مجلة الرسالة/العدد 626/البلاغة العصرية واللغة العربية
مجلة الرسالة/العدد 626/البلاغة العصرية واللغة العربية
تأليف الأستاذ سلامة موسى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 2 -
العقاد سلفي الذهن في لغته، وأسلوبه، وتفكيره، وسلوكه - 99 في المائة من كتابنا كذلك - لكلاسيه داء مصر والشرق - كتابنا أعداء الكلمات الأعجمية
- 1 -
(وقد التفتُّ إلى عبارة قالها الأستاذ عباس محمود العقاد بشأن الاشتراكيين في مصر لها مناسبة هنا. إذ هم يدعون على غير ما يحب إلى اللغة العامية، وقد حسب عليهم هذه الدعوة في قائمة رذائلهم؛ لأنه هو يعتز بفضيلة اللغة الفصحى، ويؤلف عن خالد بن الوليد أو حسان بن ثابت، ولكنه غفل عن التفسير لهذه الظاهرة الاجتماعية وهي أن الاشتراكيين يمتازون بالروح الشعبي ويعملون لتكوينه، وهم لهذه السبب أيضاً مستقبلون وليسوا سلفيين. . . في حين أنه سلفي الذهن في لغته وأسلوبه وتفكيره وسلوكه، وليس الأستاذ العقاد وحيداً في هذه السلفية، لأني أعتقد أن 90 بل ربما 99 في المائة من كتابنا سلفيون) ص 11
(والكلاسية في مصر كما نراها في أيامنا ليست لغوية أدبية فقط بل هي اجتماعية مزاجية ذهنية، فدعاتها مثلاً يهتمون كثيراً جداً في التأليف عن الخوارج في أيام علي بن أبي طالب، ويهملون التأليف عن الخوارج على الديمقراطية في أيامنا، وهم يدرسون رجال الأمس والأمس هنا قبل 1000 سنة ميلادية ولا يدرسون رجال اليوم) ص 120
- 2 -
يرحم الله أبا جعفر المنصور، فقد قال: (إنه لم يُسرِ أحد قط منكرة إلا ظهرت في آثار يده أو فلتات لسانه) وقد استعلنت المنكرة التي يكتمها الأستاذ سلامة في غضون كلامه، وأطلت برأسه حين دعا إلى (الاشتراكية) في اللغة، وحين غاظه أن يثلب العقاد (الاشتراكية)؛ لأنها تدعو - فيما إليه تدعو - إلى التدلي في اللغة، والهُوِىّ بهذا الفن الجميل من سمائه إلى منحدر الدهماء والطغام.
ثم تجرّم على العقاد فزعم أنه متحجر اللغة، عتيق الأسلوب، رجعي التفكير، محافظ في سلوكه، وكأنما لم يشف غله هذا التخصيص فتخرص على 99 في المائة من كتابنا بأنهم كذلك آسنون، وما دليله الذي يجول به ويصول؟ دليله أنهم يكتبون عن خالد والخوارج ولا يكتبون عن رجال اليوم.
يالها من دعوى خرقاء، ويالها من حجة جوفاء.
أيذم أسلوب العقاد وهو ما هو سلاسة وسلامة ونصاعة؟
أذنب العقاد في نظر الناقد أنه يأخذ قامه بقواعد اللغة وروحها فلا يلحن، ولا يخطئ، ولا يسف في تعبير، ولا يحتاج إلى من يصحح له ما يكتبه كما يحتاج غيره؟
لقد كتب العقاد في السياسة والأدب والتاريخ والقصة، وأسلوبه في هذه الفنون كلها فارع بارع ممتع.
ثم كيف يتهم العقاد بأنه آسن التفكير؟
لقد ألف عدة كتب، وكتب مئات المقالات في شتى الموضوعات فلازمته فحولة الفكر، وصاحبته سمة الاستقلال في الرأي، وما وجدناه مرة يتضاءل كما يتضاءل غيره أمام رأي قديم أو فكرة لعالم أوربي، وحتى العلامة (فرويد) الذي يتعبد بآرائه الأستاذ سلامة قد نقده العقاد، والعلامة (داروين) الذي يشايعه الأستاذ سلامة في كل نظرياته قد خالفه العقاد، وبهذا الروح القوي الحر كتب العقاد ما كتب في القديم والجديد وما معنى أن العقاد سلفي في سلوكه؟
أيعيبه لأنه ليس من أهل الخلاعة والمجانة واستباحة اللذات جهرة كما يفعل الممرورون من أدعياء الأدب والفن؛ لأن الشذوذ والانحراف الخلقي في نظرهم وثيقة بأنهم ناس ليسوا كالناس؟
أم يعيبه لأنه رجل يؤمن بالرجولة فلا يكتب مرة ليتملق المرأة ويزعم لها أنها جدير بالمساواة، خليفة بأعمال الرجال؟
أم يعيبه إذ لم يخرج على الأمة بصيحة تحقر أدبها، وتبلبل لغتها، وتزدري خصائصها وأخلاقها، وتمتهن مفاخرها وأبطالها؟ لست أدري.
