مجلة الرسالة/العدد 619/حول اقتراح

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 619/حول اقتراح

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 05 - 1945



الترجمة واللغة العربية

للدكتور عبد العزيز برهام

طلعت علينا (الرسالة) الغراء باقتراح جليل لرئيس تحريرها

الفاضل الأستاذ (الزيات)؛ اقتراح لو أخذ به لسد نقصاً يشعر

به كل من عالج تعلم اللغات الأجنبية في عصرنا الحديث. وقد

وفى الأستاذ الموضوع حقه؛ فأبان حاجتنا الماسة للترجمة في

الأدب وفي العلم. وأني لأستميحه أن أضيف إلى آرائه القيمة

بعض أفكار تواردت على ذهني حين قرأت اقتراحه:

إن حاجتنا إلى النقل من اللغات الأجنبية ليست وليدة اليوم، وإنما شعرنا بها من يوم أن دب في بلاد الشرق دبيب الحياة وأخذت بعد سباتها العميق تستيقظ وتتصل بالغرب. عندئذ أدرك الآخذون بأسباب من العلم والمعرفة أن نهضتنا لن تقوم وتنجح إلا إذا قبسنا من نور الغرب، فأخذت ترجمة الكتب ولا سيما الأدبية تترى. وسار كل غيور عللا رفعة وطنه في هذا التيار حتى رأينا كثيراً من الكتب النافعة نقلها من اللغات الأجنبية جلة العلماء في عصر المغفور له (محمد علي باشا)، ولكن لم تكن هذه الكتب القليلة العدد شيئاً يذكر إن ووزنت بما كنا في حاجة إليه إذ ذاك. ثم خطت الترجمة بعد ذلك خطوات واسعة غير أن أغراضها تنوعت، وصار للعنصر التجاري فيها شأن أي شأن. فكم من قصة ترجمت لم يقصد بها العلم وإنما قصد بها الربح! وساير ترجمة الكتب انتشار الصحف والمجلات لا تزال تعول على الجرائد الأعجمية في كثير من موضوعاتها

نجم عن ذلك كله أن اتسعت دائرة الترجمة إلى اللغة العربية اتساعاً يبعث كثيراً من الأمل في نفوس ذوي الغيرة الوطنية. بيد أن أكثر القائمين بأمر هذه الترجمات لم يكن بصيراً باللغة العربية التي ينقل عنها. فكانت تستعصي عليه لذلك ترجمة كثير من الأساليب التي لا يجد - لضعفه في العربية - مثيلاً لها في لغة الضاد. فالتوت لغة الترجمة وكثر ما غمد الناقد إلى الأسلوب أو التعبير الأجنبي فنقله بنصه دون مراعاة لروح اللغة التي ينقل إليها فغمضت على القارئ. وكثر ما دخل في اللغة العربية من كلمات أعجمية لم يستطع المترجمون أن يجدوا لها مدلولاً في لغتهم فطغت على لغة الكتابة والخطابة، واستعملها الناس في حديثهم دون شعور بأعجميتها. وزاد الطين بلة تلك الحرية الواسعة التي يتمتع بها المترجمون. وإنه ليسهل عليك أن تجد تعبيراً واحداً في لغة أعجمية نقل إلى العربية بأساليب متعددة حتى يعجزك رد هذا التعبير إلى أصله. ولقد تدهش أحياناً من أن كلمات عربية دخلت منذ حين في لغات أعجمية فإذا ما أعيدت إلى لغتها الأصلية أعيدت مشوهة. وما كلمة (الحمراء) التي نقلت إلى الأسبانية والفرنسية ثم عادت إلى اللغة العربية (الهمبرة) ببعيدة عن الأذهان، وإن الجرائد المصرية ليحلو لها دائماً حين تكتب عن (قناة السويس) وناهيك بما يعترض سبيلك وأنت تقرأ مجلة أسبوعية أو برقيات جريدة يومية من كلمات أعجمية لم يعمل المترجم فيها إلا أن كتبها بحروف عربية، وليته أعجمها حتى يستطيع الجاهل باللغة التي نقلت عنها قراءتها صحيحة، بل ترك للقارئ حرية الحدس والتخمين، وتركك تسمع في نطقها العجب العجاب. أو ليست كلمات رجيم ستراتيجية ومنوكل سامباتيك بوستة وابور شيري. . الخ. . . الخ. . . من الكلمات التي نقرؤها ولم نعد نهتم بها كأنما صارت من صميم الكلمات العربية؟

