مجلة الرسالة/العدد 572/رسائل التعليقات للرصافي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 572/رسائل التعليقات للرصافي

مجلة الرسالة - العدد 572
رسائل التعليقات للرصافي
ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1944


3 - رسائل التعليقات للرصافي

وحدة الوجود في الفلسفة اليونانية

للأستاذ دريني خشبة

ذهب الأستاذ الرصافى في تعليقاته إلى أن (وحدة الوجود) هي شئ لم تعرفه الدنيا قبل الإسلام، وأن الرسول الكريم هو أول من عرفها، وأنه لم يذكر منها شيئاً لأصحابه إلا ما لمح به منها لأبي بكر، وإن يكن قد أشار إليها في القرآن، ثم ظلت مجهولة حتى القرن الثاني من الهجرة حينما جهر بها المتصوفة الذين يعدهم الأستاذ وحدهم فلاسفة المسلمين (ص 13 - 14)

وقبل أن نخوض في هذا الحديث الذي لم نكن نؤثر أن نعرض له لو لم يدع الأستاذ الرصافي جميع المسلمين إلى الأخذ به، عائباً عليهم أخذهم بظاهر ما أتاهم الرسول به، وعدم فهم ما قال (محمد) في القرآن على أصله، مستشهداً على غفلة المسلمين بكلام لمستشرق إيطالي جاهل يقول: (إن المسلمين تمسكوا بمتن الإسلام لا بروحه، فأغمضوا عيونهم على شكل الأحكام التي أثبتها محمد، وبقوا جامدين عليها، فلذا بقيت على ما هي عليه من ركود وجمود، أي بقيت ديناً ابتدائياً لا يتمشى مع كل زمان؛ وليس ذلك من عمل محمد، بل هو من عمل المسلمين. . .) ص 203، داعياً لهذا المستشرق بالا يفض الله فاه لقوله هذا الكلام. . . فض الله فاه وأفواه الزنادقة أجمعين!

لولا هذا اللغو الذي يدعونا الرصافي إليه، ولولا أنه طبعه في كتاب وزعه وأهدى منه، لما آثرنا أن نخوض في إفك نهانا رسول الله عن الخوض فيه حتى لا نهلك. . . ولكن ما الحيلة ونحن نرمي بالجمود والدعوة إلى الحجر على حرية الفكر إذا دعونا إلى محاربة هذا البهتان الذي شاع في الدولة العباسية؛ فكان في شيوعه القضاء على أمجاد المسلمين الفكرية والسياسية

قبل أن نخوض في هذا الحديث إذن نحب أن نعود بالأستاذ الرصافي، هداه الله، إلى ما قبل الإسلام بقرون عشرة أو نحوها. . . لنستعرض ما كان يراه فلاسفة اليونان في هذا الوجود، وذلك منذ أن بدأت الإنسانية تتفلسف تلك الفلسفة التي نمقتها، وإن تكن هي التي هدتنا إلى الله خالق كل شئ. . . المحيط بكل شئ، الهادي إلى سواء السبيل. وسنجتهد أ نلتوي بالقراء في مهامه تلك الفلسفة اليونانية التي تصور لنا أخصب نضال فكري في التاريخ للاهتداء إلى الحق. ومع ذلك فلم يفز الحق منها بشيء: وسنرى أن اليونان فكروا في وحدة الوجود، وأن مشكلات هذه الوحدة كانت تتعقد في رؤوس فلاسفتهم تعقداً يقف عند أصول مضحكة، لأنها مزيج من خيبة الرجاء، ومن الخبط في ظلمات لم يحن الحين للتفكير الإنساني أن يستجلى أسرارها. ومع أنه من الجرأة أن نلخص هذه الأفكار المتضاربة في عمود أو عمودين من أعمدة هذه المجلة، إلا أننا مضطرون إلى ذلك، لنضحك آخر الأمر على وحدة الوجود التي تملأ أدمغة متصوفينا، كما ضحكنا أياماً ونحن نكب على الفلسفة اليونانية نتأملها ونتدارسها عسى أن تهدينا إلى شئ نفرح به

1 - فكر طاليس في نشأة الموجودات، حية وجامدة، فزعم أنها نشأت من الرطوبة ولكن كيف نشأت؟ هذا ما لم يستطع طاليس أن يفسره

2 - ثم زعم تلميذه أنجزماندر أنها خلقت من مادة غير معينة ولا محدودة، وذلك بالانفصال عنها، ثم قضى الله عليها بالفناء في تلك المادة ثانية للأنانية التي أبدتها في أن تكون لها حياتها المستقلة!

3 - ثم زعم أنجز مينس أنها البخار - وأن الأشياء قد خلقت منه، إما بالتكاثف (السحاب والماء والتراب) أو بالتخلخل (النار والشموس)!

