مجلة الرسالة/العدد 572/بعث القديم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 572/بعث القديم

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 06 - 1944



للدكتور محمد مندور

ليس من شك في أن ثقافتنا الحديثة تقوم كما قلنا في المقال السابق على أساسين: بعث التراث العربي القديم والأخذ عن أوربا، ولقد كان للحملة الفرنسية في ذلك أبلغ الأثر وذلك لأمرين: نقل الطباعة إلى مصر وفتح منافذ بلادنا على العالم الغربي. ولا ريب في أن عودة الفرنسيين إلى بلادهم حاملين آلات الطباعة التي كانوا قد أتوا بها إلى مصر قد أخر نهضتنا الثقافية ما يقرب من جيل، وذلك لأننا لم نستطيع أن نستخدم الطباعة بعد ذلك إلا في سنة 1822 أي بعد الحملة الفرنسية بعشرين عاماً، وإذا ذكرنا أن حركة البعث العلمي في أوربا لم تصب ما أصابت من نجاح في القرن السادس عشر بعد الميلاد إلا بفضل تلك الطباعة، أدركنا أن نهضتنا الثقافية الواسعة لم تبدأ في حقيقة الأمر إلا منذ استخدامنا لآلات الطباعة على نحو مطرد أي منذ سنة 1822 كما قلنا، وإنه وإن تكن الجمعيات العلمية التي ألفت لنشر الكتب لم تتكون في حقيقة الأمر إلا بعد ذلك بكثير؛ فجمعية المعارف التي أسسها محمد عارف باشا لا ترجع إلى أبعد من سنة 1860 وهي تشبه في تكوينها إلى حد بعيد لجنة التأليف القائمة الآن وشركة طبع الكتب العربية التي كان من أعضائها حسن باشا عاصم وأحمد بك تيمور لم تتأسس إلا سنة 1898؛ إلا أن حركة البعث أقدم من ذلك بكثير فهي لم تنتظر تكوين الجمعيات لتبدأ، ولعل انتشار الأفكار الأوربية بفضل أعضاء البعثات كان من أهم الدوافع لذلك البعث، فرجل كرفاعة الطهطاوي قد فطن بلا ريب أثناء إقامته بفرنسا إلى أن النهضة الأوربية التي رآها قد ابتدأت بحركة بعث قوية للآداب القديمة لاتينية ويونانية، ولهذا كان يؤمن بأن نهضة بلادنا لا يمكن أن تعتمد على النقل عن أوربا فحسب، بل يجب أن تعنى إلى جانب ذلك ببعث القديم العربي

ولقد ظهرت آثار هذا البعث في الشعر قبل ظهورها في النثر، وأكبر شخصية تمثل بعث الشعر هي بلا شك شخصية محمود سامي البارودي، وتلك ظاهرة من اليسير فهمها، فالنثر الذي كان شائعاً عندئذ لم يعد أن يكون: إما نثراً تعبيرياً يستخدم في التأليف العلمي أو في الصحافة، وإما نثراً شخصياً كالذي نجده في الرسائل، والنوع الأول لم يكن يخلو من عجمة في الصحف ومن نزعة للجدل والتعقيد في التأليف. والنثر الشخصي ظل نثراً مسجوعاً لفظياً متكلفاً حتى عند أولئك الكتاب الذين نمت ثقافتهم حتى امتلكوا أفكاراً يغنيهم جمالها أو عمقها عن تزويق اللفظ كالأستاذ الإمام الذي ظل يكتب بالأسلوبين معاً، أسلوب التأليف وأسلوب الرسائل

وفي الحق إننا لا نعرف أسلوباً يتميز به الأدب الحديث بأضيق معانيه غير أسلوب القصة، فهي أكبر مظهر من مظاهر الأدب الحديث، وليس بخاف أن القصة حديثة العهد ببلادنا وهي بمجرد ظهورها أخذت تغذي السجع بمادة الفكر وتنقله من التفاهة إلى الجد، وهذا واضح في حديث عيسى بن هشام؛ فأسلوب المويلحي رغم حرصه على أوجه العبارة البلاغية لا يخلو من فكر وإحساس صادقين، وذلك لأن القصة بطبيعتها تقدم للكاتب مادة، وكل مادة تحتاج إلى العبارة عنها، فيأتي الأسلوب محملاً بتلك المادة

