ص152) وذكر أيضاً ما قاله فون كريمر من أن ابن خلدون نثر بيدين نديتين ثمرات تأملاته الناضجة عن سير التاريخ البشري.

وأظن بعد هذا البيان يمكن للقارئ أن يخرج بصورة صحيحة عن شخصية ابن خلدون، صورة لا تشيع فيها ولا تحيز، ظهرت فيها الظلال كما ظهرت فيها الأنوار. وهذا المنحى الذي نحاه الأستاذ عنان في درس هذه الشخصية جدير بالتفات كتابنا المصريين المغرمين بتراجم العظماء، ولعل الذين وقع في وهمهم أن كتاب عنان لم يتناول شخصيته، يصححون رأيهم بعد هذا البيان الموجز.

وأحب قبل أن أختم هذه الكلمة أن أدعو القراء إلى قراءة هذا الكتاب القيم ليتذوقوا فيه حرية البحث ونزاهة الحكم، ودقة الأسلوب وثباته وإيجازه ورزانته.

وأسمح لنفسي بعد هذا أن أهنئ الأستاذ المؤلف على كتابه، فلقد أعجبت به وبخاصة بالفصل الذي عقده عن (ابن خلدون والتفكير المصري) الذي أبان لنا فيه خلق ابن خلدون وأوقفنا على تفكير المؤرخين المصريين في القرن التاسع الهجري. وأعجبت كذلك بالفصل الذي عقده عن (ابن خلدون والنقد الحديث لأعلام الغرب). والذي كشف به عن تفكير ابن خلدون الدقيق الذكي.

وأرجو الله أن يزيد المؤلف قوة ليتم ما أخذ به نفسه من التنقيب عن التاريخ الإسلامي، وحياة أعلام مصر النابهين.

(ميت غمر)

مصطفى عبد اللطيف السحرتي المحامي