ولما كان لكل لغة قواعدها النحوية والصرفية واللغوية الخاصة بها فمن العسير أن تنقل من لغة إلى أخرى إلا إذا كنت ملماً بقواعد كلتا اللغتين وإلا تعرضت للزلل. ألا يستعمل العامة والخاصة فعل (أعطى) متعدياً لمفعول واحد فيقال: أعطيت الكتاب لفلان، كما يقول الفرنسيون ' في اللغة العربية متعد لمفعولين فيقال: أعطيت فلاناً الكتاب؟ أو لم تجر أقلام الكتاب باستعمال (لا) قبل (يجب أو ينبغي) إذا أريد نفي ما بعدها فيقولون: لا ينبغي أو (لا يجب) أن نفعل كذا والعرب تقول ينبغي ألا نفعل كذا وكيت وعليك ألا تفعل كذا وكيت؟

لقد نقل الخطأ الشائع وأضرابه بادئ ذي بدء من لم يكن متمكناً من اللغة العربية التي ترجم إليها ثم استعمله سواه من بعده ولم يلبث أن انتقل إلى أقلام الخاصة.

وما نشأ هذا الخلط وعمت هذه الفوضى في الأساليب والتعبيرات وطغت الروح اللغوية الأعجمية على روح اللغة العربية إلا لأن الترجمة نفسها لا تخضع لنظام. حتى أن كل من أتقن لغة أعجمية أو اعتقد أنه أتقنها استباح لنفسه الترجمة منها دون مراعاة لمبلغ قدرته في اللغة المنقول إليها. وإنه ليسهل عليك أحياناً أن تفهم بعض التعبيرات في لغتها الأصلية عن أن تفهمها في اللغة العربية؛ وذلك لأن المترجم إما أن يكون ضعيفاً في اللغة العربية فلا يحضره من الألفاظ ما يسد به حاجة الترجمة، أو يكون ضعيفاً في اللغة الأعجمية فينقل إليك التعبير دون تصرف فيه فتكون ترجمة حرفية سقيمة المعنى أو خلواً منه - وإني لأذكر - وأنا لا زلت طالباً بمصر - أن كنا ندرس في كتاب مترجم في (النظريات السياسية). ولقد كان أكره الدروس إلى نفوسنا درس هذه المادة لمحببة النافعة. كان ذاك لتعقد في أسلوب الكتاب كثيراً ما دعانا إلى أن نقف عند كل سطر وأن نكون أحياناً حلقات ندرس فيها ما يراد وما لا يراد من هذه العبارة أو تلك. وما أكثر ما ترانا على أستاذ المادة - وكان أحد المترجمين - حتى لكنا نلجئه إلى قراءة الكتاب في (الفصل) لنفهم عباراته. وإن انتشار هذه التراكيب الركيكة في اللغة السائدة في الكتب والصحف ليتسرب إلى لغة كثير من فضلاء العلماء والأدباء دون أن يشعروا بأنهم ينزلون بلغتهم درجات. خذ مثلاً كتاباً من كتب القانون أو اقرأ الدروس التي يلقيها على طلبته بعض الشبان من رجال القانون الحديثي العهد بالتدريس باللغة العربية وستتبين من غير عسر روح الترجمة فيها. وإني لأنقل إليك عبارة واحدة على سبيل المثال تجدها في مذكرات للقانون الجنائي لعالم فاضل وأترك لك الحكم عليها.

(إذن فطبقاً للرأي الذي ساد المراد بالاختلاس أن الجاني يأتي بحركة مادية يخرج بها الشيء من حوزة غيره ويستولي عليه. وليس بذي شأن أن ينقل الجاني الشيء بيده كحالة اللص الذي ينشل محفظة من جيب المجني عليه أو بواسطة كمن يحرض كلبه. . . كذلك يكفي أن يهيئ الجاني أسباب الانتقال وبعد ذلك يتم انتقال الشيء من تلقاء نفسه. . . الخ؟

وأمثال هذه التعبيرات كثير: أنا شخصياً لا أقبل هذا , ' (قابل صاحب الدولة رئيس الوزراء بوصفه وزيراً للخارجية. .) (هذا الأمر بالقياس إلى هذا. . .) (من وقت لآخر) وهكذا وهكذا.