ومنذ أن خطا أسلوب النثر تلك الخطوة أخذ يشيع في غير القصص حتى امتد إلى المقالة أو الموضوع القصير على نحو ما نجد عند السيد توفيق البكري الذي جمع في أسلوبه بين الصنعة اللفظية وجمال الصور الخيالية وصدق الإحساس أو أصالة الرأي. ولكننا رغم كل ذلك لا نستطيع أن نقول إن النثر قد وصل عندئذ إلى ما لم يكن بد من أن يصل إليه ليجاري النثر الأوروبي فيصبح تعبيراً مباشراً عن فكر غني أو إحساس صادق ثم يتسم رغم مباشرته بصفات الأدب كعمل فني، وتلك مرحلة لم نصل إليها إلا في القرن العشرين. وليس من شك في أن السيد مصطفى لطفي المنفلوطي هو الذي خطا بنثرنا إلى تلك المرحلة الأخيرة، ومنذ ظهور هذا الكاتب العظيم لم يلبث النثر أن استحصد حتى سبق الشعر

واليوم ننظر في نثرنا فنرى تيارين كبيرين ينطوي في أثناء أحدهما المويلحي والبكري ومصطفى صادق الرافعي وأحمد حسن الزيات على اختلاف في الأمزجة وعمق التفكير أو الأحساس، ولكنهم يجتمعون معاً في خاصية واحدة، هي أنهم وإن يكونوا أبعد من أن يمثلوا في شئ اللفظية التي سادت في عصور مصر الإسلامية المتأخرة، إلا أنهم رغم ذلك يحرصون على تجويد العبارة تجويداً فنياً، ويخضعون الفكر أو الإحساس لطرق الأداء حتى ليأخذك في أدبهم جمال الصياغة قبل أصالة الموضوع، أو تحس بأن تلك الأصالة قد اضطرتهم إليها أصول الأسلوب التي ينتهجونها والتيار الثاني يبتدئ كما قلنا بالمنفلوطي، ذلك الرجل المرهف الإحساس العذب الأسلوب. ذلك الكاتب الذي غذى أجيال الشباب الناهضة أجمل الغذاء، وبلغ من التأثير في نفوسهم ما لم يكد يبلغه كاتب آخر. ولقد كان لعدم معرفة هذا الكاتب باللغات الأجنبية معرفة تعمق وإحساس، ما احتفظ لأسلوبه بالسلاسة العربية الصافية. وأما غيره من كتاب هذا التيار فلن تعدم أن تجد في أسلوبهم آثاراً واضحة للتأثر باللغات الأجنبية، وما نظننا في حاجة إلى أن ندل على ما في أسلوب كاتب كبير كطه حسين من تأثر واضح بطرق الأداء الفرنسية

وأما الشعر فقد سبق النثر - كما قلنا - إلى التحلل من سخافات الصنعة اللفظية وتفاهة المادة، وسر هذا التحرر يرجع إلى بعث الشعر العربي القديم من جهة، وإلى طبيعة هذا النوع من الأدب من جهة أخرى، فنحن نلاحظ أن البارودي قد سلك إلى تكوين مذهبه الشعري نفس المسلك الذي سلكه من قبل أبو تمام، فالشاعر العباسي قد كان دائم القراءة للشعر القديم والاختيار منه، حتى قالوا إنه قد ألف ثمانية أنواع من المختارات، ولا يزال بين أيدينا ديوان الحماسة شاهداً بأن هذا الشاعر كان أحسن اختياراً وتذوقاً للشعر منه خلقا له. وكذلك فعل البارودي، فمختاراته تضم جانباً كبيراً من خير ما خلف العرب. وشعر البارودي نفسه شديد الشبه بشعر المتنبي، كما أن شعر صبري باشا يكاد يحكي شعر البحتري، وفي هذه الحقائق ما لا يدع مجالاً للشك في أن نهضة الشعر الحديث عندنا إنما قامت على بعث القديم ومحاكاته

