مجلة الرسالة/العدد 619/أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة
مجلة الرسالة/العدد 619/أبو سعيد أبو الخير وشطحات المتصوفة
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
ساقت هذه الفلسفة الجديدة: فلسفة المعرفة، جماعة المتصوفين إلى تقرير نظرية جديدة هي نظرية (الحق واحد وأن تعددت مظاهره) ومادام الإنسان يتوصل إلى الحق فلا حاجة للأصفياء بالرسل والأنبياء. يقول أحدهم وهو السيد قاسمي الأنوار: (قبل أن تبنى الخانقاه، وقبل أن تنشأ أديرة السومنية التي هي أقدم أديرة الكون، كنت معي في أطوار الكائنات. فدرجة الأنبياء قد ارتفعت من بيننا؛ إذا ما دمنا مجتمعين دائماً فما هي الفائدة من الرسل إذاً.
ومتى توصل الإنسان إلى معرفة (حق اليقين) الذي هو الفناء المطلق تساوت الدرجات وأصبح المعلوم واحداً وتجلت الغاية من الأديان عموماً. فالأديان على اختلاف درجاتها تقصد غاية واحدة وهدف معيناً، هو التوصل إلى معرفة الله، تستوي في ذلك الصابئة واليهودية والنصرانية والإسلامية كما جاء:
عبادتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك الجمال يشير
وإلى هذا المعنى ذهب (شمس تبريز) حيث قال: (لست بمسيحي ولا يهودي ولا مسلم). وهذه النزعة الإنسانية التي توصل إليها متصوفة الإسلام هي نفس النزعة الإنسانية التي توصل إليها متصوفة أوربا في القرون الوسطى. ثم المذهب الإنساني الفلسفي الذي تمثل فيما بعد على لسان الفيلسوف (هيردر) وعلى لسان الفلسفة الإنكليزية ثم الأوربية في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر للميلاد.
وهكذا تساوت الأديان فلا فرق إذا بين أن يكون الإنسان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً. وما دامت غاية الإنسان الاتصال بالله عن طريق المعرفة فالتصوف وحده هو الكفيل بذلك. فعن طريق التأمل بذات الله تتم المعرفة وتنال السعادة الأبدية، أما الأديان والشرائع على رأي نفر من المتطرفين بآرائهم فإنها تحول بين الإنسان وبين معرفة الذات، وتفرق بين اتصال العبد بالرب فهي عامل فتنة وخراب.
وصنف جلال الدين الرومي البشر من حيث معرفة الخالق إلى صنفين: صنف تعلق بالطقوس والشرائع، وصنف امتلأ قلبه وفاض بحب الله. ولابن العربي كلمات تشبه هذه الكلمات. وقد نسب ابن تيمية إلى أحد المتصوفة وهو التلمساني من تلامذة ابن عربي هذا القول: (القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا) على أن ابن تيمية من أعداء الفلسفة والتصوف ويجب أن ننظر إلى كلامه بشيء من التروي على ما اعتقد والحذر.
ونسبت إلى نفر من المتصوفة بعض الأقوال التي لا تلتئم مع ما هو مألوف. مثل قول حافظ: (اتركوا الاثنين والسبعين فرقة لأنها لا ترينا الحقيقة، ولأنها تستمد وحيها من وحي الشياطين.