4 - ثم جاء فيثاغورس وأتباعه الذين اقتدوا بأورفيوس الموسيقي في تقشفه وزهده واتخذوا البياض شعاراً لهم وسعوا إلى تطهير النفس من أدران المادة بالتفكير الفلسفي فزعموا أن الأشياء قد خلقت من العدد (!!) وملئوا فلسفتهم بالألغاز التي لا يفهمها من ليس من طائفتهم

5 - ثم كان أجزنوفانس المنشد الذي ثار بأساطير هومر الإلهية ودعا الناس إلى عبادة الله الواحد الذي ليس كمثله شئ والذي تنزه عن الأعضاء، فهو سميع كله سمع، وبصير كله بصر وعاقل كله عقل. . موجود في كل الوجود إلا أنه كان يؤمن بأن الله (حال) في العالم، وأنه ليس شيئاً غيره، وهو لذلك أول قائل بوحدة الوجود

6 - ثم جاء بارمنيدس فأنكر كل ما تدركه الحواس ولم يؤمن إلا بما يدركه العقل، وذهب إلى أن كل شئ غير الوجود - الكينونة! - خداع ووهم، لأن المحسات كلها فانية والوجود وحده هو الأزلي الخالد، إلا أنه عاد فاعترف بكرّية الوجود وأنه يشغل مكاناً وفي ذلك اعتراف ضمني بمادية الوجود. . .!

7 - ويؤيد الفيلسوف زينو ما ذهب إليه بارمنيدس، وينكر الحسيات والتعدد والحركة (وسبحان واهب العقول!) فكأنما العالم عند هؤلاء عالمان، عالم الوجود المعنوي، وعالم الوهم (اللاوجود) الحسي - أما ما هي العلاقة بين العالمين فلم يحاولوا تبيانها

8 - ويجئ هرقليطس فينقض آراء من تقدموه، ويعترف بالتقاء عالمي الوجود واللاوجود، بل باتقاء المتناقضات كلها، محتجاً بأن التناقض هو في نظرنا فحسب، ثم يرتأي أن العالم كله مخلوق من النار، وأنه دائم التحول لا يثبت على حال واحدة لحظة واحدة، وأن العقل الإنساني والحياة الإنسانية هما قبضة من تلك النار تشتعل بالحواس والتنفس - ودوام التحول هو دوام الاشتعال إلى أعلى وإلى أسفل الخ

9 - ثم يأتي إميذوكلس فيرد المخلوقات إلى أربعة جذور (عناصر!): التراب والماء والهواء والنار، ويزعم أنها لا تتغير في طبيعتها وأن الذي يقوم بالاتصال بينها هو الحب (الجاذبية) وأن الذي يقوم بالانفصال بينها هو البغض (التنافر). ويتناوب الحب والبغض تجميع العناصر وتفريقها إلى الأبد، فمرة ينتصر الحب فيصير الكون مزيجاً (وحدة) وأخرى ينتصر البغض فتتفرق العناصر

10 - وتأتي نوبة الذريين، فيقول ديمقريطس إن العالم يتركب من ذرات يدفع بعضها بعضاً، خبط عشواء (!!) فيناقضه أناجزا جوراس الذي يقول بتعدد العناصر وبوجود قوة عاقلة مدبرة حكيمة هي (العقل) أو ما يسميه هو ? تتولى تحريك تلك العناصر وتوجهها وجهة غائية صالحة تضمن جمال الكون ونظامه، إلا أنه يعتقد قدم العقل والعناصر على السواء وأن أحدهما لم يخلق الآخر، وإن حرك العقل العناصر وألف معها (وحدة الوجود!) - ومع ذاك فقد ظل اثنينياً آخر الأمر

11 - ويأتي (دور) السوفسطائيين الذين يعنون بالحياة العملية، ويهملون الفلسفة النظرية، وزهدوا في المناقشة حول الآلهة. . . ويقول أحدهم (بروتاجوراس): (إنني لا أستطيع أن أقرر إن كانوا موجودين أو غير موجودين، كما لا أستطيع أن أستبين صورهم، وإن حياتنا القصيرة لا تساعدنا على معرفتهم معرفة صحيحة لشدة الغموض الذي يكتنفهم!) وبهذا أثاروا الشكوك وزعزعوا العقائد، وإن خدموا الثقافة خدمة جليلة.

