انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 627/ديوان الشوق العائد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 627/ديوان الشوق العائد

مجلة الرسالة - العدد 627
ديوان الشوق العائد
ملاحظات: بتاريخ: 09 - 07 - 1945



(للأستاذ علي محمود طه)

للآنسة فدوى عبد الفتاح طوقان

في كتاب العمدة لابن رشيق: (قال بعض الحذاق: إنه ليس للجودة في الشعر صفة، إنما هو يقع في النفس عند المميز: كالفرند في السيف، والملاحة في الوجه).

هذا قول كله صدق وكله حق، فنحن مهما اجتهدنا في تعريف غيرنا بنواحي الجودة في الشعر الجيد فلن نستطيع أن يأتي بصورة صادقة تامة لما نحسه في نفوسنا من جودة ذلك الشعر.

وهذه حالي مع شعر الشاعر علي محمود طه، فإنني لأقرأه فإذا هو يوافق نفسي، وإذا هو يقع منها موقعاً قلما يكون لغيره من شعر العصر. ولست أدري مبعث ذلك على وجه التحقيق، أهي روعة الشعر أم تجاوب الذوق أم كلاهما معاً.

وهاهو ديوانه الأخير (الشوق العائد) بين عينيّ فيا لها من عوالم حافلة بالتهاويل زاخرة بالصور الحية تبتدعها لطافة شعور الشاعر، وصفاء فكره، ورفيع ذوقه وبراعة فنه؛ ولله هذه الصفحات الرائعات من حياة ذلك القلب الذي لا يقر له قرار، فهو لا يكاد ينسى أمسه بآماله وآلامه حتى يعوده عيد من الشوق جديد: الله لقلوب الشعراء! وهل كانت يوماً إلا هكذا؟ وهل تملك إلا أن تلتفت إلى أمسها رضينا أم لم نرض؟. ولقد ترقرقت في عينيّ دمعة حين قرأت قوله:

فقالت: ما حياتك؟ قلت حلم ... من الأشواق أُثر أن أطيله

ما أروعها حياة! ولكن يا رحمة للنفس الشاعرة إذا هي لم تجد لطيوف أحلامها الأفقَ الرحيب لتنطلق فيه خفيفة الأجنحة، فما تكاد تلك الطيوف تصفق بأجنحتها وقد همت بالتحليق حتى تصدمها قيود وسدود تعترض الأفق من هنا وهما فإذا الأجنحة تتكسر؛ وإذا الطيوف تختنق من الضيق فتتهاوى صريعة مهيضة، وتستيقظ النفس الشاعرة الحالة لتواجه الحقيقة، الحقيقة التي ترمي فتصيب، وتصيب فتقتل. وما هي حياة الشعراء إذا حيل بينهم وبين أحلامهم وأطيافهم؟.

ونظرة في قصيدة (يوم الملتقى) وهي من غرره الاجتماعية تعيد إلى أذهاننا ما تنبأ به المرحوم (الزهاوي) لشاعرنا من أنه سيحمل بعد شوقي لواء الشعر العربي. حقاً ما كان أزكن الزهاوي رحمه الله؛ أولا فما هذا الشعر الرصين وما هذه الديباجة لمشرقة، وما هذه العصا السحرية التي تمس القلوب إذا خاطب الشرق في اجتماع زعمائه لتأليف الجامعة العربية:

فَقْدُ شراعك لا تسلم أزمته ... لغير كفك، إن الريح هوجاء

يا شرق مجدك إن لم ترس صخرته ... يداك أنت فقد أخلته أهواء

يا شرق حقك إن لم تحم حوزته ... صدور قومك لم تنقذه آراء

والكون ملحمة كبرى جوانبها ... دم ونار وإعصار وظلماء

بلى، ولئن لم ينزل الشرق هذه الملحمة، ملحمة الكون الكبرى مزوداً بعدته ليهلكن.

ويا لتلك الريشة التي تضرب على أشد أوتارنا حساسية حين تستصرخ العصبة بشأن فلسطين فتهزنا هزاً:

أحلها ذهب الشاري وحرمها ... عصر به حرر القوم الأذلاء

حربان أثخنتاها أدمعاً ودماً ... تنزو بها منهجة كلمي وأحشاء

تطلعت لكم ولهى، أليس لها ... على يديكم من العلات إبراء

الله فيك يا فلسطين الشهيدة.

ولست هنا بسبيل أن آتي على كل قصيدة في ديوان الشوق العائد، وليس ما ذكرت هو خير ما في الديوان، كلا، فإن قصائد الشاعر تمتاز كلها بالجمال روحاً وجسماً، فالمعنى الرائع في اللفظ المنتخب. وإن الملاح التائه ليصور لنا بحرارة وصدق ما تهتز له خوالجه، وإن شعره لينبض حياة بما فيه العناصر الإنسانية التي تشيع في كل ما ينتجه لنا من روائع، ومن هنا يتغافل شعره في نفوسنا ومن هنا يخبأ شعره في قلوبنا.

تحيتي إليك يأ أيها الشاعر الخالد وإعجابي الذي لا ينتهي.

(نابلس)

فدوى عبد الفتاح طوقان