ونسب إلى أبي سعيد أبي الخير قول يشبه هذا القول فقد قيل أنه قال: (ما دانت المساجد والمدارس باقية لا تتطرق إليها أيدي البلى فإن عمل الدراويش لا يتم. ومادام هناك مؤمن وكافر فإنه لا يمكن أن يظهر على سطح الأرض مسلم حقيقي أبداً)
وفي أقوال أبي سعيد وأشعاره مواضع أخرى تشير إلى هذا النوع من التفكير الحر. وهذه الأقوال ولاشك هي التي أثارت غضب بعض العلماء عليه أمثال ابن حزم الظاهري والمؤرخ الشهير الحافظ الذهبي ولهذا السبب عينه قال عنه المستشرق نيكلسون في كتابه (التصوف الإسلامي) وفي الفصل الذي عقده عنه في (دائرة المعارف الإسلامية) بأنه يمثل الآراء الحلولية المتطرفة التي جاء بها بايزيد البسطامي المتوفي عام 261 للهجرة (874م) تلك الآراء التي يمتاز بها متصوفة الفرس بوجه عام. ولسنا بحاجة إلى أن نزيد أن أبا سعيد كان ينظر إلى الإسلام وغيره من الأديان المنزلة نظرة احتقار) وهو قول ردد صداه المستشرق الفرنسي لويس ماسليون والمستشرق الإنجليزي إدوارد براون وأغلب المستشرقين المشتغلين بموضوع التصوف. على أن من باب الحق والمنطق أن نقول بأن جماعة كبيرة من العلماء كانوا يثنون عليه ويذكرونه ذكراً جميلاً. أمثال: السبكي صاحب كتاب طبقات الشافعية الكبرى والسمعاني في كتابه الأنساب وفريد الدين العطار في كتابه تذكرة الأولياء وأمثالهم؛ وقول هؤلاء طبعاً قول مقبول محترم لا يمكن أن يرد بأي حال من الأحوال.
أما أنصار التصوف وأصحاب مبدأ (حسن الظن من الإيمان) فإنهم يعتذرون عن هذه الأقوال ويفسرونها تفسيراً فيه حسن ظن ورجاء، ويجاوزن عنها ويرجئون أمرها إلى الله، ويوؤلونها تأويلاً، ويحسبونها شطحة من شطحات اللسان. والشطحة عندهم (عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى وهو من زلات المحققين فإنها دعوى بحق يفضح بها العارف من غير إذن إلهي بطريق يشعر بالنباهة) وهم يؤولون كلام هؤلاء كما قلنا فيقولون: نعم، في ظاهر هذه الكلمات خروج عن المألوف والذوق، ولكنهم لا يقصدون ظاهر هذه الألفاظ بل بواطنها وذلك لا يدركه إلا من سما في العلم الإلهي وفي درجات المعرفة.
ثم قالوا: (وإن للقوم عبادات تفردوا بها واصطلاحات فيما بينهم لا يكاد يستعملها غيرهم تخبر ببعض ما يخفى وتكشف معانيها بقول وجيز، وإنما نقصد في ذلك معنى العبادة دون ما تتضمنه العبادة فإن مضمونها لا يدخل تحت الإشارة فضلاً عن الكشف) وإن القوم في حالة سكر في الذات العلمية وفي غيبوبة تامة.
قالوا ومن هذا القبيل قول سهل بن عبد الله التستري إذ يقول: (أعرف تلامذتي من يوم ألست بربكم، وأعرف من كان في ذلك الموقف عن يميني ومن كان عن شمالي، ولم أزل من ذلك اليوم أربي تلامذتي وهم في الأصلاب لم يحجبوا عني إلى وقتي هذا) وقوله: (أشهدني الله تعالى ما في العلى وأنا ابن ست سنين، ونظرت في اللوح المحفوظ وأنا ابن ثماني سنين، ورأيت في السبع المثاني حرفاً معجماً حار فيه الجن والإنس ففهمته وحمدت الله تعالى على معرفته، وحركت ما سكن وسكنت ما تحرك بإذن الله تعالى وأنا ابن أربع عشرة سنة).
