مجلة الرسالة/العدد 622/على قارعة الطريق
مجلة الرسالة/العدد 622/على قارعة الطريق
صور من الجيل الجديد
للأستاذ سيد قطب
1 - تلميذة
لقيتها منذ عام واحد صبية أقرب إلى أن تكون طفلة. كانت في السنة الرابعة الابتدائية، تلميذة لأحد الزملاء. . . وكان معي حينما تقدمت هي إليه لتحييه تحية التلميذة للأستاذ في الطريق، وسلمت عليّ معه في براءة.
واليوم لمحتها. لا في الطريق، ولكن في محل عام من محال (السندوتش) وغير السندوتش أيضاً! لم تكن وحيدة. كان معها رفيق تلمع على كتفيه نجمة. . . قلت لعله أخوها أو قريبها فما تجرؤ طفلة على الجلوس هكذا في ركن منعزل خفي عن الأنظار، مع غير قريب!
ولم ألق بالا إلى الأمر بعد النظرة الأولى. ولكن ماذا؟ هاأنذا أسمع أصواتاً فيها شيء. شيء غير حديث الأخوة أو الأقرباء أو ممكن هذا؟ أو يكون؟
نعم يكون فنحن في الجيل الجديد!
لم تكن قد رأتني بعد كما رأيتها، لقد كانت مستغرقة فيما هي فيه. ولكن هاهي ذي تراني. . . وأقول الحق كي لا أظلمها. . . لقد خجلت وتوردت وجنتاها! أم لعلها قد توردتا لسبب آخر؟
على أية حال لقد همست له، وهمس لها. ثم إذا هما ينسحبان. . . أأَكون قد عكرت عليهما الجلسة (البريئة). . .؟ ربما أكون!
2 - عذراء
كان يقف في محطة الترام، وقد غاب. كان يقطع الطوار جيئة وذهوباً من ملل الانتظار. وفجأة يرفع عينيه إلى شرفة المنزل الفخم المقابل فتقع عينه على فتاة.
لم يكن يريد شيئاً حينما رفع يده يمر بها على موضع شاربه! كانت حركة آلية شبه غريزية في هذه المفاجأة. ولكنه وجد يدها ترتفع بالتحية، ولما كان الموقف كله هزلا في نظره، فقد تحرك حركة غريزية أخرى، حرك إصبعه للاستدعاء! واختفت من الشرفة، لتمضي دقائق قليلة، ثم يجدها بعد ذلك على الطوار!
لقد ارتبك قليلاً. ولكنه تماسك ليرى! فما كان يخطر على باله أن يتم الأمر كله بهذه السهولة. ومن يدري لعلها لم تلحظ إشارته ولم تحس بوجوده وإنما هي تمضي لشأن خاص.
وقال كلمة عابرة، مما يقوله الشبان للفتيات. وما كان اشد دهشته حين أشارت إليه أن يصمت هنا وأن يمضيا هناك.
إنها لتلحظه هنا كل صباح. وإنها لتعرف أنه مدرس في المدرسة الثانوية بالحي، وأنه خاطب ليتزوج. فأين هي (دبلة) الخطوبة؟
واستمر في عبثه فقال: لقد عدلت نهائياً عن الزواج. فما راعه إلا أن تقره فتاة على هذا العزم. لأن الطلاقة هكذا هي أليق الأوضاع!
والتقيا مرتين قبل أن ترافقه إلى داره!. . .
وفي الصباح سأل في سخرية: ألا تتزوجينني؟ قالت: لا. أن أبي مستشار، ولن يرضى بالمدرسين!
وسألته عن شاب آخر يدرس معه في المدرسة نفسها: ما اسمه وأية مادة يدرس؟
وواعدته مرة ثم أخلفت الميعاد!
وبعد يومين شاهدها مصادفة. . . برفقة ذلك الشاب!
إنها من الجيل الجديد. . .
3 - خطيبة
جلسا قبالتي في ترام رقم 15، وكنا ثلاثة في الحجرة، كان يبدو عليه شغف وفتنة، وكان يبدو عليها دلال وإغراء. . . إنهما خطيبان. لقد لمحت في إصبعيهما (دبلتين) في اليد اليمن. . .
وسمعتها تقول: الحمد لله إذ كنت موجوداً لئلا تظن شيئاً!
وقال - في لهجة يخالطها العتاب -: ماذا تقولين؟ أظن شيئاً؟ ماذا أظن؟ وافرضي أنني لم أكن موجوداً. . . اسمعي: إنه لا يمكن أن يجول في نفسي أي شيء عنك. إن على الإنسان أن يبحث عن الأسرة أولا وعن الأم ثانياً. . . ثم يثق، فلا يفتش بعد ذلك أبدا.! وتبادلا النظرات في إغراء. . .
ونزل في محطة وتابع الترام سيره. . .
ثم يصعد في المحطة التالية مباشرة رجل آخر يأخذ مكان الرجل الأول. فتتصافح الأيدي والعيون والأجسام أيضاً. . ويسأل: أين نزل؟ فتجيبه وهي تغمز: في المحطة السابقة. فيعقب هذا ضحكة مشتركة ساخرة. . . ثم يأخذ وجهها طابع الجد، وهي تقول:
أنت عارف (ياسوسو) أنني قبلته من أجل خاطرك أنت! فيجيب وهو يربت على يدها بين يديه:
(معلهش) يا ميمي. . . (برفان كويس)!
