مجلة الرسالة/العدد 63/أيدمر المحيوي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 63/أيدمر المحيوي

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 09 - 1934



تتمة للأستاذ أحمد أحمد بدوي

أما الوصف في شعر شاعرنا فهو وإن كان غير مقصود له بالذات يحدثنا كذلك عن بعض نواحي الحياة المصرية، وبعض الجمال فيها، يحدثك عن الطبيعة المصرية في زمن الربيع، فيصفها وصفا دقيقا، ويحدثك عن الاحتفال بوفاء النيل، فيصفه كأنك تراه، ويصف لك الأبنية التي بناها الملك الصالح فيجعلك تشعر بالعظمة والأبهة اللتين تمتعت بهما تلك الأبنية. ويصف لك الجيش المصري فتحس بالمجد المصري والقوة المصرية والشجاعة المصرية التي لا تنثني عن قصد ولا تهزم أمام حصن مهما كان عظيما. قال يصف الجيش المصري الذي فتح دمشق:

جيشا تغص به الأرض الفضاء كما ... تراكم الغيم يوم الدجن ذا زجل

من الكماة التي تطوى ضلوعهم ... على العزيمة والاقدام، لا الفشل

من كل أمضى من الهندي في يده ... عزما، وأنفذ إقداما من الأسل

يكون أثبت يوم الروع من جبل ... راس، وأجول في الصفين من مثل

ولننصت إليه حين يصف لنا الاحتفال بوفاء النيل، وكأنه يصف لنا الاحتفال الذي لا نزال نراه بأعيننا في كل عام، قال:

يوم تجلى الدهر منه بزينة ... لما غدا المقياس وهو مخلق

هو ثالث العيدين إلا أنه ... للهو، ليس على العبادة يطلق

جمعت لمشهده خلائق غادرت ... فيه رحيب البر، وهو مضيق

وعلى عباب البحر من سباحه ... أمم يغص بها الفضاء، ويشرق

كادت تبين لهم على صفحاته ... طرق، ولكن يفتقون ويرتق

ثم مضى يصف الأنوار، ويصف المليك تحف به حاشيته إلى آخر ما وصف به ذلك اليوم، فإذا أنت ذهبت تستمع إليه، وهو يحدثك حديث إبداع عن طبيعة مصر في الربيع سمعته يقول:

الروض مقتبل الشبيبة مونق ... خضل يكاد غضارة يتدفق

نثر الندى فيه لآلئ عقده ... فالزهر منه متوج، ومنطق وارتاع من مر النسيم به ضحا ... فغدت كمائم زهره تتفتق

وسرى شعاع الشمس فيه، فالتقى ... منها ومنه سنا شموس تشرق

والغصن مياس القوام كأنه ... نشوان يصبح بالنعيم ويغبق

والطير ينطق معربا عن شجوه ... فيكاد يفهم عنه ذاك المنطق

غردا يغني للغصون فينثني ... طربا جيوب الظل منه تشقق

والنهر لما راح وهو مسلسل ... لا يستطيع الرقص ظل يصفق

فتمل أيام الربيع، فإنها=ريحانة الزمن التي تستنشق

فهو قد رسم لك بشعره ذلك صورة جميلة للرياض والزهر المتفتح الذي ارتاع من مر النسيم في الضحا فتفتحت أكمامه، وقد كان الندى عليه كحبات العقد فأضحى عليها كالتاج أو النطاق، ثم هذه الغصون المياسة كأنها سكرى والطير يغني على تلك الغصون فتهتز لهذا الغناء طربا، والنهر يصفق فرحا، والشمس تلقى أشعتها على هذا الجمال كله، فيبدو للمرء منظره وأبدع ما في الطبيعة من مناظر الجمال.

4

لشاعرنا المحيوي موشحات عارض بها سواه، وهي تعد بحق من أجمل الموشحات وأبدعها، وأنت تحس في بعض موشحاته بآثار الصنعة اللفظية ظاهرة جلية، وهو حين يعارض سواه في موشحاته يضمن موشحه أول بيت من الموشح الذي عارضه، ولذلك يضطره الحال إلى أن يدع المدح وينتقل منه إلى الغزل على عكس السنة المعروفة لدى الشعراء.