وامتازت فلسفة هؤلاء المتصوفة أصحاب الذوق بأسلوب جديد مبتكر أخاذ هو الشعر الغزلي التصوفي الذي أطلقوا عليه اسم (الغزل الصوفي) كما نعتوا الحب البريء (بالحب الأفلاطوني) أو (الحب العذري) وفيه الرمزية والخيال البعيد. ولنا في باب (الغزل الصوفي) طائفة من كبيرة من الشعراء. والتصوف في حد ذاته نوع من أنواع الشعر أو الفن، ففيه عاطفة جامحة؛ لذلك كان أكثر المتصوفة ينظمون نظماً دقيقاً فيه عاطفة دقيقة وإن كانوا قد خرجوا فيه كما خرجوا في نثرهم عن القيود الدينية المألوفة والأساليب المتعارفة كما نجد ذلك في شعر الحلاج وفي شعر محي الدين ابن عربي وفي شعر السهروردي وأمثالهم. ويكفينا في هذا الباب ما نظمه الشيخ المتصوف سيدي إبراهيم الدسوقي المتوفي عام 676 للهجرة: ففي هذا النظم أشياء كثيرة لا توافق ما هو مألوف لما في هذا القول من اتحاد الذات في الإنسان وفي الأشياء. والقصيدة مرآة صافية لفكرة وحدة الوجود التي شاعت في أوربا أيضاً واعتنقها من الفلاسفة والمفكرين ولا سيما أولئك الذين درسوا الآداب الشرقية واطلعوا على تراجم الأشعار الفارسية على الأخص كالشاعر غوته الذي دان بمذهب وحدة الوجود يقول هذا المتصوف الزاهد الذي يرجع بنسبه إلى الإمام عليّ ين أبي طالب والذي تأثر بآراء من سبقه كم كبار المتصوفة كالحلاج والسريّ والسقطى والجنيد البغدادي والشيخ عبد القادر الجيلي على الأخص في جملة ما قاله هذه الأبيات:
تجلَّى لي المحبوب في كل وجهة ... فشاهدته في كل معنى وصورة
وخاطبني منيّ بكشف سرائري ... فقال أتدري من أنا قلت منيتي
فأنت منائي بل أنا أنت دائماً ... إذا كنت أنت اليوم عين حقيقي
فقال كذلك الأمر لكنه إذا ... تعينت الأشياء كنت كنسختي
فأوصلت ذاتي باتحادي بذاته ... بغير حلول بل بتحقيق نسبتي
فصرت فناء في بقاء مؤبد ... لذات بديمومية سرمدية
وغيبني عني فأصبحت سائلاً ... لذاتي عن ذاتي لشغلي بغيبتي
وأنظر في مرآة ذاتي مشاهداً ... لذاتي بذاتي وهي غاية بغيتي
فأغدو وأمري بين أمرين واقف ... علوميَ تمحوني ووهميَ مثبتي
ومنها:
أنا ذلك القطب المبارك أمره ... فإن مدار الكل من حول ذروتي
ومنها:
وبي قامت الأنباء في كل أمة ... بمختلف الآراء والكل أمتي
ولا جامع إلا ولي فيه منبر ... وفي حضرة المختار فزن ببغيتي
ومنها:
بذاتي تقوم الذات في كل ذروة ... أجدد فيها حلة بعد حلة
ومنها: نعم نشأتي في الحب من قبل آدم ... وسرّى في الأكوان من قبل نشأتي
أنا كنت في العليا مع نور أحمد ... على الدرة البيضاء في خلويتي
ثم يستمر على هذا النسق فيذكر أنه كان مع جميع الأنبياء ويختم قصيدته باسمه وبأنه القطب شيخ الوقت إبراهيم.
وأبو سعيد أبو الخير من المبرزين في الشعر الصوفي، ويمتاز عن غيره من شعراء الفرس بابتداعه الشعر الصوفي عندهم وبنهجه منهجاً جديداً في النظم حذا حذوه أكثر شعراء الفرس كفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي وعمر الخيام.
