مجلة الرسالة/العدد 618/صلوات فكر في محاريب الطبيعة!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 618/صلوات فكر في محاريب الطبيعة!

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1945



للأستاذ عبد المنعم خلاف

أزل وأبد!

لما تعب الناس من الوقوف على عتبة المهد، يقولون لكل قادم: من أين أتيت؟ والوقوف على عتبة اللحد، يقولون لكل ذاهب: إلى أين عزمت؟ ولم يعلموا من الأزل والأبد علماً، انصرفوا حين ذهب عنهم ذهول الطفولة إلى القنطرة والجسر الذي وجدوا أنفسهم فوقه، يتراكضون عليه ويبنون ويتزاحمون ويختصمون، واتخذوا لهم فلسفة هي وعي الحياة المادية فوق هذه القنطرة وحدها، واقتناء التجارب فيها، ومدوا علمهم في تراب الأرض ورحابها، وصار من طبيعة تفكير أكثرهم أنهم لا يسألون عن النبأ العظيم الذي ينبث في السماء والأرض، ويوجه الأفكار المخلصة للسؤال عنه

وأنهم ليمرقون من الدين الموروث لأنهم لم يحسوا حقيقة في الأزل والأبد بأنفسهم، ولم يدر بخواطرهم التفكير في هذا الوجود الغريب الذي ليس من طبيعته أن يكونوا هم منه.

إنهم لا يلتفتون للأزل إلا حين يطرق بابهم مولود قادم فيفرحون ويضحكون له، ولا يتيقظون للأبد إلا حين يودعهم مودع ميت فيبكون عليه.

هم يضحكون للأول لأنه يظهر لهم وينمو ويتفتح (فيقتنونه) ويملكونه كمتاع. . . وهم يبكون على الذاهب لأنه ينتزع منهم ويختفي، ويذكرهم باختفائهم وذهابهم إلى المصير المجهول فيخافون. . . هم لا يتيقظون إلا حين ظهور شيء أو اختفائه. أما استمراره وحركة حياته فلا يسترعيان انتباههم.

مهما فلسف الحسيون الماديون الذين لا يؤمنون بالغيب فيما قبل حياتهم وما بعدها، فإن العقل والطبع لا يقبلان أن يصدر هذا الكائن العظيم من غير مصدر أزلي عظيم، ولا أن يذهب إلى غير مصير أبدي عظيم، لأنه يوقن أن في ضمير الكون كله نسباً عريقاً خالداً!

همسات

هنا همس من عوامل الحياة ودورات الأحداث ودوافع الأرحام وهناك همس من عوامل الموت وسكون الأجداث وعقم الرجام والإنسان بينهما لا يسمع. . . لأنه لا يسمع إ بأذنين. . . وهما لا يسمعان إلا ضجيج الطبل ورنين الدينار والكأس أما الهمس النافذ الدائم حاسة أخرى تكاد تكون مفقودة عند الأكثرين. . . الإنسان بين المهد واللحد، بين السرير والنعش، بين القصر والقبر؛ ولا يسأل ما هاته العجائب المتضادة التي ما جاء للحياة إلا ليدركها أو يحار فيها. . .

أحاول بهذه الكلمات أن أضخم هذه الهمسات حتى يسمعها الذين لا يسمعون إلا بالأذان، وأن أشق لها طريقها بين ضجيج الحياة. . . فلقد امتلأت الآذان بالصخب والزئاط والعياط حتى تصدعت الرءوس، وشاقها أن تسمع بعض الألحان الخافتة التي تفتحت عليها آذانها، وهي في مهد الحياة كما يشوق الرجال أن يستعيدوا الألحان والأهازيج التي سكبتها الأمومة في آذانهم. . .

وقد رأيت الآداب والفنون توشك أن تنساها وتجهل أقدارها وتغفلها إغفالا، وشغلت بضجيج الطبول وأشكال الفقاقيع الفانية وأحاديث الأسمار والمخاصمات والمتاجرات في الحطام والشهوات. . .

