مجلة الرسالة/العدد 592/تلك الروح وذلك اليوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 592/تلك الروح وذلك اليوم

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 11 - 1944


للدكتور زكي مبارك

بعد جفوة مسبوقة بنذير يئس القلب أثقل اليأس، واليأس يتجسم أحياناً فيصير أثقل من الجبال، وأبرد من الثلوج

ثم بدت الحياة لعيني وكأنها بيداء قفراء ليس فيها نبات ولا ماء ولا ظلال

كنت أسير في شوارع القاهرة فأراها تموج بالبشر والإيناس، وأرى القاهريين كما عهدت مسرورين منشرحين، كأن الدنيا ليست في حرب شعواء، وإنما هي في حرب خفيفة الظل، هي الحرب بين العيون والقلوب

وكنت أنظر فأراني وحيداً شريداً، وإن كان من يراني يتوهم أني ماض إلى ميعاد، فقد كانت القاهرة فيما سلف من أيامي ملاعب للمواعيد اللطاف

لقد اغتربت أسابيع كانت لهولها أطول من الآباد، بفضل الجفوة المسبوقة بنذير من تلك الروح، وكنت أخشى أن يطول اغترابي فيما بقى من أطياف حياتي، فما حياتي بعد تلك الروح غير أطياف

هذا هو اليأس، وذلك طعمه المرير، وتلك أيامه السود

وحاولت أن أعيش في ظلال الذكريات فتكدر عيشي، لأن تلك الروح لا تزال بعافية، وهي صائرة إلى غيري إن ضاعت من يدي، فما في الدنيا جمال يعيش بلا عاشق، ولو كان مقدوداً من الصخر الجلمود

لابد من رجعة أعنف من رجعة السيل، لابد من اقتناص تلك الروح من جديد، لأحمها من الضيم وأحمي نفسي من الموت

قلت لنفسي: إن هنالك غنيمة مضمونة وهي سماع صوتها في الهتاف، فما نطقت كلمة (ألو) إلا تمثلت أنها بلبل جماله كله في الحلق

وبكلمتين اثنتين تواعدنا على التلاقي، فأين النذير؟ وأين الجفاء، وأين اليأس؟

إن عقول المحبين عقول أطفال!

كان يجب أن أنتظر في حديقة البيت، وأن يكون في يدي كتاب، مع أني لن ألقى تلك الروح في ضوء المصب وتخفق أرواح في الطريق فلا ألتفت، لأن الروح التي أنتظرها لن تغيب عني، وإنني لأشعر بخطواتها على أبعاد الألوف من الأميال

ما هذا الذي أراه؟

إن الروح ثقيل وقد تجسمت في عروس من عرائس البحر في دمياط، وأنا أتلقاها بقلب قبست ناره من كهرباء الوجود

- أنت؟

- أنا؟

- ومن أنت؟

- أنا العاشق الذي صبر فظفر بعد صبوة دامت أكثر من عشر سنين

- وتستحق عطفي عليك؟

- إن رأيت يا روحي أن تؤدي زكاة الجمال

ثم يدور الحديث بما يعجزني، لأن الروح تقول:

(لقد أوحينا إليك)

فما هو إيحاء تلك الروح؟

أمرتني أن أصف لحظات التلاقي ولحظات العتاب، وتلطفت فلم تأمرني بوصف وجهها الوهاج، ولو أني أطعتها لاكتفيت بكلمة واحدة، وهي أني بها أعيش، ولها أعيش، فما للحياة بدونها مذاق

غنائمي من حياتي هي التعرف إلى تلك الروح، وانتظار عطفها في أوقات الكروب، وليس في الوجود بجانب عطفها كروب

ثم صحونا فوجدتها تشكو عدوان أظفاري. كتب الله عليها أن تشقى إلى الأبد بعدوان أظفاري! إن كنت جرحت جسمها فقد جرحت قلبي. . . والجروح قصاص

أنا صحوت؟ هو ذلك، وما الذي يمنع من أن أخادع نفسي؟

قضيت اليوم التالي وأنا لا أصدق أن ما وعته الذاكرة من وقائع الليلة التي مضت كان وقع بالفعل، فما تسمح الدنيا الغادرة بمثل ذلك النعيم، إلا أن يكون حلماً من الأحلام

وأستنجد بالهتاف لأسمع (ألو)، ولأعرف أن ما وقع حقيقة لا خيال، فيكون الجواب بالإثبات مصحوباً بالاستغراب من شطحات صوفية وأنها تلك الروح بوادر جنون

وآخذ بتلابيب الفرصة فأدعو إلى لقاءه ثانية لأقيم البرهان على أني عاقل لا مجنون

اللقاءة الثانية بالنهار لا بالليل، وبالصحراء لا بالبيت، ثم يدور الحديث:

- أنت مصر على أن الوجود ليس فيه فضاء؟

- نعم

- وما دليلك؟

- الدليل حاضر، وهو أن ما نراه فضاء هو في الواقع مسكون بالأربطة الكهربائية التي يتماسك بها الوجود، وهو باعتراف الجميع مسكون بالهواء، فهو ليس بفضاء