12 - ويصلح سقراط ما أفسده السفسطائيون، وينشئ نظرية المعرفة القائمة على الإدراكات العقلية والمعاني الكلية، والتي جعلها أساساً للفضيلة كما جعل الجهل أساساً لكل الشرور، وتجاهل عواطف المرء وشهواته؛ فكانت نقطة الضعف في فلسفته التي ردت إلى الناس إيمانهم بالحقائق الخارجية على أساس ثابت غير الأساس القديم الساذج الذي هدمه السوفسطائيون. وقد انقسم أتباع سقراط بعد موته إلى طوائف ثلاث، فانصرف الكلبيون عن زخرفة الحياة وآثروا التقشف، وزهدوا في العلوم والفنون. بل دعوا إلى الجهل مكتفين بالفضيلة التي تكفل لهم السعادة! أما القورينيون فقد خالفوا الكلبيين في طريق الوصول إلى الفضيلة ولم يروا السعادة في الزهد والتقشف، بل رأوها في اللذة والاستمتاع بكل ما تصبو إليه النفس في حدود الاعتدال حتى لا تكون النتيجة شراً، وكلما كانت اللذة حسية كانت في نظرهم أضمن جلباً للسعادة من اللذة الذهنية، ولهم في شرح الملذات كلام طويل عجيب - أما الميجاريون فقد نشدوا السعادة - أعني الفضيلة - في حياة التأمل والمعرفة - في التعمق الفلسفي، واستكناه حقيقة هذا الوجود

13 - ثم كانت نظرية المثل التي قال بها أفلاطون، وأن لكل شئ مثالاً من الكمال مجرداً من الحس يسعى إليه، فهو يجعل المثل ذوات مستقلة عن الأشياء لها وجود قائم بنفسه، وجعل مثال الخير أساس جميع المثل: ومع أن أفلاطون يعترف بوجود إله خلق العالم ويمسكه ويدبر أموره فهو يتردد بين الوحدانية والتعدد، ولا يحدد العلاقة بين الله ومثال الخير؛ والعالم عند أفلاطون عالمان. عالم الحقيقة وهو عالم المثل، وعالم الظواهر وهو هذا العالم المحس، وهو صورة لعالم المثل. ثم هو يؤمن بالتناسخ، فتعود النفس السعيدة إلى عالم المثل وتبقى فيه حقبة ثم تعود فتحل في إنسان آخر؛ فإن كانت شقية عذبت قليلاً ثم حلت في جسم مخلوق وضيع، والسعادة عند أفلاطون هي الإحاطة بعالم المثل، وفهم العلاقة بين المثل والمحسوسات والتمتع بالمتع البريئة، ثم تحصيل أكبر قدر من الثقافات، ونرانا من أفلاطون أمام ثالوث عجيب: المادة، والمثل، والله، وكلها قديم. وهذا هو الضلال

14 - وقد نقد أرسطو نظرية المثل وهدمها من أساسها لما خلق أفلاطون من هذا العالم الخيالي الذي يوازي هذا العالم المدرك، ولأنه لم يستطيع تعليل كليهما ولا تعليل الحركة في العالم الثاني. وقد رأى أرسطو أن سبب هذه البلبلة في أفكار الفلاسفة هو عدم وجود قواعد ثابتة تضبط أفكارهم وكلامهم فاخترع المنطق لهذا الغرض. وقد عرض لمسألة الله وخلق العالم فنفي الزمنية بينهما، بل جعلهما مقترنين، اقتران المقدمة بالنتيجة، فلم يكن الله أولاً ثم كان العالم. وبهذا كان العالم قديماً عند آرسطو. . . والله عنده هو الكمال المطلق والعلة الصورية الغائية التي تحرك هذا العالم بجذبه إليه. وهذا هو الترقي، اقتراب العالم من الكمال المطلق. . . وما دام العالم قديماً فهو لا أول له. . . وكذلك لا نهاية له. . . واضطرب أرسطو في تصور ذات الله، هل له وجود مستقل مشخص، أم ليس له هذا الوجود المشخص للمستقل؟ فقول آرسطو مرة إن الله يحيا في سعادة أبدية، وأنه هو الوجود المطلق يدل على التشخيص والوجود المستقل؛ ولكن تعبيره عنه مرة أخرى بأنه هو الصورة المجردة يعني أنه من مادة لا وجود لها. . . وعلى هذا فلا وجود له إلا هذا الوجود المعنوي. وليس بعد هذا اضطراب في فلسفة المعلم الأول الإلهية. أما فلسفته الطبيعية فسليمة لا غبار عليها، إذ تتبع هذه الفلسفة نشوء العالم من الهيولي إلى الصورة، وإن فضله دروين في هذا الباب

وبعد، فكيف بعد هذا العرض السريع لهذه الناحية من نواحي الفلسفة اليونانية يزعم الأستاذ الرصافي أن وحدة الوجود هي شئ إسلامي بحت لم يعرفه إلا محمد، ثم فلاسفة المتصوفة المسلمين بعد محمد بقرن أو قرنين من الزمان؟!

ثم ماذا أصاب الفلاسفة اليونانيين من الهلكة والتخبط، من لدن طاليس أول فلاسفتهم إلى آرسطو أعظم مفكريهم، بسبب القول باندماج الله في العالم أو العالم في الله. . . إلا من هدى الله!

أما الرد على الأراجيف التي تنشأ عن هذا الإفك، فليس هذا أوانه

دريني خشبة