مجلة الرسالة/العدد 618/إلى حامي الإسلام. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 618/إلى حامي الإسلام. . .

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 05 - 1945



للأستاذ علي الطنطاوي

(جاء في برقيات أمس أن موسوليني قد أسر، ولو كان موسوليني البطل النبيل الذي حارب حتى سقط، لنسينا عداوته وحيينا بطولته، وللبطولة حقها لا يجحده كريم، ولكن موسوليني دعى ظالم، وخصم لئيم، فلذلك وجهنا أليه هذا المقال)

يا من يفتش في الكتب عن العبر! يا من يبحث في خرائب التاريخ، تعالوا: فإن هاهنا عبرة ما في التاريخ أجل منها، وما في الكتب مثلها. تعالوا فشاهدوا واعجبوا واعتبروا. . .

هذا الذي تكبر وانتفخ حتى ما تسعه ثيابه، وما يحتويه جلده. . . هذا الذي تطاول وتعالى حتى ما يجد محلا يرتقى إليه. ولا علا فوق علوه. . . هذا الذي طغى وبغى حتى استلب فراش هيلاسلاسي من تحته، وطرده من بيته. . . هذا الذي تجبر وتتمرد حتى ألقى الشيخ المجاهد الصالح عمر المختار من الطيارة فتلقته الأرض، أرضه وأرض قومه، أشلاء ومزقاً. . . هذا الذي جن من الكبر، وحم حتى صار يهذي في حماه، ويثرثر في جنونه، يقول: أنا حامي الإسلام!

تعالوا انظروا إليه أسيراً ذليلاً، يقاد إلى الموت، بأيدي قومه، قد طار هواء الكبر من جوفه، فأنحني واستخذى وهبط من بعد علاه إلى الحضيض، ونزل من يفاعه إلى القاع، فمن كان يظن أن موسوليني سيكون أسيراً في بلاده يساق إلى المشنقة؟

ألا لا يأمنن بعد اليوم ظالم، ولو مد الله له ومنحه قوة وأعطاه مالا. ولا ييأسن مظلوم ولو ابتلاه الله فقدر عليه الضعف وكتب عليه الفقر. ولا يفتحن فمه ملحد فاجر، فإن لهذا الكون إلها منتقماً جباراً عادلاً، يمهل ولا يهمل، ويمد للظالم فيأخذه أخذ عزيز مقتدر.

يا موسوليني، يا حامي الإسلام هلم احم رأسك غداً من سيف الجلاد. احم اسمك من لعنات التاريخ. احم (عظمتك. . .) من سخرية الأجيال، وهزء القرون الآتيات، فإن للإسلام رباً يحميه، وإن للإسلام يا أيها ألدوتشي. . . ولا دوتشي اليوم! جنداً إن لم يكن لهم (الآن) مثل رصاص جندك الذي لا يقتل، ومدافعهم التي لا تؤذي، وأسطولهم الذي لا يحارب، فإن لهم قلوباً فيها إيمان وسواعد فيها عزم، ونفوساً لا تهاب الموت. ومن يجمع الإيمان والعزم وحب الموت لا يغلبه شيء. وسل إن كنت ناسياً. . . سل عنهم بطاح طرابلس، وبقاع الريف، وجنات الغوطة، وجبل النار. سل جنود إيطاليا الذين كنت تخطب فيهم خطبك المسرحية. . . تظن أنك صرت بها قيصر ثانياً. . . لقد أجاب عليها شاعرنا حافظ إبراهيم، فقالها كلمة حق وصدق، كلمة قوة ونبل، فاسمعها إن لم تكن سمعتها:

قد ملأنا البر من أشلائهم ... فدعوهم يملئوا الدنيا كلاما

نعم لقد امتلأت الدنيا أمس يا دوتشي بالكلام عنك، والهتاف باسمك، باسم موسوليني الأسير الجاني. . . فهنيئاً لك هذه الشهرة وهذا المجد!

