مجلة الرسالة/العدد 624/هذه هي فرنسا. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 624/هذه هي فرنسا. . .

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 06 - 1945



للأستاذ سيد قطب

كلما سمعت أو قرأت - بمناسبة حوادث سوريا الأخيرة - أن هذه الحوادث مخالفة لتقاليد فرنسا، ثار في نفسي شعور السخرية المريرة من هؤلاء المتحدثين أو الكاتبين. . .

تقاليد فرنسا!

ومتى كانت تقاليد فرنسا إلا هذه البربرية المتوحشة؟ ومتى كان الفرنسيون إلا عشاق في المجازر البشرية، المولعين بالدماء في كل زمان ومكان؟ حتى في ثورتهم الكبرى التي يعيشون باسمها حتى الآن.

تقاليد فرنسا!

تقاليدها في سورية، أو في مراكش، أم في تونس، أم في الجزائر، أم في أية بقعة من بقاع الأرض على مدى الأزمان والأجيال؟

إنني لأستعرض أمامي تاريخ فرنسا في الشرق، فلا أجد إلا صفحات من البربرية المتوحشة، وإلا بركاً من الدماء حيثما وضعت أقدامها في مكان، وإلا وسيلة من وسائل التدمير والتخريب.

في أيام نابليون سلطت المدافع من قلعة الجبل على المصريين، ودخلت الجنود الفرنسية المتبربرة بخيولها الأزهر، وجرت الدماء في شوارع القاهرة، وديست كرامة الدين، وانتهكت الحرمات العامة. . . باسم تقاليد فرنسا!

وفي سنة 1905 ضربت دمشق بالقنابل، وأريقت الدماء في الشوارع، واعتدت الجنود الفرنسية المتبربرة على الآمنين. وضج الشرق العربي بالمأساة، بينما كانت الصحافة الفرنسية تمجد أعمال الوحشية في سورية. . . باسم تقاليد فرنسا!

وفي سنة 1921 وما بعدها وما قبلها أيضاً سالت الدماء في مراكش العربية لإرغام الناس هناك على الدخول في المسيحية وترك ديانتهم الإسلامية، باسم (الظهير البربري) المعروف جيداً في كل صقع إسلامي، والذي يشهد بأن دماء الصليبين لا تزال تجري في عروق الفرنسيين. ومنذ لك الحين بل قبله والزعماء المراكشيون منفيون في المستنقعات الحارة، وبلغ من الوحشية المتبربرة أن تشغل هؤلاء الزعماء السياسيين في رصف الأرض وقطع الأحجار في تلك الجهات الحارة النائية في أواسط إفريقية حتى يصاب بعضهم بالسل، وبعضهم بالحمى الصفراء. . . وذلك باسم تقاليد فرنسا!

وفي تونس، وفي الجزائر، البلدين العربيين اللذين تدعي فرنسا أن ثانيهما (أرض فرنسية) تعمل جاهدة على رد أهله عن دينهم بكل وسائل العنف والقسوة. . . باسم تقاليد فرنسا!

هذه هي فرنسا.

هذه هي حقيقتها من وراء الأضواء المصطنعة والدعايات البراقة. بل هذه هي حتى من خلال الأضواء المصطنعة والدعايات البراقة. فما هذه الأضواء التي تخدع المخدوعين، وتطلق ألسنة الدعاة؟ إنها الدعارة الفاجرة، والتحلل الذميم، والبوهيمية المطلقة. . . إنها هي بعينها النكسة إلى حياة الحيوانية، وفوضى البربرية!

ولكن هنا رءوساً وأقلاماً لا تزال تمجد فرنسا، ولا تزال تتشدق باسم فرنسا!

أولئك بضعة نفر عاشوا في فرنسا فترة من العمر، فسمحت لهم فرنسا الداعرة بإشباع أقصى لذائذهم الحيوانية، وتروية أظمأ شهواتهم الحسية. . . ثم عادوا فإذا في الشرق بقية من تقاليد وبضعة من حواجز، فلم يرق لهم ما في هذا الشرق من (رجعية)! وظلوا يحنون إلى عهد فرنسا الداعر وإلى لذائذها الممنوعة، وإلى شهواتها المحرمة!

وقليل منهم وجد في فرنسا علماً وفناً - وإن لم يجد لفرنسا قلباً - ففتنه العلم والفن عن أقدس المقدسات القومية والإنسانية فتنة عن كرامة الوطن، وعن حرمة الأهل وعن شرف العرض. . . فإذا أحدهم يجادلني في أمر الشرق العربي وفظائع فرنسا فيه فيقول: (إذا لم يكن بد للإنسانية من أن تفقد فرنسا أو أن تفقد هذا الشرق العربي، فليذهب الشرق العربي إلى الجحيم)!

