مجلة الرسالة/العدد 600/فرقة التمثيل
مجلة الرسالة/العدد 600/فرقة التمثيل
للأستاذ زكي طليمات
المدير الفني للفرقة المصرية سابقاً
يسرن أن يتجه الجدل بيني وبين الأستاذ حبيب الزحلاوي إلى ما يفيد منه القارئ ويعلي جانب الحق.
في مقاله الأخير، تحت هذا العنوان، يزعم السيد الزحلاوي أنه مثالي في نظرته إلى أعمال الفرقة المصرية، ولهذا كتب ما سبق أن كتب. وهذا الزعم إنما هو بادرة شعورية من جانبه لخلجة لا شعورية في خبيئته الباطنة، أقامها عقله الواعي تبريرا لما حاوله من تجريح أراده بي فلم يفلح.
بيد أن المثالية الحقة العادلة في مهمة فرقة للتمثيل إنما تستمد عناصرها مما هو عليه المزاج السائد والمستوى الثقافي العام في البلد الذي تعمل فيه هذه الفرقة. فما هو مثالي في مهمة فرقة تعمل في لندن وباريس لا يمكن أن يكون كذلك من جانب فرقة تعمل بين القاهرة وجرجا وكفر الشيخ. اقرر هذا باعتبار أن دور التمثيل للجمهور أولاً وأخيراً. فإن لم يقبل عليها فلا فائدة من قيامها، وأن فن التمثيل ثقافة اختيارية لا إجبارية، وأن السواد الأكبر من المسرحيات التي تقدم يجب أن تكون في متناول فهم واستساغة السواد الأعظم من الجمهور.
ولا أتدخل في هذا الصدد في (المثالية المطلقة) لأن تحقيقها فيما نحن فيه يقف جامدا عند حد القولة الفرنسية ? ومفادها شتان ما الإزماع والإنجاز!!
فمثالية المسرح المصري في الوقت الحاضر - والأسف لا يحسه سواي - لا يمكن أن يكون اكثر من الأخذ بالتوسط والاعتدال بين ما يجب أن يقدم وما يمكن أن يقدم وما يمكن أن يقدم من المسرحيات بحيث يكفل ما يقدم في مجموعة إقبال الجمهور على دور التمثيل، هذا الإقبال الذي يبرر وحده قيام هذه الدور وفتح أبوابها.
عرفنا هذه المثالية على ضوء التجارب، وليس على هدى النظر، وأخذنا بها على احسن وجه، وأشرنا إليها في البيان الذي تصدرت به برامج مسرحيات الفرقة في كل عام، فقد جاء فيها بالحرف الواحد (ورسالة الفرقة وهي أدبية وفنية تهدف إلى المستوى الرفيع الأدب ولكن من غير تعال على ما يستسيغه الخاصة من الجمهور، ومن غير إسفاف إلى مجاراة العامة، وهي رسالة سامية بأغراضها متواضعة بوسائل تحقيقها).
وإخراجنا (شهرزاد) و (يوم القيامة)، كل واحدة في بداية كل عام فحسب، يحقق القسم الثاني من رسالة الفرقة وهي الموسيقى باعتبار أنها (الفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى) فلا لوم ولا تثريب علينا.
وفوق هذا فليس في هاتين المسرحيتين الغنائيتين ما يخرج على شرعة النوع الذي ينتميان إليه وهو (الأوبريت) وأن كنت أسف على شيء في إخراجهما على المسرح فلأنه لم يتيسر لي عناصر الرقص الاجتماعي الذي هو ركن رئيسي في هذا النوع من المسرحيات.
ومن التعسف والحيف أن نطالب هذا النوع بمعالجة مشكلات المجتمع، عن حنايا النفس البشرية بالتحليل النفسي الدقيق، وأن تنبسط أطرافه إلى الفلسفة والأخلاقيات واللاهوت.