يا موسوليني، لقد قوض المسرح، ومزق الستار، وبدا المكنون للعيون، فإذا أنت وجندك كما قال الرافعي فيهم:

يا أمة النحت والتصوير ويحكم ... حتى جنودكم الأنصاب والصور

ولقد هدمت الأنصاب، ومزقت الصور. . . وثقبت هذه الكرة المنفوخة بإبرة، فعادت قطعة من جلد ميت. . .

يا من يفتش عن العبر، هذه عبرة فخذوها، وأذيعوها، واصرخوا بها في أذن كل ظالم، عله يسمع ويصيخ، ويتعظ ويعتبر، قبل أن يقضي الله فيه قضاء فيكون عبرة للمعتبرين.

قولوا لهم إن الظلم مرتعه وخيم، وإن دعوات المظلوم سهام مسمومة، إن الدهر دوار، والأيام دولاب، وربما عز غداً الذليل وذل العزيز، وجاءت ساعة الانتقام، وويل يومئذ للظالمين.

ويا أيها المظلومون، فرادى وجماعات، في كل قطر وتحت كل كوكب، اصبروا ولا تقنطوا من رحمة الله، ولا تيأسوا من روحه وكونوا معه، فإن الظالم مهما كبر، فالله أكبر، ومهما طالت يده وعلت، فإن يد الله فوق يده، ومهما ملك من أمر يومه، فإن غده وراء باب مغلق، ومفتاحه عند الله، وما يدري أحد بماذا يطلع عليه غده.

لقد قال هوجو شاعر فرنسا الأكبر لنابليون بطلها الأكبر الذي تجرأ لما ولد له (ملك روما) فقال المستقبل لي: (يا أيها الملك، إنك تستطيع أن تظفر في أوسترلتز، وأن تفتح فيينا، وأن تملك العالم، ولكنك لا تستطيع أن تقول المستقبل لي، لأن المستقبل يا أيها الملك، لله وحده!)

وأنت يا فاتح الحبشة، وغازي طرابلس، أخل الآن بنفسك وابك على خطيئتك، واستعد تلك الخطب، وفكر في هاتيك الأيام التي كنت تطل فيها من شرفة قصرك، على أولئك الآلاف المؤلفة من الشخوص السود، أبطال الفاشست، فتصرخ فيهم حتى تتمزق حنجرتك، وتتفجر رئتاك، وهم يجيبون بدوي يهتز له ذلك القصر. . . أين هؤلاء الذين أعددتهم ليكونوا عدتك في بنيك على طرابلس؟ أين ذلك الحماس وذلك الدوي؟ مجد بنيته في الهواء فضربته الرياح! يا غازي طرابلس، لقد كانت فرقة المغازية من الطرابلسيين وإخوانهم المسلمين أول فرقة وطئت أرضك، وغزت بلادك، وطاردتك حتى سقطت في الفخ، كما تسقط الضبع الخبيثة التي لا تأكل إلا لحوم الموتى لأنها لا تجرؤ على الأحياء! لا لست الأسد الجريح، ولا النسر المهيض!

فكر في ذلك الشيخ الشهيد الذي ملأ مصرعه كل قلب بغضاً لك، وكل عين دمعاً عليه، لقد انتقم الله له، ولكننا لا نريد أن يفعل بك ما فعلت به لأنا أكرم منك أصلاً وفرعاً، وأنبل خلقاً وطبعاً، ولأن نبينا نهانا عن المثلة، وأمرنا بالرفق حتى بالحيوان فلا نذبحه إلا بشفرة حادة، فاطمئن فقد أحدت لك الشفرة!

يا موسوليني، وما إياك نخاطب. لقد صرت أقل أذل من أن تخاطب؛ ولكن ليعتبر قوم لم يقلوا بعد قلتك، ولم يذلوا ذلتك. يا موسوليني أنا لا نشمت، وما الشماتة سجية فينا، ولكنا تدل على مكان العبرة فيك، حين نلت جزاءك. . . لقد أوكت يداك، ونفخ فوك، فغرقت، فالحمد لله الذي أنقذ الأرض منك أقر بك عيون من ظلمت، وأرانا فيك هذا اليوم الأسود. اللهم أنعمت فزد، فإنها لا تزال الأرض تعج بالظالمين!

القاهرة

علي الطنطاوي