- سلمت إلى أن أجد ما ينقض رأيك، ولكن الذي لن أسلم به أبداً هو إصرارك على أن كل موجود فيه حياة حتى الجماد

- الجماد كلمة اصطلاحية فقط، ولكنه في الحقيقة يحيا، كما يحيا الحيوان والنبات، وأنا سأجد الشواهد من الحجارة المنثورة في الصحراء. . . انظري هذه زلطة في حجم ثمرة الدوم وشكل ثمرة الدوم

- أتظن أنها دومة تحجرت؟

- هو ذلك بالفعل. . . ثم انظري فهذه زلطة في حجم الخيارة وشكل الخيارة

- هي أيضاً خيارة تحجرت؟

- نعم

- ولماذا لا تتحجر جميع الثمار؟

- لأنها ليست جميعاً في قابلية متساوية ولا فاعلية متساوية

- والنتيجة؟

- النتيجة أن الجماد الذي يتحول من وضع إلى وضع لا يتم له التحول بدون حيوية، وقد جهل أبو العلاء حين قال:

والذي حارت البرية فيه ... حيوانٌ مستخرجٌ من جماد

- وما رأيك في الآية الكريمة (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي)

- القرآن يعرض الظواهر التي تعارف عليها الناس لتكون الحجة على القدرة الإلهية أقوى وأوضح، فمن العجيب في نظر من لا يعرف أن تكون البذرة الخرساء أصلاً للدوحة الشماء، وأن تكون البيضة الصغيرة أصلاً لطائر جميل يغرد أو يصيح

ولكن البذرة قد تفسد فلا يصدر عنها شجر ولا نبات، والبيضة قد تفسد فلا يصدر عنها طائر ولا حيوان

- ليس في الوجود فساد، وإنما هو تحول، فالبذرة الفاسدة والبيضة الفاسدة تتعرضان إلى تعفن تعيش به خلائق

- آمنت بالله وكفرت بفلسفتك

- لن تؤمني بالله إلا يوم تدركين حقائق هذه الفلسفة، يا محبوبتي الغالية

- وأصدق أن الحجر فيه حياة؟

- نعم، في الحجر حياة، وأثمانه تتفاوت لهذا لسبب، فالحجر الذي يباع رخيصاً في هذا اليوم لأنه لين، سيباع غالياً بعد ألف سنة لأنه صلب، وإن صبرنا عليه مليون سنة فقد يتحول إلى جرانيت، وهذا هو الفرق بين محاجر طره ومحاجر أسوان

- بدأت أفهم

- وأنا لو شئت أفهمت جميع الأغبياء

- أنا غبية؟

- اسمعي يا غبية ثم اسمعي، هذا البناء الشاهق مم يتألف؟ أنه يتألف من جمادات يأخذ بعضها برقاب بعض، لأنها جميعاً أحياء، فالجبس يعشق الطوب، والأسمنت يعشق الحديد، وبفضل هذا التعاشق تنهض هذه البنايات الشواهق، كما تبتسم الخمر حين يصافحها الماء

- وأنت بالأمس أنكرت الموت، وهذا أغرب ما سمعت من الآراء

- ليس في الوجود موت، فالدجاجة التي ذبحناها وشويناها ماتت في نظر الناس، فكيف تستطيع وهي ميتة أن تثير فينا النشاط حين نأكلها في صباح أو مساء؟ واللحوم التي ترد إلينا من استراليا محفوظة في علب هي لحوم حيوانات بعضها ذبح قبل أعوام طوال، ونحن نأكلها فنشعر بنشاط وأريحية، فكيف نصدق أنها ماتت؟

- إننا نرى بأعيننا ناساً يموتون، وندفنهم ونترحم عليهم، ونقيم لفراقهم الحداد

- أنهم يموتون موتاً عرفياً، وهم في الواقع أحياء، فلو بدأ لرجل أن يأكل قطعة متعفنة من جثة ميت لأصابته نوبة تؤدي به إلى الهلاك، وهو نقله من حالة اسمها الحياة إلى حالة اسمها الموت في عرف الناس. . . وهنالك صورة أوضح من هذه الصورة في تأكيد الحياة لمن نتوهم أنهم أموات وهي خلود الفكر وتأثيره الموصول من مكان إلى مكان على اختلاف الأزمان، فأفلاطون لم يمت، والغزالي لم يمت، والمتنبي لم يمت، لأن هؤلاء بتأثيرهم الروحي أحياء غير أموات

- والدكتور زكي مبارك؟

- هو أيضاً لن يموت، وسيحيا بفكره وروحه حياة لا يعروها فناء، وسيقال فيما يلي من الأجيال أنه أول شارح لنظرية وحدة الوجود

- ولكنها نظرية غير إسلامية

- قلت ألف مرة أنني أتكلم باسم الفلسفة لا باسم الدين، فلا تثقلي علي بأمثال هذا الاعتراض، فأسلافنا ظلموا أنفسهم حين قالوا إن الفلسفة لا تخالف الدين، وكانت النتيجة أن يعقوا الفلسفة والدين

- بدأت أفهم

- ألم أقل أني لو شئت أفهمت الأغبياء!