هؤلاء نفر منحلون. . . وعلامة الانحلال في فرد أو أمة

أن يهون عليه شرف العرض وحرمة الأهل وكرامة الوطن. كما هانت على هذا الذي كان يجادلني في أمر فرنسا.

ويقولون لنا حين نجادلهم: إنكم لم تعيشوا في فرنسا. أجل نحن لم نعش في فرنسا، ولكن فرنسا عاشت عندنا فلم نطلع منها في يوم من الأيام على صفحة بيضاء. . . فهلا أخطأت فرنسا مرة فأطلعتنا على حقيقة عناصرها الطيبة؟! ويعتذرون لفرنسا اليوم في تصرفاتها البربرية بأنها تحس (مركب النقص) بعد الهزيمة، فتزيد التعويض بمظاهرات القوة، وأن سياسة وخز الإبر التي تتبعها معها إنجلترا في الشرق هي التي تثير أعصابها تلك الثورة الوحشية.

ولكننا نستعرض تاريخ فرنسا في الشرق، فلا نجد اختلافاً بين مركب النقص ومركب الكمال!، ولا نلمح فرقاً بين فرنسا الظافرة بعد الحرب العظمى وفرنسا المهزومة في هذه الحرب.

أنها هي هي. . . فرنسا المتوحشة في كل حال. فرنسا التي تدك القاهرة بالقنابل وتعتدي على حرمة الأزهر وكرامة الدين في عهد نابليون، هي فرنسا التي تدك عاصمة الأمويين بالقنابل في عام 1925 ثم في عام 1945

فإما أن (مركب النقص) هذا طبيعة فرنسية دائمة، وإما أننا نختلق لفرنسا المعاذير لأننا منحلون. لا نثور لعرض، ولا نغضب لأهل، ولا تعنينا كرامة، بعد أن تهيئ لنا فرنسا لذائذ الحس، وشهوات البدن، أو حتى لذائذ الفكر وشهوات الوجدان!

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أطلقت قنابلها على القاهرة وداست بخيلها مسجدنا الأعظم في عهد نابليون

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي مهدت الطريق للاحتلال الإنجليزي بانسحاب أسطولها من المياه المصرية سنة 1882، وترك الأسطول الإنجليزي يهاجمنا بعد الخدعة اللئيمة التي خدعها دي لسبس لعرابي بحماية قناة السويس وعدم السماح للأسطول الإنجليزي بمهاجمة مصر من ناحيتها، ثم النكث بالعهد، لأن فرنسا كانت تبصبص بذنبها كالكلب ينتظر فتات المائدة في (الاتفاق الودي) بعد ذلك بأعوام!

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أطلقت قنابلها على دمشق عاصمة الأمويين مرتين في خلال عشرين عاماً، بلا مبرر، وبعد تدبير شنيع

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي دبرت مؤامرة وحشية دنيئة لم تتم لقتل أعضاء الوزارة السورية وأعضاء البرلمان السوري، وكان عدم إتمامها راجعاً إلى وقوع وثيقة في يد الحكومة السورية

يجب أن نذكر أن فرنسا هي التي أصدرت أمراً يومياً لقواتها في سورية بالاستعداد (لمذبحة كبرى)! وأن قائدها هناك هو الذي صرح بحبه لمظاهر القتل والدماء!

يجب أن نذكر أن الجزائر وتونس ومراكش تلقى من البربرية الفرنسية ما لا يلقاه أحد من العالمين من القتل والنفي والتشريد، واستخدام الوسائل الخسيسة في تعذيب الزعماء السياسيين

يجب أن نذكر هذا كله، لنحتقر الثقافة الفرنسية مهما تكن، لأن الثقافة تظل أبداً جوفاء إن لم يكن من آثارها تهذيب الطبع، وإنارة القلب، وبث الشعور الآدمي بين المثقفين!

ويجب أن نذكر هذا كله لنحتقر دعاة فرنسا في كل مكان في الشرق العربي، وننظر إليهم كما ننظر إلى الأمساخ المشوهة، والمخلوقات المريضة، فما يرتفع تمجيدهم لفرنسا على تمجيد الشهوة. ولو كان تمجيد الثقافة التي لا تخرج بالإنسان عن طبيعة الحيوان!

ويجب أن ننتهز الفرصة السانحة لخنق الثقافة الفرنسية في الشرق كله، كما صنعت سوريا الباسلة، فتختنق فرنسا في الشرق بلا قتال!

يجب أن يكون لنا شرف المساهمة في أن تعود فرنسا دولة صغيرة - كما تستحق - فقد برهنت على أنها لا تستحق غير هذا يوم جثت على ركبتيها عند الضربة الأولى!

يجب. . . وإلا فدعونا من الثورات المؤقتة، ومن الجعجعة الفارغة، ومن الألفاظ الجوفاء!

سيد قطب