جامع أزهار

أنا جامع أزهار من حديقة الله. وكثيرون مشغولون بجمع احطابها وأشواكها.

فلا عجب أن أكون متفائلا مبتهجاً نتيجة ما توحيه بهجة الأزهار. . .

ولا عجب أن آخذ منها وجهها الرفيق الباسم الملون بألوان جميلة. والذين أخذوا أنفسهم بجمع احطابها وقشورها وأشواكها لا شك قد ورثوا من ذلك قسوة وعبوساً وعنفاً وتشاؤماً وغفلة عن العناية بنواحي الجمال والفن فيها.

فاللهم اجعل حظي دائماً جمع أسرارها من أزهارها وثمارها وجنبني أشواكها وعبوسها. . .!

قلوب مفتحة وقلوب مغلقة

من الذي له عظمة الله ورحمته ولطفه وجبروته وكبرياؤه، وهو مع ذلك يحتفى بكل مخلوق من رعيته، ويضع عينه عليه ويمنحه ويرشده؟!

إنه يزور ضمير كل إنسان قي جميع الأحيان. . . فالمخلصون له المترقبون لجلاله، الدائمو الفكر فيه، يفتحون له أبواب ضمائرهم كلما أحسوا نسائم رحمته أو عواصف نقمته! وحينئذ يدخلها سره، ويلقي فيها ما يشاء، ثم يتركهم فترات ليفكروا ويقدروا. . .

والمعرضون عنه الغافلون عن جلاله وعلمه، لا يفتحون له قلوبهم إلا كما يفتح البخيل باب داره. . فلا يحسون قربه ونفاذه إلى ضمائرهم. .

اللياذ والاحتماء

هل نملك ونحن عجزة ضعفاء، غير أن نتعلق بيد الله رب العزة والجبروت قهار السموات والأرض، وصاحب هذه الدار التي أدخلنا إليها وجعل لنا فيها مثل ما لغيرنا، فاعتدى علينا الظلمة أمام ساحة عدله، وهو ينظر القاتل والمقتول؟

هل نملك غير أن نتعلق بهذه اليد القاهرة، نسألها أن تبطش بالذين غيروا ما وضعته، وأفسدوا ما أصلحته، وشوشوا ما سوته، وحرموا الضعاف من برها وعطفها المباح؟!

لقد عجزنا وذهبت حيلتنا! وطمست علينا وجوه السبل لننقذ أنفسنا وننقذ ما فرحنا به من صور المثل العليا ومباهج الحياة! ولم يبق لنا إلا التعلق بيده، نسألها حيلتها ومكرها ليحيق بمكرها ليحيق بمكر أهل السوء!

لا وجوه:

لا وجه يطالعني مما أرى في الطبيعة ولا مما وراءها. . . لا وجه واضح المعالم محدث اللسان مضيء العينين! إنما هي أجسام غير محدودة ولا مشكلة إلا في النبات والحيوان. . . وما عداهما فأهراء من التراب والسحاب والحجارة. . . وأنصاب من الجبال، وأغوار من المياه. . . ثم صمت يكتنف الجميع. . . . . .

أمد نظري إلى عالم التراب فيقف مصدودا لدى عتبات الباب. . وأمده إلى السحاب فيضيع في الضباب. . . وأمده إلى النجوم فيرتد حسيراً، وأمده إلى أغوار الماء فلا يرى إلا خياله. . .

لا وجه إلا وجه الإنسان؛ وهذا قريب حاضر، ولكنه مثلي قاصر. . . ووجه الله، وهذا بعيد جليل لا يستطاع التحديق إليه. . .!

طالما وقفت وقوف العاجز المسجون أطلب أن أرى وجهاً آخر غير وجه الإنسان ليحدثني عن أسرار الحياة!

عبد المنعم خلاف