- أنا غبية؟ أنا؟

- لو لم تكوني غبية لما كدرت هذه الساعة اللطيفة بهذه الاعتراضات

- وهل يؤذيك أن أدعوك إلى شرح آرائك الفلسفية ليرعوي من يتهمونك في عقيدتك الدينية؟

- الناس لا يهمونني في شيء، فمصايرنا جميعاً محتومة بصورة أزلية، وليس للمؤمن ولا الكافر إرادة فيما صار إليه، وليس هناك تعليل واضح لسحر هذه العيون

- عيوني؟

- عيونك وعيون ليلى المريضة في العراق

- يظهر أن تهمتك بالجنون لها أصل

- نعم، ومجنون ليلى يتعجب من أن تغزوه ليلى بعينيها الكحيلتين وبينها وبينه مسافات تعجز عن اختراقها الشياطين - أسكت يا مجنون!

- وهذا الفضاء الذي بيني وبين بغداد ليس بفضاء، وإنما هو مجال لأسهم سحرية ترسلها ليلى في كل وقت، وإني لأراها معي في هذه اللحظة كما أراك معي

- اسكت، اسكت، فأنا أخاف أن تقتلني الغيرة

- تغارين من الوهم يا غبية؟

- ليس هذا بوهم، إن ليلى تطاردني في كل يوم وتحاول أن تسد طريقي إليك

- ومن أجل هذا يا محبوبتي أنكر المكان وأنكر الزمان

- ماذا تقول؟

- ليلى معنا، أليس كذلك؟

- بلى، وأنا أغار منها أعنف الغيرة

- إذن فليس هناك مكان، وهل تغارين مما وقع بيني وبينها في سنة 1937؟

- أغار، أغار

- إذن فليس هناك زمان

- خبلتني، خبلتني

- كذلك كانت تقول ليلى، زادك الله وإياها خبالاً إلى خبال!!

- هذا الحوار ينتهي بنا إلى وحدة الوجود؟

- إن فهمت مرادي يا أجمل غبية رأيتها في حياتي

- تلميذتك لا تكون غبية

- إذن فاسمعي، ثم اسمعي، ليس في الوجود فضاء ولا سكون ولا موت

- آمنت وصدقت

- وليس في الوجود زمان ولا مكان

- آمنت وصدقت

- وليس في الوجود ماضٍ ولا مستقبل

- ما معنى ذلك؟

- معناه يا طفلتي أن الوجود كله دفعة واحدة، فالماضي والحاضر والمستقبل صور لحقيقة أبدية لا تحول ولا تزول

- لم أفهم.

- ستفهمين، هل تؤمنين بالأحلام؟

- أومن بالأحلام

- تؤمنين بأن الرؤيا قد تتحقق بعد سنين؟

- هو ذلك، ولي مع الرؤيا تواريخ، فقد رأيتك في منامي قبل سنين، وكان في الرؤيا أنك تمزج بين المجادلة والمغازلة لانخدع لك باسم العقل

- وأنا أيضاً رأيتك في منامي قبل سنين، وكان في الرؤيا أنك تلميذتي لا معشوقتي

- وانخدعت لك؟

- تلك أضغاث أحلام!

- أسرع وحدثني عن رأيك في الأحلام

- اسمعي، الأحلام واقعة بلا ريب، ولها تفاسير أختصرها في تفسيرين اثنين: التفسير الأول هو تفسير بعض علماء النفس، وهو أنها تعبير عن رغبات مكبوتة نعبر عنها في منامنا لنراها بعد أيام أو أسابيع، والتفسير الثاني هو تفسير الدكتور زكي مبارك، وهو أن لنا حاسة دقيقة تخترق المستقبل في بعض الأحايين فتحدثنا بما سيكون بعد أزمان طوال

- وكيف نعرف ما سيكون بعد أزمان طوال؟

- كما يعرف علماء الفلك أن الشمس ستكسف أو أن القمر سيخسف بعد عدد من السنين، ومعنى ذلك أن الوجود كله خلق دفعة واحدة، وأن الرجل الملهم قد يرى في منامه ما سوف يقع، لأنه سوف يقع، ولو طال الزمان

تلك الروح، وذلك اليوم، وآه ثم آه من تلك الروح وذلك اليوم! تلك الروح ملك يدي، وإن باعدت بيني وبينها مسافات لا أعترف لها بوجود

وذلك اليوم ملك يميني، وهو يومنا الهائم بمجاهل الصحراء، أنه يوم تجسم فيه إيماني بوحدة الوجود، وأعلنت فيه إشراكي بأوهام الغافلين

قيل أنه يوم ذهب، وأقول أنه يوم لن يذهب، لأنه سيلاحقني إلى البواقي من أيامي، وليس لأيامي نهاية، لأني قبس من كهرباء وحدة الوجود.

زكي مبارك