ثم إذا نحن جاوزنا لغة الأدب إلى لغة العلم لما تغير الأمر كثيراً ولا قليلاً. واللغة العلمية والمصطلحات العلمية أحوج ما تكون موحدة. ولن نصل إلى هذا التوحيد إلا إذا قضينا على الحرية المطلقة الفردية في الترجمة وأخذنا المترجمين جميعاً على استعمال تعابير بعينها.

هذا، وإن بعض المواد لا يزال يدرس في (مصر) حتى اليوم باللغة الإنجليزية أو الفرنسية: إما لأن اللغة العربية لا تتسع - كما يقولون - لما وسعه من غيرها من اللغات (وهي التي وسعت فلسفة الإغريق، وحضارة الفرس)؛ وإما لأننا لا نزال ندرج على سنة درج عليها آباؤنا من قبلنا وإن انقطعت اليوم الأسباب التي دفعت بهم إلى فعل ما فعلوا. وليس من سبيل لسد هذا النقص القومي وتمصير الطب مثلاً إلا طوفان من المترجمات يجرف جميع الكتب القيمة التي وضعت في هذه المواد جرفاً ليلقي بها على ساحل اللغة العربية.

وبعد فإن ترك الترجمة فوضى شأنه اليوم يعرض سلامة اللغة لخطر مستمر، وينقل إلينا سيلاً من الكلمات والتعابير الأعجمية التي تنخر في عظام الأساليب العربية الرصينة. وحسبك أن تقرأ كتاباً (كالبؤساء) الذي ترجمه حافظ إبراهيم أو غيره مما ترجم الأستاذ (الزيات) أو (المنفلوطي) وهذه الكتب نفسها إن أشرف على ترجمتها ذوو الترجمات العاجلة الخاطفة لتلمس الفرق بين الترجمتين، ولتدرك أيهما كتب باللغة العربية الفصيحة: من بلاغة في الأسلوب، وصفاء في الديباجة، وسمو في البيان، وتنوع في الصياغة، ودقة في التعبير حتى لكأنك تقرأ القصة في لغتها وبأسلوب كاتبها.

وإنك لتعجب حين تقرأ كتاباً ما ترجم إلى لغات عدة من أن أثر الترجمة لا يحس إلا في اللغة العربية إن نقله إليها من لم يلم إلماماً تاماً بها. ولو علم كثير من كبار الكتاب الأعاجم مقدار ما يصيب آثارهم الفذة من مسخ وتشويه إن أسيء نقلها لحرموا الترجمة ولآثروا أن يظلوا غفلاً في البقاع التي تسودها هذه اللغات المنقول إليها من أن يساء إلى بنات أفكارهم. أو لم تؤلف اللجان لترجمة القرآن حتى يحتفظ له ما أمكن في اللغة التي ينقل إليها بأسلوبه المعجز، وسحر بيانه، وجماله الفني، وتصويره الرائع؟ فليس أمامنا إذا إلا سبيل واحدة لنسلكها حتى نحيط اللغة بسياج متين من تسرب للدخيل إليها وتحفظ عليها بنيتها وروحها وأساليبها - تلك هي الترجمة الدقيقة المنظمة. ولا سبيل إلى مثل هذه الترجمة إلا إذا قام بها من هو ذو بصر باللغة العربية وباللغة التي ينقل عنها. وإن إنشاء دار للترجمة وتزويدها بأعلام الأدب والعلم والفن ممن يحذقون لغات أعجمية لهو الطريقة المثلى لتحقيق هذه الأمنية.

وإننا - كما يقول الأستاذ الفاضل صاحب الاقتراح - (إذا نقلنا إلى العربية نتائج القرائح لأقطاب العلوم والفنون والآداب من الإنجليز والأمريكان، والفرنسيين والألمان، والروسيين والطليان - أصبح هؤلاء العالميون جزءاً من كياننا الأدبي، وركناً في بنائنا العلمي، نعتز به ونستمد منه ونفتن به ونزيد عليه، كما فعل آباؤنا الأقدمون بما نقلوه من علوم الإغريق والهنود واليهود والسريان والفرس) - ولجددنا في اللغة مع محافظتنا عليها، ودعمنا النهضة، ويسرنا القراءة ودعونا إليها، ولهيأنا للعلوم التي تدرس بلغة أعجمية في معاهدنا العلمية سبيل تدريسها باللغة العربية، ولأمددنا كتاب الصحف والمجلات بأساليب ترفع من ترجمتهم العاجلة، وتسعفهم إن ضاق بهم الوقت؛ ولاستطعنا كذلك أن نضع معاجم عربية - أعجمية يقل فيها الخطأ ويكثر فيها الدقة.