وموضع التساؤل هو: كيف يستطيع شعر يقوم على محاكاة القديم أن يعبر عن حياة جديدة؟

هذه المشكلة سبق أن واجهها الأدب العربي واقتتل حولها النقاد والشعراء، ففي العصر العباسي سخر أبو نواس من الدمن والأطلال وبكاء دعد وإسعاد الرفيق وإلف الناقة، وظنه تجديداً أن يخرج على تلك الأوضاع ليغازل الخمر ويداعب الغلمان ويصف القصور والحدائق. وهذه النظرية وإن تكن لها وجاهة الظاهر، إلا أنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون وجاهة سطحية، فالفن ليس بهياكله، وإنما هو بروحه وصياغته، ولا أدل على ذلك من أننا لا نزال إلى اليوم نؤمن بأن خير ما خلف العرب من شعر هو لا ريب الحنين إلى الديار، وذلك لأن هذا الحنين وإن لم يمت إلى تجاربنا الحاضرة بسبب من واقع الحياة، إلا أنه يرمز في حقيقة الأمر إلى مشاعر إنسانية عامة، لا تزال ولن تزال من أجمل ما نحمل من مشاعر، فهو يثير في النفس شعور الإلف والحنين إلى الماضي، والتعليق بالأمكنة التي لا ريب لها أرواح تعلق بأرواحنا فتحملها على المحبة. والإحساس بالأمكنة وما تحوى من ذكريات ومسرات والآم من أخصب منابع الأدب. ونحن بعد لا نحتاج إلى أن نمارس بالفعل كل التجارب التي نتحدث عنها في أدبنا، وإلا كنا فقراء الخيال. ومن يستطيع أن يزعم أن كاتباً أو شاعراً ما قد بلا بنفسه كل ما يتحدث عنه؟ وهل ننسى أن جانباً كبيراً من آداب العالم أجمع لا يمثل ما عاشه كتابه بالفعل، بل ما ودوا أن لو عاشوه؟ والواقع والخيال يرجعان بعد في الأدب الصادق إلى منبع واحد، هو القلب البشري. وأساس النجاح هو أن يستثير الكاتب فينا إحساساً حقيقياً، سواء أكان ذلك الإحساس التفاته إلى ماض عرفناه، أو تلهفاً إلى مستقبل نود أن نعرفه، أو مزيجاً منهما وإذن فعندما نسمع الشاعر الذي يقول:

ألا أيها الوادي الذي ضم سيله ... إلينا نوى ظمياء، حبيت واديا!

لا نملك إلا أن نهتز، ولو لم نر في حياتنا سيلا ولا وادياً ولا عرفنا ظمياء

والشعر القديم أمس قرباً بالروح الشعرية بحكم موضوعه وصياغته، فالطلل والناقة أحب إلى النفس من القصر والسيارة. الطلل يستثير معنى الغناء، ونحن البشر لا يحركنا معنى أكثر مما يحركنا هذا المعنى. وإن كان من نعم الله أننا ننساه أغلب الوقت، وربما كان في هذه الحقيقة ما يزيده قوة حينما يثار. والناقة حيوان أليف صبور ودود، ولا كذلك الآلة الصماء، وصياغة الشعر القديم كموضوعاته ألصق ما تكون بحقيقة الفن. الشعر الجاهلي يجمع على نحو رائع شاعرية الروح وواقعية العبارة، حتى ترى صورة مادية قريبة مأخوذة من واقع الحياة وقد خلت من كل تكلف فاسد

لقد ابتدأ البعث الشعري في بلادنا إذن بإحياء القديم، ولكن هذا الإحياء لسوء الحظ جنح إلى العصر العباسي، حتى إننا لا نزال إلى اليوم أكثر معرفة ودراسة لأدب ذلك العصر منا للأدب الجاهلي والأموي، وذلك فيما يبدو لسهولة الأدب العباسي ومشقة الأدب القديم، ثم لأننا فيما أعتقد لم نصل بعد من النضوج الفني إلى حيث نؤمن بتلك الحقيقة الكبيرة التي قال بها من قبل الرجل الصادق الذوق السيد المرصفي من أن خير الأدب العربي الجاهلي والأموي.

ونحن نعتقد أن الإمعان في دراسة ذلك الأدب الجاهلي وتذوقه هو الوسيلة الوحيدة للخطو بشعرنا التقليدي خطوة جديدة أو على الأقل لصيانته من أن ينقرض أمام تيار الشعر الحديث المستمد من الأدب الغربي

هذه هي مظاهر البعث الأدبي في مصر المعاصرة أجملناها، وبقى أن ننظر في النقل عن أوربا، وكيف أثر هذا النقل فيما بعثنا من تراث، وكيف تفاعل معه ليخلق نوعا جديداً من الحياة الثقافية نخشى أن يكون جانب كبير منها مفتعلا، ولكننا نرجئ تفصيل ذلك إلى المقال الآتي

محمد مندور