4 - زوجة
كنت أعرفها سيدة فاضلة. وكانت تزور أسرة أخرى أعرفها بنظام واطراد. . . ثم انقطعت عنها فلم أعد أراها هناك.
قلت لها: لم لا تزورين بيت فلان؟
فترددت هنيهة، ثم انطلق لسانها. . . لسان حواء!
قالت: لأنني أخجل أن أقابل فلانا هذا، بعد ما اتخذتني زوجته ستاراً لأشياء، وهو يثق بي فلا يفكر في هذه الأشياء. وانطلقت تحكي:
لقد كانت يوماً ما هناك، ثم استأذنت مبكرة لأنها تنوي الذهاب إلى الخياطة. . . وما كان أسرع الزوجة لأن ترجوها في الانتظار هنيهة حتى تتهيأ للخروج معها إذ أنها قد غاضبت خياطتها وتود أن تعرف خياطة جديدة.
ولم يمانع الزوج بطبيعة الحال، فخرجتا بعد قليل.
ولم تكن صديقتها لتشك في أنها تعنى ما تقول. فلهذا دهشت حينما فاجأتها الصديقة بعد خطوات بالاستئذان منها بعد أن قامت بمهمتها. . . وأنها تقصد إلى جهة أخرى. . إلى موعد (برئ)!
وقالت الصديقة المدهوشة: ولكن يا فلانة ما الذي تنقمين من زوجك، وهو رجل مهذب، ومركزه الاجتماعي كبير، وسيرته معك طيبة؟
وقالت لها الزوجة: حذار أن تفهمي أنني أنقم من زوجي شيئاً. إنه ما تقولين وأكثر. وإنه لوالد أطفالي، ورب بيتي. . . ولكن يا فلانة. . . لا بد من التغبير بين الحين والحين!!!
وفغرت الصديقة فاها عجبا. . . فما راعها إلا الزوجة تقول: أوه. يبدو أنك من الجيل الماضي! نحن من جيل جديد!!
5 - أم
قلت له: لماذا فصمت الخطبة، وقد كنت معجباً بالفتاة؟
قال: أمُّها!
قلت: ومالك أنت وأمها إذا أعجبتك ذاتها؟
قال: فإذا شاءت هذه الأم أن تغلب أبنتها؟
قلت: ويحك! أهي ألغاز؟
قال: كلا! هو ما أقوله لك.
قلت: أتق الله! ولا يبلغ بك العبث هذا المبلغ في الحديث عن العائلات!
وأقسم: إنه لصادق. وإنها لامرأة نصف، ولم تشبع بعد من الدنيا. وإنها لا ترى الحياة إلا ضراعا. . . ولو مع أبنتها!
ولما كنت اعرف صدق صاحبي - كما عهدته - فقد رحت أحوقل وأستعيذ، وأخبط كفا على كف. . . ثم أقول: دعنا من الأخلاق. فأين الأمومة يا أخي؟ عاطفة الأمومة؟
قال: أوه. يبدو أنك من الجيل الماضي. يا مولانا نحن في جيل جديد!
إنها هكذا تقول!!
6 - أب
نزل من عربته الفخمة، وجلس على (البار) الصغير تحت عمارة (الإيموبليا) أمام مفرق الطريق. . . جلس ينفض الممرات من بعيد، ويحملق في السيقان العارية، ويتبعها بنظره إلى بعيد!
ثم لمح على مقربة رجلا وفتاة ينتظران أن انفتاح الطريق للمرور. ورأيت الرجل يشير للفتاة في حذر وتهيب على هذا الجالس، ثم يندفع للتسليم عليه في انحناء، ويدعو الفتاة لتسلم على عمها فلان بك.
واتسعت حدقتا البك، واختل توازن عضلات وجهه وهو يبتسم ويحملق ويهز يد الفتاة آن.
وقال: لماذا لم تمر عليَّ لتذكرني بمسألتك؟
قال الرجل في تلعثم: البركة فيك يا سعادة البك.
قال: غدا - إن شاء الله - لا بد أن تمر عليَّ (ونظر لفتاة)! -. . . والآن تجلسان لتناول شيء ما.
وقال الرجل: متشكرين يا سعادة البك، وهزت الفتاة رأسها شكراً.
قال سعادة البك: آه. طيب. هنا لا يناسب الجلوس. ولكن ستأخذان معي الشاي في (جروبي) غداً إن شاء الله! وفي الصباح تمر عليَّ في المكتب من أجل مسألتك!
وسلما وانصرفا شاكرين. . . والرجل تبرق مع الفرح عيناه ونظرت فإذا البك يتقصى تقاطيع جسد الفتاة - ابنه الرجل - وشفتاه تتلمظان وعيناه!!
منذا الذي دفع بالجيل إلى الهاوية؟ منذا الذي جعل هذه الصور الشائهة تتوالى أمام عينيه دون استنكار؟
بضعة مواخير. . . بعضها يسمى مجلات. وبعضها يسمى أفلاما. وبعضها يسمي أغاني تتسور جدران البيوت عن طريق المذياع. . . وبضعة (هلافيت) لا يهمهم أن يكون في البلد فراش نظيف. يسمون أنفسهم من حملة الأقلام!
سيد قطب