إن مصر ليجهل جمهرة أهلها اللغات الأعجمية. والذين يحذقون أكثر من لغة قليل ما هم. وفي هذا التباين ما فيه من خطر قومي يدفع إليه تباين الثقافات، فمن ثقافة عربية إلى ثقافة أعجمية، ومن ثقافة فرنسية إلى ثقافة إنجليزية أو ألمانية. وفي تنوع هذه الثقافات ما يخلق تبايناً في التفكير بين أفراد الأمة حتى ليتهم بعضهم بعضاً بالقصور عن مسايرة النهضة العلمية الحديثة أو يدل بعضهم على بعض. ولقد ألفت آذاننا سماع تفضيل ثقافة على ثقافة، وألفنا الحديث عن مدارس الثقافة الفرنسية وعن مدارس الثقافة الإنجليزية وهكذا، فاتسعت الهوة بين المنتمين إلى هذه والمنتمين إلى تلك، فإذا نحن نقلنا هؤلاء جميعاً المؤلفات القيمة من مختلف الثقافات جعلناهم يتغذون بلبن واحد فاتحدت طريقة تفكيرهم ومادتها التي لن تكون إلا عصارات هذه الثقافات ممتزجة، وزالت الفوارق بين طبقات المتعلمين، واقتربت وجهة النظر بينهم، وصاروا جميعاً أبناء أمة واحدة يرتوون من منهل واحد هو الثقافة المصرية

ثم ما ظنك بفريق من أدعياء العلم والأدب اللذين بنوا لهم مجداً شامخاً في الشرق على ما انتحلوه من آراء الأعاجم دون أن يشيروا إليها أو يدلوا عليها؟ داء عسير دواؤه أصيبت به الطبيعة الشرقية لضعف في النفوس وجهل بها، وعجز من الابتكار والاختراع، واستهانة بالقراء، وغرام بالشهرة ولو كاذبة. وشجع على استفحاله أن الشرقي ولا سيما المصري لم يعد إعداداً يحبب إليه القراءة والاطلاع، والتعمق في العلم، فهو يكتفي بما يقع تحت بصره دون تطلع إلى ما وراء ذلك؛ وكان جهله باللغات الأعجمية أو بأكثرها من العوامل التي جعلته يقف في قراءته عندما كتب بالعربية.

إن هذا الفريق من الأدعياء سينكشف أمره، وسيرى مجده يتداعى يوم أن ينقل إلى اللسان العربي جميع ما ألف في سواه أو جمهرته، ويطلع الناس على مصدر الآراء التي ارتفع بها أقوام لا يستحقون الرفعة فينزلونهم من حالق. وسيوصد الباب أمام هذه الفئة الطفيلية فتتخلص من شرورها وغطرستها.

وحبذا لو فكر القائمون بالأمر في وزارة المعارف في إرسال البعوث من ذوي الكفاية في اللغة العربية لدراسة اللغة الأعجمية في مهدها، ولا سيما قد انفتح الطريق الآن بيننا وبين بعض هذه البقاع. ولو أن السنة التي خطها صاحب المعالي محمد حلمي عيسى باشا حين كان وزيراً للمعارف في عام 1933 اتبعت منذئذ لتجمع لدينا الآن عدداً لا يستهان به من الشبان الأكفاء الذين يسند إليهم هذا العمل الجليل؛ فلقد أرسل معاليه بعثة للترجمة والتحرير إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا كانت الأولى والأخيرة. وشاء تغير الوزراء من بعده؛ وعدم استقرار سياسة التعليم، ونقض كل وزير ما أبرم سلفه أن يغفل هذا الأمر!

ولعل وزارة المعارف إن وصلت إليها هذه النصيحة وكتب لها أن تستأنف إرسال بعوث الترجمة أن تسند إليهم متى عادوا - بعد عمر طويل - أعمال الترجمة نفسها لا أن تكل إليهم أمر تعلية خزان أسوان أو كهربة خط حلوان، أو أن تكافئهم على جدهم بتكليفهم العمل في حقول التجارب وفلاحة البساتين.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

عبد العزيز برهام

دكتوراه الدولة في الآداب ليسانسية في القانون من باريس