وإذا صحت نسبة الرباعيات الفارسية إليه فيكون بذلك أول مؤسس لرباعيات المتصوفة وأول مبتكر لطريقة جديدة هي الطريقة الرمزية في الشعر. ولكن هناك من يشك في صحة نسبة الرباعيات إلى صاحبنا استناداً على رواية تقول بأن الناظم الأصلي لهذه الرباعيات هو أستاذ أبي سعيد أبو القاسم بشريس وهو متصوف أيضاً وأديب مشهور
على أن شيئاً واحداً لا يمكن أن يتطرف إليه الشك هو أن أبا سعيد كان ينظم الشعر وكان يحفظ شيئاً كثيراً من شعر الفرس والعرب، وأنه كان ضليعاً في اللغة العربية وكان يجلس لتفسير القرآن. وبهذه المناسبة نقول إن تفسير القرآن على طريقة الصوفية هو تفسير خاص. ومن أشهر هذه التفاسير تفسير عبد الرحمن السلمي النيسابوري (412هـ) أحد الأساتذة الذين درس عليهم أبو سعيد ونال الخرقة منه، وأشتهر هذا الشيخ برواية الأحاديث ولا سيما أحاديث الصوفية وقد أتهم لذلك بأنه كان يضع الأحاديث على لسان الرسول لتقوية مذهب التصوف (سنن الصوفية).
وتفسير محي الدين بن عربي الشهير وتفسير نظام الدين الحسن بن محمد النيسابوري (في أوائل القرن الثامن للهجرة وتفسير عبد الرزاق الكاشي (الكاشاني).
وكما أن أصحاب الباطن (الباطنية) من المسلمين والحروفية فسروا القرآن تفسيراً يوافق آراءهم باعتبار أن للقرآن ظاهراً وباطنا وقالوا بأن الظاهر هو المفهوم لدى العامة وأن الباطن هو المقصود من القرآن ولدى الخاصة وحدهم (علم الباطن) أولئك الذين يعرفون (ما ظهر منه وما بطن) فكذلك المتصوفة فسروا القرآن تفسيراً خاصاً حيث كانوا يعمدون إلى التأويل دائماً تأويلاً يتفق مع آرائهم ومشاربهم.
واتصل أبو سعيد علي ما يروى بالمتصوف الشهير أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشري (المتوفي عام 465 للهجرة) (وقد تلقى القشري أول الأمر هذا الزائر الجديد بشيء من الحذر والنفور، ولكنه ائتلف به وأصبح صديقه الحميم فيما بعد، وتلك خاتمة يلوح لنا أنها بعيدة الاحتمال).
حاول القشيري وهو من رجال التصرف في رسالته الشهرة (الرسالة القشيرية) (كتبها سنة 437 للجرة) جمع خلاصة آراء وأفكار المتصرفة للتوفيق بين آراء المتصوفة وبين آراء جماع المسلمين والرهنة على أن التصوف أصل الإسلام. وذكر طائفة من كبار المتصوفة بما فيهم الخلفاء الراشدون والأئمة العلويون وأكثر الصحابة، وقد فاته أن التصرف الذي كان عليه في وقته لم يكن معروفاً بهذا الشكل في صدر الإسلام، وأن الصحابة كانوا يؤاخذون الناس عليه كما فعل الخليفة عثمان بعامر بن عبد الله ابن قيس الذي ترهب وتزهد في البصرة وامتنع عن أكل اللحوم والزبد والجبن وكل منتوج للحيوان، وأعرض عن الزواج وعُرف (براهب الأمة)
والتقى أبو سعيد بالفيلسوف ابن سينا على ما ذكره فريد الدين العطار في كتابه. والظاهر أن هذا اللقاء بنيسابور حيث أقام بها أبو سعيد محترماً مقرباً من عالمها الكبير إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني. وابن سينا الذي اشتهر بنظم الشعر باللغة العربية اشتهر بنظم الرباعيات بالفارسية فهو زميل منافس لصاحبنا المتصوف. ولعل هذه المنافسة هي التي أدّت إلى نفرة أبي سعيد من ابن سينا، ثم إلى ردة على ابن سينا برباعية من رباعياته المشهورة.
تمتع أبو سعيد بشهرة عظيمة في بلاد فارس حيث كان محط الرحال إلى أن جاءه الأجل المحتوم في سنة 440 للهجرة فدفن في مسقط رأسه (ميهنة) وبذلك تم دخوله في عالم الفناء.
مات أبو سعيد فكتب حياة هذا المتصوف حفيده محمد بن أبي المنوّر، وعلى هذه الترجمة اعتمد فريد الدين العطار في كتابه (نفحات الأنس).
بغداد
الدكتور جواد علي