ولقد كان شاعرنا فخوراً بشعره الفخر كله، مملوءا به تيهاً، يعتقد أن شعره يفوق شعر غيره ويسمو عليه حتى قال:

إن القري - وإن تكاثرساكنو ... أفيائه - للعبد فيه الأوحد

وكان أحياناً لا ينشد الممدح قصيدته إلا بعد أن ينشده سواه ليتمكن الممدوح من أن يرى الفرق بين شعره وشعر غيره، غير أنه في بعض الأحيان كان لا يجد مركزه وما يواتيه به الدهر متناسبا مع جودة شعره وبلاغة قوله فيشكو ويلح في الشكوى، ويتألم أشد الألم، ولقد كان شعره فضلا عن عذوبته التي تحس بها جاريا على قوانين النحو والصرف إذا استثنينا بعض أخطاء لا تكاد تذكر، غير أنه قد أخطأ حقا حين قال يهنئ بالعيد:

لا أهنئ مولاي بالعيد إلا ... خوف تعطيل سنة تعتاد

فمن الجهل أن يهنأ بعيد ... من به الدهر كله أعياد

فمع صحة المعنى لا نشك مطلقا أنه ليس من أدب الخطاب أن يقال لأحد لا أهنيك بالعيد في مفتتح الكلام، ولكن شاعرنا لم يعن إلا بالمعنى وصحته بدون نظر إلى جمال الافتتاح وهو ليس أول من هفا تلك الهفوة بل سبقه بها سواه من الشعراء والشعراء المبرزين.

نظم شاعرنا قصيدة طويلة سماها الوسيلة المشفعة في مناقب الخلفاء الأربعة، وهي قصيدة طويلة تبلغ تسعة وسبعين ومائة بيت، عدد فيها مآثر الخلفاء وذكر فضائلهم، وبدأها برأيه فيهم كلهم وهو:

كل من الخلفاء غير محلأ ... عن مورد الشرف الذي لايورد

ولهم سوابق أنزلت كل امرىء ... حيث اقتضاه له التقي والسؤدد

وأقر بعضهم لبعض بالذي ... يسمو به من فضله ويمجد

فمضوا، ولم يتدافعوا حسناتهم ... كل لصاحبه يقر ويشهد

ثم مضى يعدد فضائل كل مبتدئا بأبي بكر، ذاكرا مآثره في الإسلام: فهو أول من آمن بالنبي، ولما مرض النبي أنابه عنه في الصلاة، فكان ذلك من النبي تقليدا له بالخلافة، ولذا كان أولى الناس بها، ولقد جمع أبو بكر أمر المسلمين بعد أن كادوا يتفرقون يوم السقيفة، وحارب أهل الردة حربا موفقا أعاد للإسلام بهجته، ثم حارب الروم والفرس، وكانت خاتمة حسناته أنه ولي الأمر عمر من بعده، وعمر هذا طالما نزل القرآن موافقا لرأيه وما بدا له، كما أن النبي كان يطلب من الله أن يعز الإسلام بدخوله فيه، حتى إذا دخل فرح المسلمون، وجهروا بدينهم بعد أن كانوا يخفونه، لما كان له من المكان له من المكان العظيم بين قومه وعشيرته، حتى إذا ولي أمر المسلمين بعد أبي بكر سهر على الرعية ومصالحها بعين لاتغفل، ففتحت الدنيا في عهده، ودرت الخير الوفير على المسلمين، فإذا أنهى عمر وتحدث عن عثمان ذكر له إعانته للمسلمين، بماله، وصومه وصلاته، وزواجه من بنتي النبي وفضله يوم جيش العسرة، ويوم بيعة الرضوان، ثم رد على من ينتقصه بقوله:

نطق الكتاب بفضله فمن الذي ... يرتاب فيه جهالة أو يجحد إلا كفور للهدى متنكب ... أو جاهل في غيه متردد