- 3 -
وليست هذه العيوب مقصورة على العقاد وحده، بل يشركه فيها 99 في المائة من كتاب مصر، فمن بقى إذن؟ لم يبق خاليا من العيوب إلا الأستاذ سلامة ومحرر بعض المجلات الشعبية، فهم أرباب الأساليب والأفكار المرتضاة عنده؛ لأنهم يسفون في تعابيرهم، ويتوخون العامية في كتاباتهم، ويختارون المجازات (البلدية) والكنايات (الشعبية) والموضوعات التافهة المبتذلة.
يا ويح الأدب العربي في هذا العصر إن كان قد حرم بيان (الزيات) الرفيع، وأسلوبه الفياض بالحياة، الفياح بعبير الجمال وعطر الفن.
وويل للأدب في هذا العصر وفي كل عصر إن استكان رُواده وشداته لدعوة الأستاذ فآثروا الفسولة في تعبيرهم، والاتضاع في تصويرهم والتدلي في لغتهم، إذن لبرئ الأدب منهم، وإذن لَعُمِّيت عليهم وجوه الجمال في تراثهم من أدب الأسلاف، وإذن لعَمُوا عن السر في بلاغة القرآن وإعجازه، وهذا كله بعض ما تقترفه هذه الدعوة العاسفة الهدامة.
- 4 -
وكتابنا كلهم متخلفون رجعيون في رأي المؤلف؛ لأنهم يُعَنُّون أنفسهم بالبحث في الماضي، وتنضح أقلامهم بدراسة تراثنا المجيد، ولا يكتبون عن الحاضر شيئاً.
فأي حق في هذا وأي صدق!
لقد كتب العقاد عن الماضي بروح العصر، وثقافة العصر، والطرق الحديثة في البحث والتحليل، وأسهم في بعث مفاخر هذه الأمة التي أرادت العالم أحقاباً طوالاً، وشارك في إحياء الأمثلة العليا من بطولتها؛ لأن الأمم لا تنهض بحاضرها وحده، بل لابد لها من ماض مجيد يلهمها وينفخ فيها من روحه قوة وحيوية، وهذا ما فعلته الدول الناهضة الغالبة اليوم، وليس أهدم للأمة المتوثبة للمجد من تنكرها لماضيها الحافل، وغفلتها أو تغافلها عما لها من عظائم وجلائل، واعجب عجباً لا ينقضي ممن دعا إلى الفرعونية مراراً وقد انقطع ما بيننا وبينها من نسب، ثم لما بارت دعوته أخذ يعيب الذين يدرسون العرب، ويكتبون عن أبطال العرب كأنه يرتبط بالفراعنة بنسب ثم لا يصله بالعرب سبب!! وربما دار بخلدي أنه يلحي العقاد وهيكل وطه والحكيم وغيرهم لأنهم كتبوا عن النبي محمد عليه الصلاة والسلام كتباً تخضع لطرائق البحث الحديث ولكنهم جلوا نواحي من عظمته، وابرزوا طرفاً من سمو رسالته، ولم يجمح بأحدهم قلمه فيتقول أو يتهجم، ثم كتب العقاد وهيكل في أبي بكر وعمر وخالد، وكتب العقاد في علي والحسين وعائشة، فلا والله ما وجدوا إلا صحائف من ذهب تتبلج بالعظمة والبطولة والنبالة، وما قالوا إلا ما قرءوا في هذه الصحائف الخالدة، ولو كانا غير مسلمين ما تغير قولهما ولا حكمهما، فالبطولة سحر غلاب يجتذب الولي الحميم، والعدو الخصيم، وشمس سافر، تغمر بضيائها الباهر، القريب والبعيد، وتنفذ آرادها إلى واضع كفيه على عينيه.
وهل كتابنا اقتصروا على الماضي وحده كما يزعم؟
لنستعرض بعض مؤلفاتهم ثم نحكم.
هذا هو (الزيات) كتب في تاريخ الأدب العربي كتابه، فأرخ للأدب بأدب، وكان مثل يوفون إذ كتب في التاريخ الطبيعي ببيان خلاب، ومع ذلك فقد ترجم آلام فرتر لجيته، وروفائيل للامرتين ترجمة يقرر الحاذقون للألمانية والفرنسية أنها كالأصل بلاغة وسمواً ودقة، ويكتب منذ أكثر من عشر سنوات في مشكلاتنا السياسية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية.
وهذا هو (العقاد) كتب العبقريات، ولكنه ألف (سعد زغلول)، و (شعراء مصر وبيئاتهم) و (الحكم المطلق في القرن العشرين) و (هتلر) وغيرها، وله مئات المقالات في شتيت الموضوعات والمناسبات.
وهذا (هيكل) ألف عن (محمد) و (أبي بكر) و (عمر) ولكنه ألف أيضاً عن (روسو) و (السياسة المصرية) الخ.