ومسرحيات (كلنا كده) و (سلك مقطوع) و (قطر الندى) و (شارع البهلوان) ليس في تقديمها ضير ولا إفساد ولا انحراف عما يجب أن تكون عليه المسرحية الباسمة، لأنها كلها فكاهيات ظاهرها هزل وباطنها جد، تخفي كل واحدة منها وراء مظاهرها المفرحة موضوعا له أثره في التبصير والتقويم الخلقي. فمسرحية (كلنا كده) توحي بأن الحياة للخطأ والتوبة. والثانية تلوح بأن التمادي في توخي القصاص من جانب المرأة لرجل فيه مداعاة إلى تعقيد الأمور والتردي في أخطاء أخرى. والثالثة تقرر أن الجريمة إلى قصاص وأن الشر لا يكون طريقا إلى خير. والرابعة، على إغراقها في الهزل، إنما هي سخرية من الغيرة العمياء. مسرحيات باسمة تثير الضحك في وقت عز فيه الابتسام بفعل ضائقة الحرب
وكلها للردع وللإيحاء بما يجب أن تكون عليه جوانب من الحياة ليسعد الناس ويستريح القاضي. فأين في هذه المسرحيات ما يشين؟ ومن أين جاء للسيد الزحلاوي أنني اعترفت بأنها مشينة ومقالي السابق بين يدي القراء؟؟
أما مثالية الأستاذ الزحلاوي، ومفادها (أن تكون الفرقة مائة في المائة للمسرحيات الرفيعة، ولا يهم أن يحضرها الجمهور أو لا يحضر) فأقول عنها أنها ضرب من الاجتلاب شف عما وراءه، ولون من التعالم النظري، ومحاولة للسطوع واللمعان من ضوء غيره.
واعجب مما تقدم أن يبرز الأستاذ مطالبته بهذه المثالية بزعم أن الفرقة المصرية (حكومية بكل معاني الحكومية) وكان الحكومية في روعه مدعاة إلى أن تغير الأشياء من طبائعها وتتردى في مهاوي الفشل والخيبة لخروجها على محاور ذاتيتها، فتكون الفرقة هيئة لا يحسها إلا المقعدون ولا يأبه لها إلا الحالمون، تعيش على هامش الحياة كالتكابر وملاجئ العميان. . .
(وحكومية) الفرقة، وهم من أوهام الأستاذ الزحلاوي، لأنه من أولى مستلزمات هذه (الحكومية) أن تدفع الحكومة أجور الممثلين وكافة مصاريف الفرقة، وهذا غير ما هو واقع في الفرقة، وقد سبق أن قررت أن الفرقة هيئة تشملها رعاية الحكومة كما تشمل هيئات أخرى تمدها بالإعانة، وأن الإعانة التي تدفعها لا تفي بأجور الممثلين فحسب.
لندع الأوهام ولنواجه الحقائق. . أن مسرحنا المصري كائن كما يستحق كل مصري أن يكون، وكما نكون نحن يكون مسرحنا. ونحن نستطيع أن نقدم مسرحيات لشاكسبير وموليير وديماس الابن واوسكار وايلد وايملي برونتي إلى جانب فكاهيات ومحاولات من وضع أقلام مصرية لم يصل إلينا خير منها، نقدمها على مضض لتغري الجمهور على غشيان مسرحنا وتذوق مسرحيات من ذكرت من صفوة المؤلفين العالمين، ونحن فيما نفعل نرقص على إيقاع الزمان ونصدر عن مثالية المسرح في بلد لا أود أن اذكر النسبة المئوية في متعلميه. فإذا كانت هذه الحال تمض السيد الزحلاوي حقا فليجرد قلمه على الجمهور يوجهه ويستحثه على مشاهدة النفيس من المسرحيات، فهذا أجدى به، وبنا ابر واكرم. أما أن يوبس الثري بيننا وبينه مسوقاً بنطحات عاطفية وشطحات شخصية لا ترتكز على الروية والاعتبار فأمر أرجو أن يعاود النظر فيه.
زكي طليمات