ولكبر ما نقموا عليه ضلة ... قربى تبر، وهفوة تتعمد

ثم انتهى إلى علي فحدثنا عن قربه من النبي، وتربية النبي له، وزواجه من ابنته، وإسلامه صبيا فلم يدنس الكفر نفسه، ولم يسجد لصنم طوال حياته، ثم وصف عدله، وعلمه، وتواضعه، وعبادته وورعه وزهده وشجاعته وبلاغته، وكل هذا الحديث عن الخلفاء الراشدين ينطق أن شاعرنا سني يفضل الخلفاء كلهم لا شيعي يقدم علياً على سواه بل هو يرتبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، غير أنه مما يلاحظ أنه أثنى على أبي بكر وعمر بأعمالهما بعد الخلافة ثناءً مستفيضاً، حتى إذا جاء إلى علي وعثمان أثنى عليهما بفضائلهما الشخصية أكثر مما أثنى عليهما بأعمالهما بعد الخلافة، ربما يكون منشأ ذلك أن أبا بكر وعمر كانت أعمالهما بعد الخلافة في تثبيت دعائم الإسلام ونشر دعوته أكثر من زميليهما، ومن أجل هذا كان الثناء المستفيض.

قبل أن نختم حديثنا عن صاحبنا المحيوي نريد أن نشير إلى أنه كان ناثرا مثلما كان شاعرا، غير أن نثره لم أعثر عليه، ولعلي أوفق يوما ما إلى الاطلاع عليه ودراسته، ولقد ألف كذلك كتابا أهداه إلى ولي نعمته محي الدين محمد بن سعيد لا نعلم اسمه وإن كنا نستطيع أن نفهم موضوعه حين نقرأ قوله واصفا إياه.

العبد أيدمر تطلب تحفة ... تكسي القبول لسيد الأصحاب

فرأى أجل هدية تهدى له ... ذوب النهى، ونتائج الألباب

فأجال في روض القرائح فكره ... ثم انتقى منه لباب لباب:

من طيب نادرة، ولطف فكاهة ... وبديع بادرة، وحسن خطاب

وسوائر الأمثال قد وشحتها ... فيه بمعجز سنة وكتاب

والجد موصولاً بهزل ينشط ال ... قارئ، ويطرب أيما إطراب

ونوادر الحكماء والبلغاء، وال ... خطباء، والشعراء، والكتاب

وجمعت فيه إلى سلامة رقة ال ... حضر اللطيف جزالة الأعراب

فأتاك كالحسناء قد لبست على الإ ... ثراء ثوب نضارة وشباب

والروضة الغناء أهدت نشرها ... ريح الشمال ضحى غداة سحاب فهو مجموعة فيها النوادر والفكاهات، وفيها الأمثال والحكم، وفيها طرف من نثر الخطباء والكتاب، وبعض من شعر الشعراء، فأنت تنتقل فيه من جد إلى هزل ومن هزل إلى جد، فتطرب ولا تسأم القراءة، وتلك طريقة معروفة لدى مؤلفي اللغة العربية فهم من قديم قد استنوا تلك السنة وساروا عليها في مؤلفاتهم.

6

لم نهتد إلى تعيين عام وفاته كما ضن علينا التاريخ بمعرفة عام ولادته، غير أنه مما يروى عنه أنه كان لطيف المحضر فاضلا مهذبا، أحضر ديوان شعره إلى ابن العديم وكان قد حضر رسولا عن السلطان الملك الناصر فتصفحه وأعجبه، وكتب على الديوان:

وكنت أظن الترك تختص أعين ... لهم إن رنت بالسحر فيها وأجفان

إلى أن أتاني من بديع قريضهم ... قواف هي السحر الحلال وديوان

فأيقنت أن السحر أجمعه لهم ... يقر لهم هاروت فيه وسحبان

وعسى أن يواتينا الزمن يوما بكل شعره ونثره، وتاريخ حياته مفصلا فندرسه دراسة مستفيضة تليق ببلاغته.

أحمد أحمد بدوي المدرس المنتدب بثانوية نابلس