فأي منصف بعد ذلك يتجنى على كتاب مصر بأنهم يحيون وعيونهم مشدودة إلى الماضي وحده؟
ومن ذا الذي يجحد فضلهم في مسايرة الثقافة، ومواثبة الحياة المتجددة المتطورة؟
إنهم يواثبون الثقافة ولكن أكثر إنتاجهم - متأثراً بهذه الثقافة - شرقي الروح، عربي الأسلوب، إسلامي النزعة، وكل ميزة من هذه الميزات مرة في بعض الأفواه، فكيف بها مجتمعة
ثُم لماذا تضفَى نعوت العبقرية على (إميل لودفيج) لأنه كتب عن المسيح عليه السلام كتابة رائعة، ويوسم كتابنا بالرجعية إذا ما كتبوا عن النبي محمد وخلفائه؟
وإنه لعقوق أن يبهر ماضينا بعض المستشرقين فيجردون أقلامهم لتمجيده، والكشف عن لآلئه، كما فعل (استانلي لين بول) في (قصة العرب في إسبانيا) فتغنى بمجدهم؛ لأنهم كانوا شعلة النور في أوربا بعد أن خمدت مدينة الرومان، واندثرت حضارة اليونان، وكما فعل (سيديو) ومؤلفو (التراث الإسلام) و (دائرة المعارف الإسلامية) ثم نعمى - ونحن ورائهم - عن هذا المجد فلا ننوه به.
ولماذا لا يعاب كتاب الغرب وهم ما فتئوا يكتبون عن هوميروس وافلاطون وأرسطو والإسكندر؟
الحق أن الأستاذ سلامة كثير الدعاوى، غريب القضايا، مفتئت على المنطق الذي يريده أساساً للفكر والأدب.
بقيت إشارة عجلي إلى خلط آخر في كتابه كالخلط الذي بيناه في لومه أبا تمام في المقال السابق، تلك أنه نسب إلى العقاد التأليف عن (حسان) فليخبرنا متى كان ذلك؟ اللهم إلا إذا أراد بحسان كل مشايع للرسول منافح عن الإسلام.
- 5 -
(يكره كتابنا الكلمة الأجنبية، فيقولون سيارة بدلاً من أتومبيل) ص 30
ودعا في كتابه إلى إدخال الكلمات الأعجمية على حالها، واستدل بان العرب أدخلوا في لغاتهم في العصر العباسي كلمات أعجمية.
ولكنه نسى أن العرب استعاروا كلمات من الفرس واليونان والهند بعد أن صقلوها أولاً صقلاً عربياً لتلائم منطقهم، كلفظ آذريون من آذركون، وديباج من ديوفار ونيروز من نوروز الخ وقلما استعملوا الكلمة الأعجمية على حالها، وكان ذلك للتظرف والتملح فحسب مثل كلمة آب صرد بمعنى الماء البارد في قول العماني:
لما هوى بين غياض الأسد ... وصار في كف الهزبر الورد
آلى يذوق الدهر آب صرد على أنهم عربوا حيث افتقروا إلى كلمات تؤدي معاني خاصة ليس في لغتهم ما يؤديها. وإذا كان الأستاذ يستدل على جمودنا ومرونة الإنجليز بأن في لغتهم نحو ألف كلمة عربية فليدلنا على كلمة واحدة ينطقها الإنجليز كما ينطقها العرب.
على أن كتابنا محقون في أنهم لا يلجئون إلى الكلمة الأعجمية إذا كان في لغتنا ما يدل عليها، أو نستطيع أن نشتق من لغتنا ما يؤدي معناها، وما من شك في أن لفظ سيارة يؤدي المعنى، وهو أخف نطقاً وأحلى وقعاً من لفظ أوتوموبيل. وما من شك أيضاً في أننا إذا أبحنا لأنفسنا استعمال الكلمات الأعجمية على حالها وبغير ضرورة إلى استعمالها فقد حفرنا للغتنا ولقوميتنا قبراً بأيدينا؛ لأنه لن يمضي قرن واحد حتى تصير لغتنا خليطاً مشوهاً من عربية مهزومة، وعامية مختلفة باختلاف الأصقاع والبيئات، وأعجمية غارية متفشية، ثم بعد قرن آخر تندثر العربية والعامية ونتفرنس أو نتجلنز، ويصيبنا ما أصاب إخواننا العرب في تونس والجزائر ومراكش.
ومن الخير أن يقتصر التعريب على كلمات أعجمية لا مناص لنا من استعمالها في العلوم المختلفة، ولا ضرر على لغتنا ولا على قوميتنا من ذلك، ثم لنعرب الكلمات التي جدت في الصناعة وشئون الحياة إذا لم نجد في لغتنا أو مشتقاتها عديلاً لها، وأما غير هذا فاندحار وانتحار، وتخريب لبيوتنا بأيدينا، ومعاذ الله أن يحيق بنا ذلك.
(يتبع)
أحمد محمد الحوفي
المدرس بالسعيدية الثانوية